وجدنا أثناء عملنا مع القادة أنّ القائد العظيم يحقق التطور لنفسه والمؤسسة التي يقودها من خلال العمل الواعي على ثلاثة جوانب:
- الإدارة الحكيمة للحاضر، وتحقيق التوازن بين تحقيق الأهداف والالتزام بقيم المؤسسة.
- التجاوز الاختياري للماضي، فيتخلى عن المعتقدات والآراء والسلوكيات التي لا تتماشى مع مصلحته ومصلحة مؤسسته.
- البناء الواعي للمستقبل، وذلك بتبني طموحات جديدة وقيم وآراء وسلوكيات تمكّنه من تحقيق التغيير الحقيقي أثناء قيادته.
ويبدو أنّ معظم القادة يتقنون الجانب الأول والثالث، ولكن الكثير منهم يغفلون عن ضرورة التخلّي عن أمر ما (فكرة أو توجّه أو سلوك) من أجل الارتقاء إلى مستوى جديد من الأداء. فكيف يمكن تحقيق ذلك بفعالية؟
يمكن أن ننظر في سيرة أحد أشهر رؤساء الولايات المتحدة لنعرف ذلك. إنّه القائد الذي جمع الناس حول رؤيته التي وحّدت بقوتها دولة مزقتها الحروب الأهلية. ولكن الأمر لا يتعلق بالعزيمة وحدها، بل تطلب النجاح حينها التضحية والقرارات الحازمة التي تخلت عن كل ما لا يصلح لتلك المرحلة.
الوجود عند لحظة الحسم
في مطلع يونيو/حزيران من العام عام 1863 واجه أبراهام لينكولن الرئيس الأميركي في تلك الفترة وضعاً شديد الخطورة. لقد مضى على فترته الرئاسية سنتان ونصف، وكان يحظى باحترام الجميع. ثم اندلعت حرب أهلية قسمت الشمال والجنوب وخسر جيش الاتحاد معركتين كبيرتين. وما لبث لينكون أن تعرّض لانتقادات حادة حتى من أعضاء حزبه بسبب موقفه الذي اتسم بتقديم التنازلات وعدم القدرة على الحسم.
ولم تمض سوى ثلاثة أشهر حتى حدث تغير ما في الرأي العام. فقد ظهر في صحيفة نيويورك تايمز مقال يتحدث عن امتنان الشعب للقائد أبراهام لينكولن "الذي يتأقلم بشكل مذهل مع احتياجات كل فترة بذهنه المتقد، مع الحفاظ على التجرد والحكمة والأمانة والثبات في المواقف". كما تغيّر سير المعارك على الأرض، إذ حقق جيشه انتصارات مفصلية في مدن فيكسبيرغ وغيتيسبيرغ، وكانت هذه الانتصارات نقطة تحوّل في الحرب.
فما الذي تغيّر في صيف العام 1863؟ إنّ معرفة الأسلوب الذي اتبعه لينكون في التعامل مع ظروف الحرب الأهلية الأميركية سيكشف لنا كيف يمكن للنقاط الثلاثة التي ذكرناها أن تشكّل المستقبل الذي نطمح إليه.
تغيير طبيعة العلاقة مع القادة العسكريين
أدرك لينكون مطلع صيف عام 1863 أنّه يواجه تحديين أساسيين، وهما إعادة تأكيد السيطرة على الجيش وإعادة توجيه الرأي العام. وعندها أقدم لينكون على قرارات صارمة وجريئة. تخلص أولاً من معتقدات بالية لم تعد تجدي نفعاً، ثم اتبع سلوكاً قيادياً مختلفاً تماماً عما سبق. ويمكن أن نرى الآن كيف أنّ قراراته الحازمة التي اتخذها عام 1863 هي التي جعلته أحد أعظم قادة الولايات المتحدة الأميركية.
