في عشرينيات القرن الماضي، أُجريت سلسلة من التجارب في مصنع للهواتف كانت تملكه شركة "وسترن إلكتريك" (Western Electric) في مجمع "هوثورن ووركس" (Hawthorne Works)، خارج ولاية شيكاغو الأميركية، لدراسة تأثير الإضاءة على إنتاجية العمال. خلص الباحثون حينها إلى أن تحسين الإضاءة أدى إلى زيادة إنتاجية التصنيع ولكن هذه الزيادة استمرت فقط حتى انتهاء الدراسة؛ عندها عادت الإنتاجية إلى مستواها السابق على الرغم من الإبقاء على مستوى الإضاءة الجديد. واستنتج الباحثون أن إخضاع العاملين للدراسة وليس تأثير الإضاءة هو ما أدى إلى زيادة إنتاجيتهم.
"أثر هوثورن" مثلما هو معروف الآن موثق جيداً في مجال العلوم الاجتماعية ومفاده أن الأفراد، وخاصة المبحوثين أو المشاركين في تجربة بحثية، يغيرون بالفعل سلوكهم عندما يعلمون أنهم يخضعون للملاحظة والمراقبة. ويتجاوز هذا الأثر مسألة الإنتاجية، إذ سجله الباحثون في عديد من السياقات المختلفة، بدءاً من تحسين نظافة اليدين بين العاملين في مجال الرعاية الصحية الخاضعين لدراسة بحثية، إلى زيادة إقبال الناخبين عند جمع معلومات عن ميولهم الانتخابية.
وفي دراسة حديثة نُشرت في مجلة "الطب الداخلي" وهي من إصدارات مجلة "الجمعية الطبية الأميركية" (JAMA Internal Medicine)، اكتشفنا شكلاً فريداً من أشكال "أثر هوثورن" في المستشفيات، مع ما له من عواقب مهمة على المرضى. حللنا كيف تؤثر عمليات التفتيش غير المعلنة في المستشفى على نتائج المرضى. تُجري عمليات التفتيش هذه "اللجنة المشتركة" (Joint Commission)، وهي هيئة تنظيمية أميركية للرعاية الصحية تُعنى بامتثال المستشفيات لمعايير سلامة المرضى. وللمحافظة على اعتمادها، يتعين على المستشفيات الخضوع لعمليات تفتيش مفاجئة تستغرق أسبوعاً كل 18 إلى 36 شهراً. يقيّم المسؤولون التزام المستشفى بعدد من معايير الجودة والسلامة، بما في ذلك على سبيل المثال لا الحصر نظافة الأيدي وإجراءات مكافحة العدوى والتوثيق المناسب للإجراءات.
والرهان بالنسبة للمستشفيات كبير، فإن فقدان الاعتماد خلال عملية المراجعة سيضر بسمعة المستشفى أو يمهد الطريق لإغلاقه. لذلك يكون طاقم المستشفى منتبهاً ويتصرف بحرص تام خلال فترة الفحص. وقد أطلق بعض المراقبين على هذه الزيارات اسم "الرمز جي" (Code J) ولاحظوا أن المستشفيات تخصص موارد هائلة لضمان حسن سير الأمور خلال هذه الزيارات. يعمل في الواقع اثنان منا (جينا وبارنِت) في مستشفيات تعليمية كبيرة في بوسطن وقد لوحظ (من خلال مراقبة) ما يجري خلال عدة زيارات للجنة المشتركة، أن أسبوع التفتيش مرهق للمدراء التنفيذيين والعاملين بالمستشفى، ويبدأ بإرسال كم كبير من رسائل البريد الإلكتروني إلى موظفي المستشفى لإبلاغهم بأن اللجنة المشتركة حضرت والتفتيش جارٍ. وعلى الرغم من مستوى الاهتمام الذي تحظى به هذه الزيارات، لم يُدرس تأثيرها الفوري على سلوك الأطباء ونتائج المرضى.
لقد حصلنا على تواريخ تفتيش اللجنة المشتركة في 1,984 مستشفى أميركياً خلال الفترة 2008-2012 وقارنا تلك التواريخ ببيانات الاستشفاء لأكثر من 1.7 مليون مستفيد من برنامج "مديكير" الصحي. قارنا نتائج المرضى الذين أُدخلوا إلى المستشفى خلال أسبوع التفتيش مع المرضى الذين أدخلوا إلى المستشفى نفسه في الأسابيع التي سبقته مباشرة أو تلته.
