لا تُعرف شركة جانا بارتنرز (Jana Partners)، الناشطة في الاستثمار، كشركة تهتم بغيرها. ومع ذلك، انضمت في بداية العام إلى نظام التقاعد الخاص بمعلمي ولاية كاليفورنيا الأميركية لإرسال رسالة إلى مجلس إدارة شركة آبل تحذر فيها من آثار أجهزة الآبل على الأطفال. وفي يناير/كانون الثاني من هذا العام، أرسل لاري فينك، الرئيس التنفيذي لشركة بلاك روك (Blackrock)، رسالة تخبر الشركات بأنّ مؤسسته ستأخذ بعين الاعتبار موضوع المسؤولية الاجتماعية عند القيام بالاستثمارات. وأخبر مارك زوكربيرغ المستثمرين أنّ موقع فيسبوك سيقوم بإجراء تغييرات على برنامجه، ما سيساعد المستخدمين على المدى الطويل، على الرغم من أنه حذّر من أنّ النتيجة على المدى القصير هي قيام المستخدمين بقضاء وقت أقل على الموقع.
نحن نشهد لحظة انتقالية كبيرة شبيهة بالانتقال من التناظرية إلى الرقمية، أو إدراك أنّ العولمة هي أمر مهم جداً. بدأت الشركات تدرك أنّ التركيز على أهداف المدى الطويل، وعلى مدركات شركتهم والعواقب الاجتماعية لمنتجاتهم، هو عمل جيد.
لا يأتي هذا الإدراك في لحظة سريعة. يحتاج العالم بشدة إلى نموذج رأسمالي أكثر استدامة، من أجل بناء مجتمع أكثر شمولاً وازدهاراً، وتجنب حدوث تغير مناخي كارثي. بالطبع، هذا ما يقوله الكثيرون منا منذ فترة -أننا بحاجة إلى التفكير أكثر بشأن المدى البعيد، والنظر في السياق الاجتماعي، وإدخال الاستدامة إلى الأعمال التجارية. (تكلّم فينك عن المدى الطويل لسنوات، مستحقاً الثناء على هذا). إذاً، السؤال هو: لماذا الآن؟ لماذا يتزايد عدد اللاعبين الرئيسيين الذين يأخذون هذا الأمر بجدية؟
يتبادر إلى ذهني إجابتين أثناء نقاشاتي مع المدراء التنفيذيين وأثناء تعليمي في كلية إدارة الأعمال بجامعة هارفارد. الإجابة الأولى، تتمثّل في الدور المتزايد لجيل الألفية في القوى العاملة. يركز طلابي اليوم على تأثير النشاط التجاري على البيئة أو المجتمع بأكمله، والإصرار على أنّ الشركات لديها مهمة اجتماعية إيجابية. الإجابة الثانية، هي انخفاض ثقة المدراء التنفيذيين بقيام الحكومة بالتدخل وإصلاح بعض من أكبر مشاكلنا، من تغير المناخ إلى عدم المساواة. (يُظهر هذا الانخفاض وجود انخفاض لدى المجتمع السكّاني الواسع أيضاً). وجدت هاتان الفكرتان قبل أن يصبح ترامب رئيساً، لكن انتخابه كرئيس سرعان ما أدى إلى توسع الفكرتين بسرعة.
ومع ذلك، يبقى السؤال الأساسي حول الأعمال المستدامة: هو كيف يمكن للشركات سد الفجوة بين مصلحتها الذاتية الواضحة والاحتياجات الأكبر للمجتمع. إذا قررت الشركة القيام بالشيء الصحيح، ألن يستفيد منافسوها من هذا؟ هذا السؤال لا يزال سؤالاً شائكاً. يُعتبر القيام بإدارة شركة ما والمثابرة في تأمين رواتب ثابتة كأمر مجهد. أقول لطلابي بشأن هذا الموضوع، القاعدة الأولى هي: لا تحطموا شركتكم. لا يمكننا أن نتوقع من المدراء التركيز في المقام الأول على أمر غير بناء شركة مزدهرة ومربحة.
