ما هي المرونة الإدارية وكيف تتفادى الآثار السلبية المصاحبة لها؟

5 دقيقة
المرونة الإدارية
رسم توضيحي: كارلو كاديناس

ملخص: يدرك القادة المعاصرون ضرورة التحلي بمزيد من المرونة الإدارية؛ أي القدرة على تغيير الاتجاه بسرعة في مواجهة الظروف المتغيرة أو انعدام اليقين، لكن ثمة أثر جانبي للمرونة، وهو التخبُّط؛ أي الارتباك والإحباط بسبب تغيير الاتجاه مرة بعد مرة، ما يؤدي بدوره إلى انعدام الكفاءة التي تعرقل المشاريع والاستراتيجيات الابتكارية. وينصح مؤلف المقالة القادة بوضع هدف شامل لا يتغير وتوضيحه للجميع، مع ترك حيّز يتيح تغيير أسلوب تحقيق هذا الهدف بمرور الوقت.

إحدى أكثر السمات القيادية المثيرة للإعجاب اليوم هي القدرة على تغيير مسارك بسرعة عند ظهور عوائق أو اكتشاف عدم ملاءمة طريقة العمل لتحقيق الهدف المطلوب. يشير الخبراء غالباً إلى هذا النوع من سرعة التكيف باسم المرونة، وهي سمة بالغة الأهمية في البيئات التي تشهد تغيرات متلاحقة أو عند الابتكار في مجال مجهول لم تعد السلوكيات والممارسات الإدارية القديمة مجدية فيه، حتى إن البعض يعتبرها قوة قيادية خارقة.

لكن أي قوة قيادية خارقة قد تتحول إلى نقطة ضعف؛ فعندما يغيّر القادة مسارات العمل في المشاريع مراراً وتكراراً، يرتبك الموظفون وتصيبهم الحيرة بشأن ما يجب عليهم فعله (أو على الأقل يستغرقون بعض الوقت ليعيدوا تنظيم أنفسهم وعملهم واستيعاب التغيير)، ما يؤدي بدوره إلى انعدام الكفاءة وحدوث حالة من التخبُّط وعرقلة التقدم، كما أن هذا الأمر محبط؛ فهو أشبه بإخبار شخص ما بالركض شمالاً، ثم جنوباً، ثم شمالاً، ثم جنوباً مرة أخرى. وبعد عكس الاتجاه مرات عديدة، سيلجأ الموظف إلى حيلة ذكية بأن يقف في مكانه دون حراك حتى يستقر القائد على الوجهة النهائية.

لا يمكن حل هذه المشكلة ببساطة من خلال "الحد من المرونة"؛ إذ إن مرونة القادة في هذه المواقف ضرورية لمواجهة الظروف السريعة التغيُّر وارتفاع مستويات عدم اليقين، وبدلاً من الالتزام بمسار محدَّد قد يؤدي إلى طريق مسدود أو إهدار وقت الشركة ومواردها، فإنهم يوجهون فرقهم إلى الاتجاه الذي يرون أنه أفضل، ثم يعيدون توجيهها مراراً وتكراراً إذا لزم الأمر.

وأعتقد بحكم خبرتي التي تمتد أعواماً في تقديم المشورة للشركات بشأن الابتكار والكفاءة أن مواجهة الآثار السلبية لهذه التغييرات توجب على القادة الذين يغيّرون مسارات فرقهم بين الحين والآخر أن يعززوا قدرتهم على التمييز بين الوسائل والغايات: يجب أن يكونوا قادرين على تحديد هدف نهائي يظل ثابتاً مهما تغيرت الوسائل المستخدمة في تحقيقه.

