هل يمكن أن تقود ساعات العمل المرنة إلى الاحتراق الوظيفي؟

12 دقيقة
المرونة في العمل
رسم توضيحي لجينيفر تابياس ديرتش

نظرياً، كان أداء شهاب في العمل جيداً؛ في بداية مسيرته المهنية، بذل جهداً كبيراً وتقدم إلى مستوى شريك في الشركة. والآن، بصفته واحداً من كبار القادة في مؤسسته، أصبح قادراً على تحديد ساعات عمله بحرية، واختار الاستفادة من هذه المرونة لقضاء الوقت مع زوجته وأطفاله.

بالنسبة لشهاب، كان ذلك يعني اصطحاب الأطفال إلى الحضانة في الصباح، ومحاولة إنهاء العمل بحلول الساعة 4 مساء ليقضي معهم الوقت قبل العشاء، وبدء العمل متأخراً في صباح أحد الأيام في الأسبوع حتى يتمكن من مرافقتهم إلى درس السباحة.

لكن الاستفادة من هذه المرونة لمصلحة أسرته مع السعي في الوقت نفسه إلى التميز في العمل دفعه إلى إكمال العمل في منتصف الليل بعد أن يخلد الجميع إلى النوم. كان شهاب يضبط المنبه على الساعة 4:30 صباحاً ليمارس التمرينات الرياضية قبل استيقاظ أطفاله (ولم يلتزم بها إلا نادراً).

أراد شهاب أن يكون زوجاً وأباً صالحاً وشريكاً ناجحاً في الشركة، كما أراد ألا تتدهور صحته في الوقت نفسه بسبب نقص النوم وعدم ممارسة التمرينات الرياضية. لكن على الرغم من أنه كان يقضي الكثير من الوقت مع عائلته، فهو لم يشعر بأنه حاضر معهم ذهنياً إلا نادراً بسبب شعوره الدائم بالتقصير في العمل.

أدى ذلك كله إلى إصابته بالاحتراق الوظيفي.

هل مررت بتجربة مشابهة؟ في بعض الأحيان، قد تتحول نعمة جدول المواعيد المرن إلى نقمة إذ لم يتوافر الوقت الكافي خلال ساعات العمل العادية لإنجاز المهام. ستلاحظ أنك مضطر لإنجاز عملك في ساعات غير معتادة، ما يصيبك بالإرهاق. ولكن عدم الاستفادة من سياسة وقت العمل المرن يبدو هدراً لفرصة ثمينة، خاصة أن الاستفادة من المزايا المتوافرة لتحفيز الموظفين على الاستفادة منها هي مسؤولية تقع على عبء القادة غالباً.

ما العمل إذاً؟ بما أنني عملت مدربة في مجال إدارة الوقت على مدى أكثر من 16 عاماً، لاحظت أن جدول المواعيد المرن بالكامل قد يؤدي إلى نوع من الاحتراق الوظيفي تشعر فيه بأنك لا تنجز في أي مجال. قد تؤدي هذه المرونة أيضاً إلى الشعور بالتشتت المستمر لأنك لن تكون متأكداً تماماً من أنك تفعل الشيء الصحيح في الوقت المناسب. بالإضافة إلى ذلك، قد يشعرك تخصيص الوقت للاسترخاء بالذنب لأنك تشعر دائماً بأن عليك تخصيص وقت إضافي لأحد المجالين.

ولكن ثمة آليات يمكنك تطبيقها لاستثمار وقتك بطريقة استراتيجية أكثر والاستفادة من مرونة جدول المواعيد. سنسلط الضوء فيما يلي على الخطوات التي يمكنك اتخاذها لاستعادة التوازن بين عملك وحياتك الشخصية ولتشعر بأنك حاضر تماماً في كلا المجالين.

حدد الوقت الكافي

قد يؤدي غياب المعايير الواضحة والواقعية للوقت الكافي الذي تقضيه في مختلف مجالات حياتك إلى الشعور بالفشل.

بعد أن قيمنا جدول مواعيد شهاب وأهدافه بموضوعية، أدرك هو أن عليه تغيير تصوره للوقت الكافي الذي يجب أن يقضيه مع عائلته. يعني ذلك أنه يجب أن يسمح لنفسه بأن يعمل حتى الساعة 5 مساء ويستغني عن حضور دروس السباحة الصباحية، وذلك حتى يتمكن من بدء العمل عند الساعة 7:30 صباحاً بدلاً من الساعة 9:30 في تلك الأيام. عندما كان يسافر ويقضي الوقت بعيداً عن عائلته، كان يفضل الاستفادة من مرونة جدول المواعيد وإنهاء العمل مبكراً يوم الجمعة. لكن في معظم الأيام، أدرك أن تخصيص المزيد من الوقت للعمل خلال النهار كان مفيداً أكثر له ولعائلته. بالإضافة إلى ذلك، قرر شهاب ألا يعمل بعد الساعة العاشرة مساء إلا في الحالات الطارئة جداً، لأنه خصص المزيد من الوقت للعمل في المكتب وطبق آليات لاستثمار هذا الوقت بطرق استراتيجية أكثر. مكنه ذلك من الحصول على القسط الكافي من النوم والاستيقاظ باكراً لممارسة التمرينات بصورة دائمة.

يمكنك تحديد الوقت الكافي لكل نشاط في حياتك من خلال تحديد ساعات عمل قياسية أو تحديد عدد أسبوعي مستهدف من ساعات العمل. بعد ذلك، عليك تحديد أهم النشاطات التي تريد قضاء وقتك فيها، مثل تناول العشاء مع زوجتك أو مشاهدة المباريات أو العروض التي يشارك فيها أطفالك، وعليك تحديد الالتزامات التي لا مشكلة لديك في تفويتها، مثل التدريبات أو الدروس العادية.

حدد المجالات التي تضيف فيها أكبر قيمة.

تيم هو أحد عملائي، وهو مدير تنفيذي وزوج وأب لعائلة كبيرة ومختلطة. كان تيم يشعر بالذنب دائماً، أي عندما كان يقضي الوقت في العمل بعيداً عن عائلته وعندما يقضي الوقت مع عائلته بعيداً عن العمل.

عملت مع تيم على تحديد الوقت الكافي في مجالات مختلفة من جدول مواعيده، كما فعلت مع شهاب، ولكننا اتخذنا خطوة إضافية. تمكن تيم من ضغط ساعات العمل في إطار زمني أقل مرونة من خلال تحديد المجالات التي يضيف فيها أكبر قيمة. بصفته أحد كبار القادة، كان عليه الحرص على تحقيق النتائج لشركته.

على الرغم من أن ساعات عمل تيم كانت مرنة، فإنه لاحظ أنه كان يقضي معظم يوم عمله المجدول في اجتماعات متتالية، ما اضطره إلى العمل خلال الليل وعطلات نهاية الأسبوع لإنجاز عمله بصفته مسهماً مستقلاً، لذلك عملت معه على التدقيق في الاجتماعات التي يحضرها بهدف توفير الوقت وتحديد الضروري منها. بعد هذا التقييم، بدأ تيم بتقليل عدد الاجتماعات التي كان يحضرها من خلال رفض حضورها أو تفويض أعضاء الفريق الآخرين بالحضور نيابة عنه أو إرسال أفكاره في رسالة عبر البريد الإلكتروني أو حضور الجزء الخاص باتخاذ القرار فقط والمغادرة بمجرد بدء الجزء الخاص بالتنفيذ.

أتاح ذلك لتيم تخصيص ساعات خلال النهار للتركيز على المبادرات الاستراتيجية، مثل وضع الخطة التوجيهية لمشروع على مستوى المؤسسة، والاجتماع مع أصحاب المصلحة التنفيذيين الآخرين للتوافق على الخطة. تحسن أداء تيم وحصل على ترقية من خلال العمل في المجالات التي تمثل الاستثمار الأهم لوقته. الأفضل من ذلك كله أن شعوره بالذنب اختفى وتمكن من تخصيص الوقت في المساء وعطلات نهاية الأسبوع لقضاء الوقت مع عائلته.

بالنسبة لك بصفتك من كبار القادة، عدد المهام التي يريد الآخرون منك إنجازها سيفوق دائماً عدد المهام التي تستطيع إنجازها بالفعل. وكي تنجح، حدد المجالات التي تقدم فيها أعلى قيمة من حيث أهداف المؤسسة وركز عليها ثم امتنع عن ممارسة أكبر عدد ممكن من النشاطات التي لا تتعلق فيها.

احرص على عدم إرضاء الآخرين في المدى المنظور

عندما استشارتني سارة، وهي مديرة إدارة في مؤسسة دولية، كانت قادرة على العمل من المنزل واصطحاب أطفالها إلى المدرسة والتواصل مع الأصدقاء والعائلة خلال النهار. لكن هذه المرونة جعلتها تشعر بأنها مضطرة لقبول إجراء المكالمات مع زملائها الدوليين في وقت متأخر من الليل، علماً أنها كانت تفضل الاسترخاء مع زوجها بعد أن يخلد أطفالها إلى النوم.