مذكرة البحث:
قمنا بتحليل بيانات المستفيدين من خدمات "مديكير" لقاء رسم مالي الذين أدخلوا إلى مستشفيات أميركية خضعت لتفتيش اللجنة المشتركة الحكومية خلال الفترة 2008-2012. فتشت اللجنة المشتركة في الإجمال 1,984 مستشفى خلال هذه الفترة. شملت دراستنا 244,787 حالة استشفاء خلال أسابيع التفتيش و1,462,339 حالة خلال +/- 3 أسابيع سابقة وتالية للتفتيش. (لذلك قمنا بمعاينة فترة إجمالية لمدة ستة أسابيع حول أسبوع التفتيش). قارنا الوفيات خلال 30 يوماً ومعدلات العدوى المكتسبة في المستشفى والأحداث السلبية فيما يتعلق بسلامة المرضى الذين أدخلوا إلى المستشفى خلال أسابيع التفتيش مقابل الأسابيع السابقة واللاحقة.
ووجدنا أن معدل الوفيات بين مرضى برنامج الرعاية الطبية "مديكير" الذين أدخلوا إلى المستشفى خلال زيارة اللجنة المشتركة كان أقل قليلاً مما هو بين المرضى الذين أدخلوا خلال أسابيع لم يخضع فيها المستشفى للتفتيش. وكانت التأثيرات أكثر وضوحاً في المستشفيات التعليمية الكبيرة، حيث انخفض معدل وفيات المرضى لمدة 30 يوماً (5.9%) مقارنة بالمرضى الذين أدخلوا في الأسابيع السابقة أو اللاحقة (6.4%)، وهو ما يمثل انخفاضاً نسبياً ملحوظاً من 6%. كانت معدلات الوفيات في الأسابيع التي سبقت وتلت التفتيش متشابهة؛ بمعنى أن انخفاض معدل الوفيات خلال أسابيع التفتيش كان قصير الأجل. على الرغم من أن الدراسات القائمة على الملاحظة مثل دراستنا لا يمكنها إقامة علاقات سببية، يقترح تصميم دراسة التجربة الطبيعية الذي استخدمناه أن زيارات اللجنة المشتركة أدت إلى انخفاض معدل وفيات المرضى الذين أدخلوا إلى المستشفى خلال أسابيع التفتيش.
وعلى الرغم من أن انخفاض معدل الوفيات بنسبة 6% قد يبدو متواضعاً، فإنه ذو مغزى بصورة إجمالية. وهذا يعني وفق تقديراتنا أن نحو 3,600 من مستفيدي برنامج الرعاية الطبية قد يبقون على قيد الحياة سنوياً بعد إدخالهم المستشفى، أو ما يقرب من 10 مرضى يومياً، إذا انسحبت معدلات الوفيات التي لوحظت خلال أسابيع التفتيش على سائر أسابيع السنة.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو ما إذا كان المرضى الذين يُدخلون إلى المستشفى خلال فترات التفتيش مختلفين عن أولئك الذين يُدخلون في فترات عدم التفتيش. لقد وجدنا أن عدد المرضى الداخلين إلى المستشفيات كان متطابقاً تقريباً بين أسابيع التفتيش وسائر الأسابيع، وتشابهت كذلك صفات المرضى وأسباب دخولهم المستشفى. وهو ما ينبغي توقعه لأن عمليات التفتيش لم تكن معلنة.
هناك تفسيران ممكنان على الأقل لهذا التأثير المترتب على التفتيش. أولاً، يمكن للأطباء والممرضات تعديل سلوكياتهم المحددة التي يقيسها مفتشو اللجنة المشتركة، مثل ممارسات نظافة اليدين ومكافحة العدوى. مع ذلك، لم نعثر على أي دليل على أن معدلات الإصابة المكتسبة بالعدوى في المستشفيات انخفضت خلال أسابيع التفتيش، الأمر الذي قد يشير إلى أن ممارسات مكافحة العدوى المحسنة في أثناء التفتيش لم تكن وراء النتائج التي توصلنا إليها. ووجدنا أيضاً أن العوامل الأخرى التي تضر بسلامة المرضى، مثل قرحة الفراش والانسداد الرئوي بعد الجراحة لم تنخفض خلال أسابيع التفتيش، وهو ما يشير أيضاً إلى أن نتائجنا لم تكن بسبب تحسن الالتزام بالإجراءات المحددة التي تقيسها اللجنة المشتركة.
الاحتمال الآخر هو أن الأطباء كانوا أكثر تركيزاً خلال أسابيع التفتيش. فتعزيز المراقبة خلال الزيارات قد يفضي إلى زيادة وعي الأطباء ببعض أوجه القصور التشغيلية وتحسين تركيزهم واهتمامهم ويقظتهم، وكل ذلك يؤدي إلى توفير رعاية أفضل للمرضى. على سبيل المثال، قد يؤدي المزيد من الانتباه إلى توثيق الحالة السريرية بمزيد من الحرص الأمر الذي يولد تواصلاً أقوى بين العاملين الصحيين ويحسن جودة الرعاية في نهاية الأمر. وبالمثل، قد يقلل وجود المفتشين من الوقت الذي يقضيه موظفو المستشفى في القيام بأنشطة غير مرتبطة بالعمل قد تصرفهم عن رعاية المرضى وهو ما نسميه "أثر فيسبوك".
لا تعني النتائج التي توصلنا إليها أن على اللجنة المشتركة تكثيف زياراتها للمستشفيات، فزيارات التفتيش مرهقة إلى حد كبير وهو ما دفعنا في البداية إلى التساؤل ما إذا كنا سنسجل تراجعاً في نتائج المرضى لأن المفتشين قد يصرفون انتباه الأطباء عنهم. بدلاً من ذلك، تشير نتائجنا إلى أن التركيز والانتباه واليقظة السريرية يمكن أن يكون لها تأثير كبير على رعاية المرضى، وهذا أمر معروف. أحد أسباب محاولة المستشفيات تقليل ساعات عمل الطبيب المقيم هو أن الأطباء بعد 20 ساعة من العمل المتواصل ليسوا في حالة التأهب نفسها مثلما هي الحال في أول ساعتين من نوبة عملهم. بينت دراسات حول وصف المضادات الحيوية، على سبيل المثال، أن احتمال كتابة الأطباء وصفة مضادات حيوية بصورة غير مناسبة يزداد في وقت متأخر من اليوم، وهو ما يمكن إرجاعه إلى زيادة التعب.
كيف يمكن استخدام نتائجنا لتحسين رعاية المرضى؟
أولاً، يمكن للمستشفيات تحليل بياناتها السريرية لمراقبة أي من جوانب عملياتها اليومية الاعتيادية يطرأ عليها تغيير كبير لتلبية معايير التفتيش. على سبيل المثال، هل هناك انخفاض في وصفات الأدوية غير المناسبة خلال أسابيع التفتيش؟ هل هناك دليل على تراجع العدوى في المستشفى؟ إذا كان الأمر كذلك، هل يحدث هذا نتيجة زيادة غسل اليدين؟ تحديد هذه التغييرات قد يوفر فرصاً لتحسين الرعاية ونتائج المرضى.
ثانياً، إذا كانت اليقظة السريرية الشديدة والاهتمام وراء النتائج التي سجلناها من خلال ملاحظاتنا، فيمكن بذل جهود لبناء بيئة عمل تعزز هذه الظروف. على سبيل المثال، فترات اليوم التي تُتخذ فيها معظم القرارات السريرية، ويجري ذلك عادة في الصباح خلال الجولات على المرضى، يمكن جعلها فترات خالية من أي "تعطيل"، حيث تُقلل إلى الحد الأدنى النداءات والمكالمات وغيرها من أسباب مقاطعة سير عمل الأطباء والممرضات. وقد يكون فعالاً إنشاء مساحات عمل أكثر هدوءاً لتسهيل التركيز على المهام السريرية.
"أثر هوثورن" حقيقي. قد يؤدي تحديد التغيرات الطارئة على السلوكيات عندما يكون الأطباء تحت الملاحظة وكيفية تأثيرها على نتائج المرضى إلى توفير رؤى مفيدة حول كيفية تحسين جودة الرعاية في المستشفى.