ولننظر إلى المثالين الآتيين: كنت أقدم المشورة لإحدى شركات التكنولوجيا التي صنع مؤسسها منتجه الأساسي بعد الكثير من التجارب والمحاولات الارتجالية التي تضمنت تجارب متتالية حتى توصّل إلى أفضل نسخة ممكنة أثبتت نجاحها في الأسواق. ومع نمو الشركة ووصول عدد موظفيها إلى أكثر من 100 مهندس موزَّعين على عدة فرق للمشاريع القائمة على تصميم المنتج الأصلي، أصبحت رغبة المؤسس في مواصلة الارتجال وتغيير الاتجاهات عائقاً أكثر منها نقطة قوة، حتى إن إحدى المدراء وصفت هذا الأثر بأنه نوع من الشلل الذي أصاب الشركة بسبب وقوف الجميع مكتوفي الأيدي في انتظار التعليمات الجديدة. وأوضحتْ هذه النقطة قائلة: "لا أحد مستعد للمبادرة؛ لأن كل ما نفعله عرضة للتغيير في الغالب".

تمثّل منهجية المرونة المفرطة هذه مشكلة للشركات الناشئة الصغيرة والشركات الكبيرة على حد سواء، فقد عملتُ قبل عدة أعوام مع شركة متخصصة في منتجات العناية بالبشرة والصحة تصل قيمتها إلى مليارات الدولارات نفّذت 3 عمليات استحواذ على شركات متوسطة الحجم بهدف تنويع مجموعة منتجاتها. ولأنها استحوذت على علامات تجارية معروفة، فقد عزم الرئيس التنفيذي أن يتركها تستمر بالعمل مستقلة عن الشركة الأم التي باتت تملكها بالكامل، لكن بعد بضعة أشهر، مارس أعضاء مجلس الإدارة ضغوطهم لرفع القيمة التآزرية الناتجة عن عمليات الاستحواذ، ما دفعه إلى تغيير مسار العمل ومطالبة مسؤولي أقسام الشركة (الموارد البشرية والشؤون المالية وغيرهما) بمواءمة آليات عمل الشركات الثلاث المستحوذ عليها مع آليات العمل في الشركة الأم. لكن الأيام أثبتت أن مطالبة موظفي أقسام الشركة الأم بالتدخُّل في عمل الشركات المستحوذ عليها أمرٌ مزعج، لذلك تراجع عن قراره وأبلغهم باختيار نظام أو نظامين فقط وتوحيدهما في الشركات الثلاث. في تلك الأثناء، كان مدراء الشركات المستحوذ عليها في حيرة تامة بشأن ما يريده المُلَّاك الجدد وأبلغوا موظفيهم بالاكتفاء بمراقبة الموقف دون فعل شيء حتى تتضح الأمور.

في الحالتين المذكورتين أعلاه، وفي العديد من أمثلة المرونة المفرطة الأخرى، يولي القادة قدراً كبيراً من الاهتمام بوسائل تحقيق الهدف إلى الحد الذي يُفقِدهم (هم وفرقهم) التركيز على النتيجة النهائية؛ إذ أراد مؤسس شركة التكنولوجيا الناشئة أن تؤدي التجارب إلى تعزيز فرص ابتكار منتجات جديدة، لكنه لم يوضح رؤيته حول مواصفات الجيل التالي من المنتجات، وفي غياب الرؤية الواضحة عن المنتجات بدت الاحتمالات كلها صحيحة. وعلى نحو مماثل، لم يحدد الرئيس التنفيذي لشركة منتجات العناية بالبشرة والصحة هدفاً شاملاً لدمج الشركات الثلاث المستحوذ عليها مؤخراً. في الواقع، بدا الأمر وكأنه كان يختلق الأهداف دون خطة واضحة استناداً إلى الظروف، ثم لا يلبث أن يغيرها اعتماداً على ردود فعل المستثمرين وأعضاء فريقه ومدراء الشركات المستحوذ عليها، وبالتالي لم يكن من المستغرب أن يؤدي هذا السلوك إلى ارتباك الموظفين المسؤولين عن العمليات التنفيذية.