أدركت سارة أنها تسبب لنفسها التعاسة لأنها تحرص على إرضاء الجميع في المدى المنظور.

مثل شهاب وتيم، بدأت سارة بتحديد الوقت الكافي للعمل والمجالات التي تقدم فيها أكبر قيمة، ثم أدركت أنها بحاجة إلى اتخاذ خطوة أخرى، وهي وضع الحدود. تجلى ذلك في الامتناع عن التواصل مع الأصدقاء وأفراد العائلة خلال النهار إلا في حالات الضرورة القصوى، وفي الحرص على أن يجدول زملاؤها الاجتماعات في وقت يناسبها أكثر، وإذا لم يلائمها الموعد ولم يكن الاجتماع ضرورياً كانت تطلب منهم جدولته قبل نحو شهر من موعده.

توقفت سارة عن إرضاء الجميع فورياً بشغل وقتها دون قيود. كما أن خفض مرونة جدول مواعيدها مكنها من تعزيز حضورها الذهني وزاد سعادتها وصفاء ذهنها وجعل إسهاماتها مفيدة أكثر، بدلاً من أن تكون مشتتة ومتوترة ومنزعجة في تعاملها مع الآخرين. أفاد ذلك من حولها وقلل شعور الاحتراق الوظيفي لديها على نحو ملحوظ.

الفصل بين ساعات العمل وساعات اللاعمل

تمتع هيثم بمسيرة مهنية ناجحة جداً بصفته شريكاً رئيسياً في شركة محاماة تضم 400 شخص، وكان يتولى منصباً إدارياً رفيعاً في شركتين أخريين. أسس هيثم أيضاً أسرة عزيزة عليه تضم زوجته وطفليه. ظاهرياً، كانت ظروفه ممتازة؛ إذ كان يخصص وقتاً إضافياً ليقضيه مع زوجته وطفليه في الصباح، ويبقى في المنزل في أغلبية الليالي وعطلات نهاية الأسبوع. مع ذلك، كان ينتبه دائماً لهاتفه المحمول حتى يظل متاحاً للعمل، تحسباً لأي طارئ، وجعل نفسه متاحاً عند الطلب دوماً، ما يعني أنه لم يشعر قط بالراحة التامة.

أدرك هيثم خلال جلساتنا أنه يريد أن يكون حاضراً تماماً في مكان العمل وأقل انشغالاً بالمسائل الشخصية في ساعاته، حتى عندما كان يعمل من المنزل. لكنه أراد أيضاً أن يكون أكثر حضوراً مع عائلته؛ فوضع قاعدة تنص على تشغيل الوضع الصامت في هاتفه المحمول ووضعه في سلة خلال الوقت المخصص لزوجته وأطفاله. لم يسمح لنفسه بتفقد الهاتف إلا بعد خلود أطفاله إلى النوم.

وبهذا الانتقال من حالة الإتاحة الكاملة والمرونة في التواصل إلى حالة من تحديد أوقات العمل وأوقات اللاعمل، أصبح هيثم سعيداً ومنتعشاً أكثر خلال الأيام والأسابيع، وتمكن من أخذ إجازة دون أن يتفقد العمل على الإطلاق، وهي أول مرة يفعل فيها ذلك منذ سنوات.

إذا لاحظت أنك تستخدم هاتفك أو ساعتك الذكية بكثرة، فاحرص على وضع قواعد تحدد الأوقات التي تعزل فيها نفسك عن العمل. يمكنك أن تعزل نفسك عن العمل في الفترة بين انتهاء الدوام وموعد خلود أطفالك إلى النوم، كما يمكنك الامتناع عن إرسال رسائل البريد الإلكتروني والتحقق منها خلال عطلات نهاية الأسبوع والسماح بتلقي الرسائل النصية في حالات الطوارئ فقط. تختلف هذه الفترات والقواعد باختلاف الشخص، لكن ما يهم هو أن تحدد وقتاً تعرف فيه أنت ومن حولك أنهم يحظون باهتمامك الكامل.

بما أنك قائد، لا شك في أنك ستضطر أحياناً للعمل خارج ساعاته في حالات الطوارئ، كما أنك سترغب أحياناً في زيادة مرونة جدول مواعيدك لتلبية أولوياتك الشخصية. لكن من خلال اتباع آليات استراتيجية واستباقية بدرجة أكبر لترتيب جدول المواعيد، يمكنك ضمان أن تستثمر وقتك بما يتوافق مع أولوياتك وتقلل خطر إصابتك بالاحتراق الوظيفي.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2025.

المحتوى محمي