ومع ذلك، يوجد إدراك يتزايد بأنّ مصالح الشركات ومصالح المجتمع على المدى الطويل أو حتى على المدى المتوسط، هي أكثر ترابطاً مما كان يعتقد الكثير من الناس. تحقق الشركات المسؤولة اجتماعياً وبيئياً، في بعض الصناعات وعند بعض الظروف، أرباحاً مشابهة لأرباح منافسيها التقليديين وأحياناً أكثر، وهناك بعض الأدلة التي تشير إلى أنّ التركيز على المدى الطويل يؤتي ثماره. علاوة على ذلك، يهتم العديد من المساهمين بما هو أكثر من الأرباح قصيرة المدى.
ولكن هناك سبب آخر لكل ما يحدث الآن، سبب يمثل جانباً إيجابياً ضمن اتجاه أكثر إثارة للقلق. ليس من قبيل المصادفة أنّ الشركات التي ذكرتها أعلاه هي آبل وفيسبوك وبلاك روك. تُعتبر آبل كشركة قوية للغاية، ويمكن لخطوتها الفعلية أن تطلق أجندة صناعة كاملة. إذا قام مطور فردي بإنشاء تطبيق أفضل للأطفال، فقد يجذب مشروعه المعنيين، أو قد لا يجذبهم؛ ولكن إذا جعلت آبل هذه الحالة كأولوية لها، فسيتم تغيير النظام الإيكولوجي بالكامل. وينطبق الأمر نفسه على موقع فيسبوك. يمتلك موقع فيسبوك حصة كبيرة من السوق، إذ عندما تحصل مشكلة متعلقة بالأخبار الزائفة تصبح المشكلة مشكلة هذا الموقع بالشكل الأكبر. كما أنّ شركة بلاك روك هي شركة تمويل ضخمة أيضاً، حيث يسيطر فيها عدد قليل من اللاعبين الكبار.
تواجه الشركات الكبيرة حوافزاً مختلفة لبعض الأسباب. تُعد هذه الشركات أقل عرضة لضغوط تنافسية ربع سنوية، بحسب مدى قوتها في الأسواق. ويعني هذا أنه من الأسهل عليهم التركيز على المدى الطويل. وإلى حد ما، يمتلكون فرصة استخدام قوة السوق تلك لتحقيق أهداف اجتماعية، خاصة إذا ضغط عليهم مستثمروهم أو موظفوهم للقيام بذلك.
يمكن للشركات الكبيرة أيضاً استيعاب بعض العوامل الخارجية. وتمثل العوامل الخارجية التكاليف الصادرة عن معاملة لا تقع على عاتق المشتري ولا على عاتق البائع. إذا قمت بتلويث الهواء لإنتاج منتج أبيعه لك، فإنّ تكلفة هذا التلوث تنتشر لتصبح على عاتق المجتمع كله، ولا يتم تضمينها في السعر الذي أطلبه منك مقابل المنتج. تثير العوامل الخارجية المشاكل للأسواق، فلا المشتري ولا البائع يمتلكان أي حافز للتعامل مع هذه التكاليف. لكن في بعض الأحيان، تجري الأمور بشكل مختلف بالنسبة للشركات الكبيرة.
وتوضح قصة عن هنري فورد، (ملفقة إلى حد ما)، هذا المبدأ. أحد الأمثلة على العوامل الخارجية هي عندما تدفع الشركات لعمالها رواتب قليلة جداً. ليس بالضرورة أن تتحمل الشركة التكلفة الكاملة من القيام بذلك (على الرغم من أنها قد تتحمل بعض التكلفة)، ولا حتى عملاء الشركة. من ناحية أخرى، قد يدفع المجتمع التكاليف الكبيرة. من أحد الأسباب التي قد تجعل الاقتصاد بأكمله يعاني، هي عدم امتلاك العمال للمال اللازم للإنفاق. افترض فورد أنه سيحسّن الوضع إذا قام بزيادة الأجور في مصانعه بشكل جزئي، لأنه يعتقد أنه لو امتلك عماله المزيد من المال في جيوبهم، فإنهم سيشترون المزيد من سيارات فورد. إذا كنت تفترض أنّ فورد يعتقد أنّ حركته هذه لوحدها كانت كافية لزيادة الطلب الكلي على السيارات، فخذ بعين الاعتبار أنّ قصة فورد ليست بقصة منطقية.
ولكن إذا فكّرت بدلاً من ذلك بأنه كان يشير إلى منافسيه أنه إذا قام جميعهم بالتحرّك فلن يكون أيا منهم في وضع سيء، وأنّ الطلب الكلي على الصناعة سيزداد، فيُمكن أن يُستخدم المبدأ هذا بسياقات أخرى من قِبل بعض عمالقة يومنا الحالي. (وبالطبع، هناك بعض الأدلة على أنه كان يأمل أيضاً تقليل معدل دوران رأس المال، وهو ما يتفق تماماً مع فكرة أنّ الشركات التي تتعامل مع هذا المشكلة تبحث عن الفوز على المدى القصير وفي الوقت نفسه تبحث عن تغييرات طويلة الأجل).
خذ بعين الاعتبار موقع فيسبوك والأخبار. إذا قمت بتسجيل الدخول إلى فيسبوك، وقرأت بعض الأخبار المزيفة، ثم أخبرت العديد من أصدقائك لاحقاً بما قرأته، سيصبح هناك عوامل خارجية سلبية واضحة. لم يتم حساب تكلفة إسماعك لأصدقائك تلك الأخبار المزيفة من ضمن هذا التفاعل بينك وبين الموقع. ولكن ماذا لو قمت بمشاركة الأخبار المزيفة على الموقع نفسه بدلاً من إخبار أصدقائك شخصياً؟ لا يزال هناك تكاليف لتلك الأخبار المزيفة التي أصبحت من العوامل الخارجية. ومع ذلك، كلما ازدادت عملية مشاركة هذا النقاش على الموقع، زاد وجوب تحمل فيسبوك لتلك التكلفة. تعطي هذه الديناميكية بشكل متزايد حافزاً كبيراً لموقع فيسبوك لكي يقوم باتخاذ بعض الإجراءات.
هذه ليست حجة للاحتكار. هناك بحث جدير بالاعتبار يشير إلى أنّ الاقتصاد الأميركي مركّز بشدّة، وأنا عن نفسي أؤيد التنفيذ الصارم لقوانين مكافحة الاحتكار. ومع ذلك، أعتقد أنه يجب علينا تشجيع جدول أعمال الاستدامة بأقصى قدرتنا، وحيثما استطعنا. وفي الوقت الحالي، نحن في وقت تستيقظ فيه الشركات الكبرى على قضية الأعمال التجارية من أجل المسؤولية الاجتماعية، وعلى الحكمة المتمثلة في اتخاذ نظرة بعيدة المدى. هناك أسباب وجيهة لكون الشركات الكبيرة رائدة في مجال الاستدامة، فمن خلال ذلك تستطيع تغيير معايير الصناعات بأكملها. ويمكن لكبار الباعة وشركات النسيج أن تجعل سلاسل التوريد أفضل وأكثر أماناً وأقل فساداً. وعلى الرغم من أنّ هذا النوع من التنظيم الذاتي نادراً ما يكون كافياً، إلا أنه يمكن أن يؤدي إلى إنشاء القاعدة الأساسية للتغير المنهجي.
نحن نحتاج إلى المزيد من الشركات الكبرى التي تلتزم بالطاقة المتجددة والضغط من أجل الحصول على تشريع يفرض التكلفة الحقيقية لحرق الوقود الأحفوري على مشترين الوقود الأحفوري. كما نحتاج إلى المزيد من الشركات الكبرى التي تلتزم بدفع أكثر من الحد الأدنى للأجور وتقوم بالضغط من أجل الحصول على تشريع الحد الأدنى للأجور؛ وتلتزم بالقول أنها لن تقوم برمي المخلفات في النهر، أو لن تقوم بالشراء من أولئك الذين يفعلون ذلك؛ وتلتزم بالإصرار على عدم إفساد السلطات المحلية في العالم النامي؛ وتظهر أنها تستطيع أن تكون مشروعاً ناجحاً ليس فقط على الرغم من هذه الالتزامات ولكن بسببها. تمثل إيرادات الشركات الـ500 الأولى ما يقارب 37% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. ماذا قد يحدث إذا تمكنت من إقناع 100 شركة من هذه الشركات بالالتزام بالقيام بمشاريع خالية من الكربون، واتخاذ وجهة نظر أقل ظلماً بشأن قوتهم العاملة؟
هذا السيناريو ليس من المرجح أن يحدث. كما أنه ليس بديلاً عن سياسة عامة جيدة وحكم ديمقراطي سليم. لكن حصوله أكثر ترجيحاً مما كان عليه قبل بضع سنوات. وهذا السيناريو هو البداية.