ما يدعو للتفاؤل هنا هو أن التركيز المفرط على "الوسائل" وقلة التركيز على "الغايات" سلوك يسهل تصحيحه بمجرد أن يدرك القائد تداعياته على أرض الواقع. ويرتبط الأمر في المقام الأول بالقدرة على تحديد الأهداف والتواصل؛ إذ تلقّى مؤسس شركة التكنولوجيا في نهاية المطاف ملاحظات واضحة وصريحة من فريقه مفادها أن التغييرات المستمرة في عمل الفرق الهندسية تعني ألا يدرك المهندسون على وجه اليقين ما يجدر بهم فعله، فما كان منه إلا أن عمل مع فريقه لوضع المعايير القياسية للمنتج الذي يود صناعته في المستقبل، ثم ترك للفرق مساحة أكبر لتحديد كيفية صناعة هذا المنتج، وبذلك غدت الفرق أكثر إنتاجية وثقة في أنها تسير على الطريق الصحيح لصناعة منتج جديد مُجدٍ تجارياً.

من جانب آخر، أدرك الرئيس التنفيذي لشركة منتجات العناية بالبشرة والصحة أن الشركة لم تحقق العائد على الاستثمار المتوقَّع من عمليات الاستحواذ التي نفّذتها، فطلب من رئيس قسم تطوير الأعمال إجراء دراسة موجزة حول أفضل منهجية لدمج الشركات الجديدة في الشركة الأم، وتوصلت دراسته إلى عدد من الاستنتاجات الرئيسية على رأسها ضرورة تحديد هدف ورؤية واضحين لكل شركة في مرحلة ما بعد الاستحواذ، ومن ثم منح الصلاحيات اللازمة لفريق الاندماج لتمكينه من تحديد المسارات المناسبة لتحقيق هذا الهدف، ثم طبّقت الشركة الأم هذا النهج على الشركات الثلاث المستحوذ عليها.

على سبيل المثال، كانت إحدى هذه الشركات تمتلك حصة سوقية كبيرة وتتمتع علامتها التجارية بشهرة واسعة في فئة معينة من المنتجات، لذلك وضع الفريق هدفاً محدداً وهو تسريع نمو هذه الفئة. لكن أعضاء الفريق أدركوا في مرحلة مبكرة من عملية الاندماج أن الشركة معرَّضة لخطر فقدان الكثير من المواهب بعد إتمام عملية الاستحواذ إذا استمروا في إرغام الجميع على اتباع آليات عمل الشركة المالكة الجديدة وأساليبها، وهذا من شأنه أن يعرّض هدف النمو للخطر لأن خبرة فريق الشركة المستحوذ عليها ضرورية لمواصلة النجاح في هذه الفئة، لذلك غيروا مسار العمل. بدلاً من دمج الشركات المستحوذ عليها في الشركة الأم، تبنى فريق الاندماج نهج "الاستحواذ العكسي" بحيث يعمل بعض موظفي الشركة الأم تحت إشراف فريق إدارة الشركة المستحوذ عليها،  لكن الهدف النهائي ظل كما هو، ممثلاً في تعزيز النجاح بفئة المنتجات الأساسية للشركة الفرعية. لم يعد المدراء يشعرون بالارتباك أو الإحباط، وفي نهاية المطاف تجاوزت الشركة الفرعية الجديدة توقعات النمو التي حددها فريق الاندماج في السابق.

إذا كنت تعمل في مشروع أو تقود مشروعاً يبدو أنه يتعثر دائماً بسبب تغيير مسار العمل باستمرار، فعليك أن تتوقف قليلاً وتطرح السؤال الآتي: "هل أوضحنا هدفنا النهائي؛ أي النتيجة التي نريد تحقيقها؟ وهل نشعر بأن التغييرات التي أجريناها تقرّبنا من هذا الهدف؟" إذا لم تكن الإجابة "نعم" دون تردُّد، فعليك أن تبحث عن أسلوب آخر لتحديد الأهداف وتوضيحها للآخرين على نحو أفضل كي لا يؤدي التحلي بالمرونة إلى إضعاف الفعالية.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .