في أحد المكاتب الكبرى بإحدى العواصم العربية، تلقّى أحمد، مدير المشروع، تقريراً من زميله سامي يحتوي على أخطاء واضحة قد تؤثر في تسليم العمل في موعده. وعلى الرغم من أن أحمد لاحظ المشكلة على الفور، اختار أن يعلّق بجملة لطيفة: "شكراً سامي، مجهود رائع كعادتك، سنراجع بعض النقاط لاحقاً فقط".
مرّت الأيام، ولم تُعدّل الأخطاء في التقرير، فتفاقمت المشكلة وتأخر المشروع. حين واجه المدير العام أحمد وسأله لماذا لم يخبر سامي بالأمر بوضوح، قال أحمد: "خشيت أن أجرح مشاعره أو أبدو قاسياً أمام الفريق". هذه القصة، التي تتكرر بأساليب متعددة في كثير من بيئات العمل العربية، تسلط الضوء على التحدي الدائم: كيف نُعبّر بصدق ووضوح دون أن نخسر الاحترام أو نكسر الأعراف الاجتماعية القائمة على المجاملة؟
فمما لا شك فيه أن المجاملة مهمة في بيئة العمل، فالصراحة، وإن كانت موضع تقدير في بعض المواقف، قد تُعتبر أحياناً فظاظة أو حتى قلة احترام إذا لم تُصغ بعناية. ومع ذلك، لا يمكن التضحية بالوضوح على حساب اللباقة المحضة. فكيف يمكن تحقيق هذا التوازن بين المجاملة والوضوح في بيئة العمل خصوصاً العربية منها؟
اقرأ أيضاً: كيف رد بأسلوب مقنع على الانتقادات التي توجه إليك في العمل؟
ما بين الصراحة والمجاملة: إلى أي جهة تميل الكفّة في ثقافة العمل العربية؟
إلى المجاملة في الحالات معظمها، فاللباقة في بيئة العمل العربية، وفقاً للمتخصص في تحليل الخطاب والتواصل اللغوي المنطوق، عبد الله سمارة، ليست من آداب السلوك فحسب؛ بل انعكاساً للأعراف الاجتماعية والتعاليم الدينية؛ إذ تشدّد الأولى على صون الكرامة الشخصية، في حين تدعو التعاليم الإسلامية إلى التواضع والاحترام عند التواصل مع الآخرين.
لذا غالباً ما يطغى على بيئات العمل العربية أسلوب التواصل غير المباشر، والنقد الخفي، وتجنُّب الرفض المباشر، علاوة على استخدام المجاملات والتعبيرات التي تستدعي ذكر الله لتخفيف وطأة الطلبات أو التصريحات. على سبيل المثال، كثيراً ما تُستخدم عبارات مثل "إن شاء الله" أو "بالله عليك"، ليس من باب اللطف فحسب، بل جزءاً من الهوية المهنية التي تسعى إلى الحفاظ على الاحترام والتواضع. وهو ما أشار إليه أيضاً الباحث في علم الاجتماع اللغوي والتواصل بين الثقافات، عبد العزيز بوشارة، إذ ذكَر أن استخدام التعابير الدينية والتحيات اللبِقة في البيئات المهنية هي من الأمور الأساسية للحفاظ على العلاقات الإيجابية.
علاوة على ذلك، تولي المجتمعات العربية اهتماماً كبيراً لاحترام التسلسل الهرمي، إذ تُؤثّر السلطة والمكانة الاجتماعية بدرجة كبيرة في أساليب التواصل. فليس غريباً إذاً أن يُظهِر المرؤوسون الاحترام لرؤسائهم من خلال اللغة الرسمية والتواصل غير المباشر، وأن يفضّلوا الصمت أو التعبيرات المخففة على النقد الصريح أو المواجهة المباشرة، وفقاً للمتخصص في اللغويات والتواصل بين الثقافات، نافذ شماس.
جدول مقارنة بين الثقافة العربية وثقافات أخرى
التصرف | العادات العربية | العادات الغربية/الأميركية | العادات الآسيوية |
---|---|---|---|
قول: لا | غير مباشر، يتجنب الشخص قول "لا" بصراحة، حفاظاً على الوئام والعلاقات. | مباشر وصريح، يُعد قول "لا" مقبولاً عموماً ومتوقعاً في البيئات المهنية لضمان الوضوح والدقة. | غير مباشر؛ يتجنب الشخص قول "لا" بصراحة حفاظاً على الانسجام في المجموعة. تُستخدَم تلميحات خفية أو إشارات غير لفظية للتعبير عن الرفض. |
الإجابة المباشرة | الإجابة غير مباشرة؛ أي تُصاغ باستخدام تلميحات أو كلمات مختارة بعناية، حفاظاً على الاحترام والكرامة. | الإجابة مباشرة وواضحة تجنباً لسوء الفهم. | الإجابة غير مباشرة أو غير صريحة، حفاظاً على التناغم والتماسك الاجتماعي. |
الطلب المباشر | الطلبات مهذبة وغير مباشرة، باستخدام لغة لطيفة ومخففة تجنباً للرفض. | الطلبات مباشرة وواضحة وصريحة. | الطلبات غير المباشرة؛ وغالباً ما تُستخدم التلميحات لإيصال الفكرة. |
طريقة الإدارة | تسلسل هرمي مع التركيز على احترام السلطة والمكانة الاجتماعية. | مباشرة ترتكز على المساواة وأقل تقيّداً بالتسلسل الهرمي. | تسلسل هرمي مع التركيز على الانسجام الجماعي واحترام الأقدمية. |
ماذا تفضّل الثقافات الأخرى؟
وفقاً لدراسة نُشرت في المجلة الأوروبية لعلم اللغويات (European Journal of Linguistics) عام 2024، فإن الثقافات الغربية تركّز على الصراحة والوضوح وأسلوب التواصل المباشر في مكان العمل. إذ يُنظر إلى هذه الصراحة على أنها دليل على الصدق والكفاءة والوضوح، ما يُسهّل اتخاذ القرارات السريعة ويقلل احتمالية سوء الفهم. كما تعتبر النقاش المفتوح والنقد البنّاء ومشاركة الأفكار طرقاً إيجابية للوصول إلى حلول أفضل وتحسين العمل.
ومن الملاحظ أن هذه الفروقات بين المجتمعات تنطبق على المدراء والقادة أيضاً، فالمدير الغربي وفق نموذج ابتكرته مجموعة من الباحثين الأميركيين في جامعة فلوريدا لقياس الاختلافات الثقافية، يلجأ غالباً إلى أسلوب صريح في التواصل يصبُّ في جوهر الموضوع مباشرة، بينما يلجأ المدير العربي بطبعه إلى الأسلوب غير المباشر؛ لسببين: أولهما أنه يكره أن يُرفَض له طلب، وثانيهما أنه لا يحب إحراج الآخرين. لذا، تراه يلجأ إلى الإشارات اللفظية واللغة الضمنية للتعبير عما يريد، ويتجنب قول "لا" صراحة.
ما زاد عن حده انقلب إلى ضده: تأثير الإفراط في المجاملة في بيئة العمل
على الرغم من أهمية اللباقة في بناء العلاقات والتماسك الاجتماعي في بيئة العمل العربية، فإن الإفراط في المجاملة على حساب الصراحة قد يُفضي إلى عواقب سلبية كبيرة، فقد يسبب هذا الأسلوب في التواصل والرسائل المبطّنة سوء فهم وارتباك، خصوصاً في بيئات العمل المتعددة الثقافات.
علاوة على أن تردد الموظفين في التعبير عن آرائهم أو تقديم ملاحظاتهم الصريحة، رغبةً منهم في الحفاظ على الانسجام وتجنب الصراع، قد يعوق تبادل وجهات النظر المتنوعة، ويقلل فرص الابتكار وحل المشكلات بطريقة إبداعية داخل المؤسسات. وقد تبقى الملاحظات والأفكار القيّمة مكبوتة لأن الموظفين لا يشعرون بحرية التعبير بصراحة، ما قد يؤثر سلباً في نمو المؤسسة وقدرتها على التكيف.
كيف يحقق الموظف العربي التوازن المطلوب بين المجاملة والوضوح؟
الصراحة لا تعني الفظاظة أو جرح مشاعر الآخرين، والمجاملة لا تعني التردد في قول الحقيقة أو إبداء الرأي الضروري. ويمكن تأسيس بيئة عمل عربية تجمع بين الاثنين عبر تطبيق النصائح الآتية:
1. فهم أهمية الصراحة البنّاءة
صحيح أن اللباقة دليل على الاحترام وبناء العلاقات وليست ضعفاً أو مجرد شكليات، لكن ومع ذلك، على الموظف إدراك أن الصراحة، عندما تحدث بصورة صحيحة، لا تشكّل تهديداً للعلاقات، بل هي أداة ضرورية للتحسين والتطوير على الصعيدين الفردي والمؤسسي.
لذا من المهم تعلُّم أساليب التواصل المباشر المحترم؛ إذ يمكن التعبير عن الآراء الصريحة بطرق لا تُفسّر على أنها "قلة احترام"، وهذا يتطلب التدرب على صياغة الملاحظات بتهذيب واحترام، مع الأخذ في الاعتبار التسلسل الهرمي.
على سبيل المثال، قد يستخدم الموظف، مجاملةً أو حفاظاً على ماء الوجه، مفردات مبهمة مثل: "سأرى" أو "سأحاول" أو "ربما لاحقاً" رداً على طلب ما؛ لكن من الأفضل تجنُّب هذا الأسلوب عند العلم المسبق بأن الإجابة هي "لا" أو "غير وارد"؛ لأن الغموض المفرط في هذه الحالة قد يعطي نتائج عكسية؛ إذ يقوِّض الوضوح والثقة. ينبغي هنا التعبير بصراحة وتهذيب عن الظرف الراهن، مثل: "نظراً لأولوياتي الحالية، لن أتمكن من الالتزام بهذه المهمة هذا الأسبوع. لنُعاود النظر فيها الشهر المقبل".
وينطبق الأمر نفسه على الوعود، فقد يظن أن إعطاء وعود مهذّبة غامضة بعض الشيء سيساعد على إقناع الآخرين وتجنُّب الخلافات معهم؛ لكن الحقيقة هي أن اللغة المبهمة قد تسبب مزيداً من المشكلات لاحقاً. على سبيل المثال، عندما تقول: "سأنظر في الأمر إن شاء الله"، فإن الطرف الآخر سيأمل وعداً؛ لكنه يبقى في حيرة بشأن ما يتوقعه أو متى.
لذا من الأفضل القول: "سأراجع التقرير وأشاركك آخر المستجدات بحلول يوم الخميس، إن شاء الله". تحافظ هذه الجملة على المجاملة؛ لكنها تُقدّم أيضاً جدولاً زمنياً واضحاً. باختصار: عند تقديم وعد، حدد ما ستفعله ومتى، واطلب المزيد من الوقت أو المعلومات مباشرة عند الحاجة إليهما.
2. عدم الصمت بحجة المجاملة
العرب عموماً أكثر صمتاً وتحفظاً في اجتماعات العمل مقارنة بالغربيين؛ إذ قد يعتبرون الصمت أداة استراتيجية للحفاظ على ماء الوجه والعلاقات وتجنب الصراع في بيئات العمل، وخصوصاً مع الرؤساء والمدراء في العمل. لكن، قد يؤدي التزام الصمت المستمر في الاجتماعات، سواءً كان بسبب اللباقة أو الشك بعدم جدوى التحدّث أو الأعراف الثقافية، إلى آثار سلبية في سير العمل.
لذا عند عدم التأكد مما قيل أو مما هو متوقع، ينبغي طرح أسئلة مباشرة. إضافة إلى أن التحدث بصراحة في الاجتماعات يرتبط بتحسين التواصل في بيئة العمل وتوطيد العلاقات المهنية وتحسين أداء الفريق، كما أنه يشجع على النقاش وابتكار الأفكار الجديدة وإلهام الآخرين للمشاركة.
اقرأ أيضاً: كيف تضع حدوداً مهنية دون أن تبدو عدائياً؟
3. تجنّب انتقاد الآخرين علناً
حينما أرادت شركة تي جي إم لأبحاث السوق (TGM Research) إعطاء بعض الإرشادات لممارسة الأعمال في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ذكرت أن العرب لا يحبّذون الانتقادات المباشرة، فذلك قد يشعرهم بالحرج وفقدان الكرامة، وقد يأخذونها على محمل شخصي؛ لذا من الأفضل اتباع نهج غير مباشر في توضيح الاختلاف، وتوجيه الانتقاد بمحادثة فردية إن كان ذلك ممكناً. كما ينبغي تعلُّم كيفية الفصل بين النقد الموجه للفكرة أو الأداء والنقد الموجه للفرد مباشرةً، وتذكُّر أن الناس حساسون جداً تجاه أي تهديد محتمل لمكانتهم الاجتماعية.
اقرأ أيضاً: 5 جمل ذكية تفتتح بها أي اجتماع باحتراف
4. مبادلة المجاملة بأُخرى والإصغاء إلى الآخرين باهتمام
بناءً على دراسة نُشرت في دورية الفنون والعلوم الإنسانية المؤثّرة (Cogent Arts and Humanities) عام 2024، فإنه من المحبّذ عند تلقي المجاملات، تقبُّلها بلطف والتعبير عن الامتنان لها وردّها بالمجاملة. فهذا لا يتماشى فقط مع الأعراف الاجتماعية في الثقافة العربية عموماً، والإماراتية خصوصاً، بل يساعد أيضاً في الحفاظ على علاقات إيجابية، وإظهار التواضع، وتعزيز بيئة عمل متناغمة ومحترمة.
ويجب على الموظف أيضاً أن يتعلم أن الوضوح في بيئة العمل لا يقتصر على مجرد التعبير عن أفكاره بشفافية؛ بل يتطلب أيضاً الاستماع إلى وجهات نظر الآخرين والتفاعل معها، وهو مطلب يصبُّ في خانة اللباقة أيضاً.
لذا، ينبغي الإصغاء إلى وجهات نظر الزملاء بنيّة الفهم وليس تجهيز الرد، وإظهار الاهتمام بأفكارهم، وطرح أسئلة توضيحية تُظهر مدى الانتباه إليهم، وتلخيص ما قالوه لإعطائهم الفرصة لتصحيح أي تفسيرات خاطئة. يساعد الاستماع الفعال في بيئة العمل على فهم المشكلات والتعاون من أجل إيجاد حلول لها، كما يُظهر مقدار الصبر عند الإنسان، وهو رصيد لا يستهان به في بيئة العمل العربية.
ختاماً، يمكن القول إن العبء في إيجاد التوازن بين الوضوح والمجاملة لا يقع على الموظفين الأفراد فحسب، بل يجب على القيادات والمؤسسات تشجيع بيئة عمل آمنة يشعر فيها الجميع بالراحة للتعبير عن آرائهم. يتضمن ذلك تعزيز ثقافة الاستماع والتقبّل بين المستويات الوظيفية كافة. فعندما يرى الموظف أن القيادة تقدّر الآراء الصريحة وتتعامل معها باحترام، ستقل مخاوفه.