يحفل الكفاح من أجل تحقيق المساواة بين الجنسين في مكان العمل بتاريخ طويل من رفع الدعاوى القضائية، ولننظر إلى القطاع المالي على سبيل المثال، ففي أواخر التسعينيات من القرن الماضي لجأت أعداد كبيرة من النساء العاملات في القطاع المالي إلى رفع دعاوى قضائية جماعية ضد جهات التوظيف بعد أن ضقن ذرعاً بالثقافات القائمة على التحيز ضد المرأة، والتحرش، وبيئات العمل المسمومة، مثل قضية "بوم – بوم رووم" الشهيرة التي كانت مرفوعة ضد شركة "سميث بارني" (Smith Barney)، بالإضافة إلى دعاوى التحيز الجنسي والعرقي المرفوعة ضد شركة "ميريل لينش"، وبنك "مورغان ستانلي"، وغيرهما من عمالقة وول ستريت.
وخلال السنوات التي أعقبت ذلك، شهد القطاع المالي تحسناً ملحوظاً في معدلات تمثيل المرأة والأقليات على الرغم من استمرار هيمنة الرجال ذوي البشرة البيضاء عليه، ففي مجال البنوك الاستثمارية على سبيل المثال ارتفعت نسبة تمثيل المرأة في الإدارة من 28.7% في عام 1995 إلى 32.6% في عام 2000، كما ارتفعت نسبة تمثيل الأقليات من 12.6% إلى 14.3%.
لكنّ بضعاً من قصص التغيير لا تعني بالضرورة أن التقاضي بشكل عام وسيلة فاعلة لمحاربة التحرش والتحيز في الشركات، فوفقاً لأغلب التقارير فقد تراجعت مكتسبات التنوع خلال العقد الماضي، ولا تزال الشركات المرموقة تدفع غرامات مالية جراء ممارسة التمييز، فقد دفعت الشركات المدرجة في قائمة "فورتشن 500" وحدها ما يقرب من ملياري دولار (كعقوبات عن الجرائم التي كُشف عنها النقاب) منذ عام 2000، مع معاودة الجناة ارتكاب الأفعال ذاتها. وقد تناول بحثي، الذي أجريته مؤخراً مع يونجشو تشا، ونُشر في "مجلة علم الاجتماع الأميركية" (American Journal of Sociology)، ما إذا كان مثل هذه الدعاوى القضائية تسهم في تحقيق المساواة بين الجنسين وبين مختلف الأعراق، خاصةً عندما تكون مصحوبة بضغوط السوق، والتغطية الإعلامية، وتغيير السياسات المقررة.
تأثير الأحكام القضائية على التنوع الجنسي والعرقي في الشركات
في إطار تحليلنا لـ 171 دعوى قضائية بارزة رُفعت ضد شركات خاصة في الفترة من عام 1997 إلى عام 2008، درسنا مدى تأثير الأحكام القضائية وما تبعها من تسويات في مستويات التنوع الجنسي والعرقي في إدارة هذه الشركات، إذ أردنا على وجه التحديد معرفة ما إذا كانت الدعاوى القضائية تؤدي إلى تحقيق مكاسب ملموسة في التنوع الإداري أم لا، وبالاستعانة بالنماذج الإحصائية حصرنا أثر الدعاوى القضائية على نسب النساء ذوات البشرة البيضاء، والنساء ذوات البشرة السمراء، والرجال ذوي البشرة السمراء في الإدارة، من خلال مقارنة أعدادهم في العام الذي سبق رفع الدعوى القضائية بأعدادهم في الأعوام الثلاثة التي تلتها، وركزنا على النساء ذوات البشرة البيضاء، والنساء ذوات البشرة السمراء، والرجال ذوي البشرة السمراء، لأن أعداد الرجال والنساء الأميركيين المنحدرين من أصل لاتيني وآسيوي كانت للأسف، وكما هو متوقع، ضئيلة للغاية وغير صالحة لأن تمدنا بنتائج دقيقة، كما ركز تحليلنا على جميع المصادر الأخرى التي رصدت التغيرات التي كانت تحدث من عام لآخر في التنوع الإداري في كل شركة واقتصادها المحلي.
اقرأ أيضاً: بعد أتمتة الوظائف.. هل سيتأثر الرجل والمرأة بالقدر نفسه؟
ووجدنا بوجه عام أن الدعاوى القضائية كانت لها آثار تعزز المساواة: فبغض النظر عما إذا كانت تنطوي على التمييز بسبب الجنس أو العرق أو اللون أو الأصل القومي، كان رفع دعوى التمييز يؤدي إلى تحقيق مكاسب ملموسة في التمثيل الإداري للمجموعات الثلاث التي تناولناها بالدراسة، ففي الأعوام الثلاثة التي تلي صدور حكم في الدعوى القضائية، زاد متوسط نسبة النساء ذوات البشرة البيضاء من 18.7% إلى 21.8%، ومتوسط نسبة النساء ذوات البشرة السمراء من 2.1% إلى 2.3%، ومتوسط نسبة الرجال ذوي البشرة السمراء من 3% إلى 3.4%، وعلى الرغم من ضآلة هذه التغييرات من حيث الأرقام المطلقة، فإنها تشير إلى أن النساء ذوات البشرة السمراء حصلن على مكاسب بنسبة 10% وأن الرجال ذوي البشرة السمراء حصلوا على مكاسب بنسبة 13%، والتي تعد مكاسب ذات مغزى كبير نظراً لضعف تمثيل هذه المجموعات في الإدارة. كانت كل هذه التغييرات تحمل دلالات إحصائية، ما يعني أنها ليست من قبيل المصادفة، بل لا يمكن عزوها سوى إلى الدعاوى القضائية، وليس إلى أي أمور أخرى قد تحدث في الشركة أو الاقتصاد.
الأمور المؤثرة في إصدار الأحكام القضائية
ولكن الظروف التي صدرت فيها الأحكام كانت ذات أهمية كبيرة للغاية، فقد وجدنا أن أثر الدعاوى القضائية قد تفاوت تبعاً لما إذا كان الأمر قد نمى إلى علم المساهمين أو وسائل الإعلام الوطنية، وما إذا كانت الأحكام قد نصت على فرض غرامات مالية أو فرض ضغوط إضافية للتغيير بما في ذلك تغيير السياسات المقررة.
رد فعل المساهمين ووسائل الإعلام.
بما أن جميع الدعاوى القضائية التي درسناها شملت شركات عمومية، فقد استطعنا قياس كيفية استجابة الأسواق لهذه الدعاوى، ومن باب التوضيح لا يحب المساهمون التقاضي بسبب التمييز، ففي بحثنا السابق الذي يتناول هذا الموضوع وجدت أنا وتشا أن أسعار أسهم إحدى الشركات المدعى عليها انخفضت بما يقرب من نقطة مئوية واحدة في المتوسط خلال الـ11 يوماً التي تضمنت الإعلان عن القرار في الدعوى المرفوعة.
والأدهى من ذلك أنه عند دراسة آثار التقاضي على مستوى التنوع الإداري، وجدنا أن الشركات تلجأ إلى رفع معدلات التنوع، عندما تؤدي الدعاوى القضائية إلى انخفاض عائدات الأسهم، مقارنة بالدعاوى القضائية التي لا تسفر عن انخفاض أسعار الأسهم، كما أن مكاسب التنوع الإداري كانت أكبر عندما جاءت أحكام الدعاوى القضائية مصحوبة بانخفاض في أسعار الأسهم وتغطية إعلامية من وسائل الإعلام الوطنية. (كان مقياسنا لتغطية وسائل الإعلام الوطنية هو الأخبار المنشورة في صحيفة نيويورك تايمز). والسبب في ذلك بسيط: هو أن القيمة المضافة لحاملي الأسهم والصورة الذهنية للشركة من الأهمية بمكان، فعندما تنخفض أسعار الأسهم وتتداول وسائل الإعلام القضية، تستجيب الشركات باتخاذ تدابير من شأنها تعزيز التنوع الإداري. وعلى الجانب الآخر، إذا لم تلفت الدعاوى القضائية أنظار المساهمين ولا وسائل الإعلام، فسيشعر قادة الشركات بضغط أقل تجاه اتخاذ إجراء بشأن التنوع الإداري.
تغيير السياسة المتبعة.
كانت الدعاوى القضائية أكثر فاعلية في تحقيق مكاسب بشأن التنوع الإداري أيضاً عندما كانت الأحكام تنطوي على وجوب تغيير السياسة المتبعة، ولكن تغييرات السياسة ليست كلها متساوية، فقد كان إلزام الشركة بتبني سياسات "رمزية" –مثل تنظيم دورات تدريبية بشأن موضوع التنوع أو نشر ملاحظات بخصوص الممارسات المتبعة لتحقيق التكافؤ في فرص العمل وحقوق الموظفين القانونية- ذا أثر ضعيف على النتائج الخاصة بالتنوع، حتى إنه أدى في بعض الحالات إلى انخفاض مستوى التنوع، وهذا ليس بمستغرب، لأن هذه السياسات –على الرغم من أنها توضع بحسن نية– تفشل في اقتلاع أشكال التحيز المترسخة.
ومع ذلك عندما تلزم الأحكام القضائية الشركات بتطوير أهداف التنوع الخاصة بها بحيث تعيّن وترقّي المزيد من النساء والأقليات وبإسناد مسؤولية تحقيق هذه الأهداف للمسؤولين التنفيذيين أو مدراء الوحدات، تكون مكتسبات التنوع الإداري أكبر مما لو لم تلزم الأحكام القضائية بمثل هذه التغييرات في السياسة أو لو لم تلزمها سوى ببعض السياسات "الرمزية" فقط مثل تنظيم دورات تدريبية بشأن التنوع. جدير بالذكر أن هذه المكتسبات الكبرى استمرت لما يصل إلى خمس سنوات بعد رفع الدعوى القضائية (وهي المدة التي تتبّع فيها بحثنا هذه المكتسبات). وفي دراسة ذات صلة لما يقرب من 500 حكم قضائي، وجدنا أن مراقبة تنفيذ الحكم الصادر في الدعوى بعد صدوره أمر مهم للغاية، فعندما راقب المحامون أو مسؤولو الموارد البشرية أو لجنة تكافؤ فرص العمل مستويات التنوع في الشركة في فترة ما بعد صدور الحكم القضائي، تحسنت هذه المستويات وازدادت تحسناً.
الغرامات المالية.
ماذا عن التسويات التي تكلف ملايين الدولارات؟ يشير منطق التعويضات الأدبية إلى أنه كلما كان مبلغ الغرامة أكبر، كان الأثر أبلغ، ولكن على النقيض من ذلك، فقد أظهر بحثنا أن فرض تسويات بقيمة نصف مليون دولار أو أكثر، جعل الشركات تقلل من أعداد النساء ذوات البشرة البيضاء، والنساء ذوات البشرة السمراء، والرجال ذوي البشرة السمراء في الإدارة خلال الأعوام الثلاثة التي تلت رفع القضية، مقارنةً بالشركات التي واجهت دعاوى قضائية ألزمتها بدفع غرامات مالية أقل أو لم تفرض عليها أية عقوبات مالية، وتتوافق هذه النتيجة مع البحث المؤسسي الذي أثبت أن المثيرات السلبية لا تشجع بالضرورة الشركات على التعلم، فقد تتصدر هذه الغرامات المكلفة عناوين الصحف، ولكنها قد تدفع قادة الشركات إلى اتخاذ موقف دفاعي، فينتقمون من تلك المجموعات التي رفعت الدعاوى، ويتجنبون تعيين أية موظفين منهم كاستراتيجية لتجنب مواجهة الدعاوى القضائية. وبما أن التسويات المالية لا تنطوي عادة على الاعتراف بارتكاب الأخطاء، فإن المدعى عليهم يخرجون من هذه القضايا دون الإقرار بأن ما ارتكبوه كان شكلاً من أشكال التمييز، وقد يضيق الموظفون من النساء والأقليات ذرعاً بتلك الشركات العنيدة ويستقيلون منها، فعندما تُوقع الغرامة، لا تهتم الشركات سوى بدفعها، ثم تواصل سياستها المتبعة، ولا تلقي بالاً بالقضاء على ممارسات التحيز في مكان العمل.
في أعقاب تدشين هذه الوسوم #MeToo و#TimesUp و#BlackLivesMatter وغيرها من الحملات المناهضة للتمييز العنصري في الأوساط التجارية، صارت قضايا التحيز ضد المرأة والتمييز العرقي محور اهتمام الجميع، وقد حظيت بالاهتمام في عالم الشركات، فالعديد من الشركات المرموقة تلفظ مرتكبي هذه التصرفات العنصرية، وتعيد النظر في مستوى التنوع لديها وفي سياساتها بشأن معالجة شكاوى التحيز.
وأما بالنسبة إلى الشركات التي تتعامل مع شكاوى التمييز وتهتم باتباع منهج يستند إلى الأدلة من أجل معالجة التمييز، سواء في أعقاب رفع دعوى قضائية أو عموماً، فكل ما عليها فعله هو: وضع أهداف لتحقيق التنوع والمساواة في العمل بين الرجل والمرأة، وإخضاع الموظفين للمساءلة بشأن هذا الأمر، ورصد التقدم المُحرز تجاههم.
اقرأ أيضاً: