لقد علمتنا الكاتبة الشهيرة كيف نفكر في المستقبل من خلال التأمل في عجائب الحاضر. فماذا عن المستقبل لدى أورسولا لو غوين؟
غالباً ما يكون الخلط بين الخيال العلمي والتنبؤ بالمستقبل أمراً خاطئاً، على الرغم من أننا نبالغ أحياناً في محاولة فعل ذلك. يقول لورانس كراوس، في ملاحظته المحقّة حول مؤلفي الخيال العلمي: "إن مهمة مؤلفي الخيال العلمي، ليست التنبؤ بالمستقبل، ولكن محاولة تصورّه بناء على الاتجاهات الحالية". ومع ذلك، ما زلنا نميل إلى التركيز على الأمور التي نجحوا فيها، وغالباً مع تمنياتنا لهم بالنجاح في ذلك، لأننا نحلم بأن أفكارهم قد تساعدنا في جعل العالم أفضل حالاً.
تنبؤات أورسولا لو غوين
على حد علمي، لم تدْعُ أورسولا لو غوين، التي توفيت في 22 يناير/ كانون الثاني 2018 عن عمر ناهز الـ88، مطلقاً إلى مثل هذه المقارنات التنبؤية. إذ إنها كما هو حال العديد من أقرانها من المؤلفين الأدبيين، استثمرت جهدها بدلاً من ذلك في استنطاق عصرنا المتغير بوتيرة عالية، ولا سيما عندما رسمت أزماناً مستقبلية لم تأت بعد.
ومع ذلك، قدمت لو غوين تنبؤاً واحداً في كتابها الذي صدر عام 2017 "لا وقت لدينا" (No Time to Spare)، وهو مجموعة من المقالات كُتبت في الأصل لمدونتها على مدار العقد الماضي. ولقد تحقق هذا التنبؤ مع شديد الأسف حالياً. إذ إنها في هذه المقالة التي نُشرت أصلاً عام 2011، نجدها تتأمل في ملذات البيض المسلوق، "صعوبة تناوله، والاهتمام الذي يتطلبه، وطقوس إعداده". لكننا نجدها في الفقرة الأخيرة تحوّل انتباهها إلى المسائل العملية حقاً، فإذا بها تناقش قرار الهيئة التشريعية في ولاية أوريغون الذي كان حديثاً آنذاك بحظر حاضنات الدواجن. وأشارت إلى أن قانون الحظر هذا لن يدخل حيز التنفيذ حتى عام 2024، وخلصت إلى الخاتمة التالية: "لن أعيش حتى أرى الطيور تتحرر".
وهي بالفعل لم تعش لترى ذلك، مع أن ذلك كان أمراً وارد الحدوث. لو غوين التي كانت ستصبح في الـ 95 من عمرها لو كُتبت لها الحياة لعام 2024، لكنها عاشت طويلاً بما فيه الكفاية لتفهم أن التاريخ -التاريخ الشخصي على وجه التحديد- يمكن أن يكون قفصاً من نوع آخر. لقد كتبت مطولاً في "لا وقت لدينا" عن انحدارها الشخصي إلى بلوغ العجز الجسدي، رافضةً العبارات التقليدية المريحة من خلال تحذيرها الصريح: "كلما كانت الحياة أطول، زادت مدة الشيخوخة فيها". ولعل هذا هو المعنى الحقيقي لمواجهة المستقبل بصراحة: عندما ننظر إلى الوراء، نعي أن الماضي هو آلة الزمن الوحيدة لدينا، وهي التي تقلّنا إلى المكان الذي نجد أنفسنا فيه اليوم.
تنطبق الفكرة ذاتها على روايات لو غوين. يقول زوي كاربنتر في ملف رصد عام 2016: "بالنسبة إلى لو غوين، كان المكان الآخر دائماً عدسةَ تضخيمِ مظاهر زماننا ومكاننا، بما في ذلك النزعة العسكرية والتحيز الجنسي والحكم والبيئة". نجد في كتابات لو غوين أن المستقبل الأكثر حيوية -وأحياناً الأكثر فتكاً أيضاً- هو دائماً المستقبل الذي صنعناه بأيدينا، وهو ليس "ماضٍ" أو "زمناً قادماً"، ولكنه "الحاضر" المخيف المتكرر الصدى. وهي تقول في مقال نُشر في الأصل عام 2010: "في الواقع، أنا لا أملك أي توقعات على الإطلاق، لدي آمال ومخاوف. وهي في الغالب المخاوف السائدة هذه الأيام". كانت آنذاك تناقش استبياناً تلقته من "جامعة هارفارد"، قبيل اجتماع لمّ الشمل الستين لكليّتها التي درست فيها، حيث طُلب منها النظر فيما إذا كان أحفادها قد ارتقوا إلى مستوى "توقعاتها". لقد اعترضت عند هذا السؤال، متعللة بدلاً من ذلك بأن رؤيتها للمستقبل كانت "مظلمة"، وذلك ليس فقط لأن مصير الأجيال القادمة قاتم على الأرجح. بل كانت مظلمة أيضاً من حيث إنها "مسدودة الأفق"، بمعنى مغطاة بغطاءِ الحاضر الغامر.
تأطير الفكر المستقبلي
نحن نميل إلى تأطير الفكر المستقبلي، كما يقول لي إدلمان، الناقد والفيلسوف، وكأنه حلم نرجوه أن يكون متكرر الحدوث، أي يجب أن يكون المستقبل نسخة من الأمس. ويصبح الأطفال في هذا النموذج أوعية لتأطيرنا بحيث تأبى على التجديد، فتمسي أدوات لإعادة إنتاج عالمنا كما نحن الآن عوضاً عن خلق عالم جديد. ونجد لو غوين في كتاباتها الخاصة عن الأطفال تجفل من هذا الاتجاه الثقافي وتسعى إلى رفضه بأسلوب معقد. إذ إنها رفضت الفرضية -التي ينسبها إليها البعض أحياناً خطأً – والتي تصوّر الأطفال على أنهم ينابيع فريدة من الحكمة. وفي الوقت نفسه، نجدها تقرّ بأنهم يدفعون بنا إلى الأمام، مع نتائج غير محسومة على الدوام. وتقول: "في مجتمعنا الذي يغوص أكثر فأكثر في عدم الاستقرار، متجهاً نحو المستقبل، تقوده التكنولوجيا، غالباً ما يكشف لنا الصغار معالم الطريق وعلى هذا النحو يعلّمون الأكبر منهم سناً ما يجب القيام به. لتحلّ اللعنة على الصغار الذين يُنظر إليهم على أنهم غريبو الأطوار إذا كانوا سيتملقون الأغبياء الأكبر منهم سناً، والعكس بالعكس".
لم تكن أعمال لو غوين التي عالجت مثل هذه التأملات من خلال دراسة العلاقات المتداخلة بين الأجيال، من وجهة نظرها، محاولةً لتوضيح موقع الصراع. بل كانت بدلاً من ذلك، طريقتها للمطالبة بالاعتراف بأننا نتعامل مع حتمية الاختلاف. لم تنظر لو غوين إلى المستقبل على أنه وجهة نريد الوصول إليها، ولكن باعتباره لقاء غير متوقع، والأهم من كل شيء أنه لقاء غير متوقع مع ما يختلف عنا. وبما أن آليات الزمن تواصل تقدمها بلا هوادة فهي بلا شك تُذهلنا، تجعلنا متسمّرين في مكاننا، ما يعزلنا عن العالم الذي ظننا أننا نفهمه، ويذكّرنا في خضمّ هذه العملية بأننا غرباء أيضاً.
فكر في القصة التي ترويها عن رؤيتها لثعبان مجلجل في أثناء زيارتها لـ "مزرعة قديمة في وادي نابا". لقد سمعت فحيح الثعبان "التواصل الأول" ثم تجمّد هذا الكائن في مكانه، مُرهِفاً كل حواسه لمراقبة حركة لو غوين استجابة لصوت الفحيح. ولكنه في الوقت ذاته لم يُبدِ أي استجابة عندما صرخت لزوجها، ما ذكّرها بأن "حاسة السمع" لديه تختلف عما هي عليه لدينا، بحيث إنه لا يختبر فحيحه إلا من خلال الاهتزاز في جسده".
من أجل البقاء، لا بد لهذين الكائنين - لو غوين والثعبان – من التفاوض على الفرق الجسدي بينهما، ولكنهما لا يستطيعان فعل ذلك إلا وفقاً لشروطهما الخاصة. وينطبق الشيء نفسه على السنّور البري الذي أحبته في "بيند (Bend)، متحف الصحراء العليا في ولاية أوريغون، في مقال آخر. وتقول: "إن عزلته عن بيئته الطبيعية البرية المعقدة أمر مؤلم وغير طبيعي، ولكن انعزاله ووحدته هي جوهرُ طبيعته الخاصة. وهو يحافظ على هذه الطبيعة، ويظهرها بيننا دون تغيير. إنه يمنحنا هدية عزلته غير القابلة للتدمير".
يختتم السطر السابق مقالتها عن السنور البري. تتمتع لو غوين مثل جيمس جويس، الذي لم يكن يعجبها، بموهبة صياغة نهايات تحوي كشفاً ينير ضوءاً مفاجئاً في أذهان القراء. النهايات الجيدة، كما أظهرت لنا، ليست شواهد قبور تشير إلى ما مضى، بل هي بدايات لما قد يأتي مستقبلاً. هذا هو السبب الذي يجعل الحاضر يدخل في ظل المستقبل دائماً عندما ندرسه عن كثب -سواء تمّ ذلك من خلال حقيقةِ الشيخوخة العنيدة التي لا تعرف المساومة أو نظرة الثعبان الثاقبة– لأن الحاضر يجعلنا نرى أن اللحظة الحالية هي دائماً مختلفة عما كانت عليه في الماضي وما كنا نعرفه.
وفي نهاية الحديث عن المستقبل لدى أورسولا لو غوين، كانت هذه هدية لو غوين التي منحتها لنا في كل من أعمالها الأدبية وغير الأدبية. ولأنها نشأت على أيدي متخصصين في علم الأنثروبولوجيا، فقد علّمتنا أنه يمكننا التواصل مع الآخرين المختلفين عنا، حتى عندما تجعل الفضاءات الفاصلة -من علم الأحياء، والزمان، والمكان، سواء حرفياً أو مجازياً– هذا الاتصال يبدو أمراً مستحيلاً. لقد فهمتْ ذلك لأنها أدركت أن المستقبل سيجعلنا دائماً غرباء عن أنفسنا. فكما علّمتنا: الغرباء نحن بالفعل.