المجموعة الأولى من المسلمات التي تخلى عنها لينكون هي كيفية تعامله مع جنرالات الجيش. فقد كان يظنّ حتى تلك اللحظة أنّ عليه كزعيم مدني أن يترك أمر قيادة الجيش للجنرالات حصراً، فهذا ما جرت عليه العادة في تلك الظروف. فكان لينكون يتجنب إعطاء أوامر صارمة لقادة الجيش ويكتفي بتقديم مقترحاته على وجل، وكان الجنرالات في معظم الأحيان يتجاهلونها. وهذا ما دعا جون نيكولاي، أحد مساعدي لينكون، للإشارة بامتعاض إلى أنّ الرئيس كان كثيراً "ما ينزل عند رغبات الجنرالات ويسلّم بما يشتكون منه ويتغاضى عن تقصيرهم تماماً كما تفعل الأم مع أطفالها".
وبعد عدد من مواقف الفشل في التواصل بين الرئيس والجنرالات قرر لينكون ترك أسلوبه الراضخ واعتمد لهجة أشد حزماً مع قادة الجيش، حيث أصدر سلسلة من التعليمات المباشرة للجنرالات، وبدل التلطف الزائد معهم وضّح لهم بلا أدنى شك أنّه هو القائد الأعلى. فكتب إلى الجنرال جوزيف هوكر، والذي جرت عادته أن يخالف مقترحات الرئيس: "لتجنب أي سوء فهم، ستكون مسؤولاً أمام الجنرال هاليك، قائد أحد الجيوش، والذي يأتمر بأمر القائد الأعلى لكافة الجيوش. إنني لم أكن أقصد أي أمر سوى ذلك، ولكن وحتى لا يساء فهمي، فإنني آمره بتوجيه أوامره إليك وآمرك بأن تطيعها".
وسرعان ما أحرز جيش الاتحاد عدداً من الانتصارات بعد أن انتهج لينكون هذا الأسلوب الجديد في القيادة، خاصة في معركتي فيكسبيرغ وغيتيسبيرغ. فقد بادر جيش الاتحاد في الهجوم، بدل انتظار التوقيت المثالي، وذلك باتباع أوامر الرئيس لينكون.
كسب الرأي العام
لقد كانت رؤية لينكون منذ توليه الرئاسة وحتى مقتله رؤية واضحة وثابتة: الحفاظ على الاتحاد. ولكن رغم وضوح هدفه وما حققه من انتصارات على الأرض، فإنّ تحدياً واحداً ما يزال يقف عقبة في طريقه: الشعب يشعر بالعنت والسأم من الحرب والإدارة. فعليه الآن أن يجد طريقة لاحتواء هذه الحالة.
كان الرؤساء تلك الفترة لا يتواصلون بشكل مباشر مع الشعب، فكانت وظيفتهم تتمثل في إدارة الحكومة والتعبير عن آرائهم في الكونغرس، وكانوا قليلاً ما يغادرون البيت الأبيض إلا لقضاء إجازة. أما في صيف عام 1863 فقد خالف لينكون هذه الأعراف وخرج من القيد الاجتماعي الذي يفرضه على البيت الأبيض. واستفاد من النجاحات التي أحرزها في حملة كتابة الرسائل للشعب البريطاني للدعوة للاتحاد، واستخدم هذه المهارة في ما بعد في دولته. وقد وزع قرابة 500 ألف نسخة من رسالة واحدة من رسائله، ويقال إنّها قرئت من قبل أكثر من 10 ملايين شخص. لقد آتى تواصل لينكون مع العامة ثماره، وقد ساعده ذلك على ضمان دعم الناس له خلال فترة رئاسته منذ عام 1863 وحتى اغتياله عام 1865.
لقد قرر الرئيس بحزم أن يخالف الأعراف السائدة في الماضي لخلق علاقة جديدة مع الجيش ومع الشعب.
إنّ النجاح في بناء المستقبل يتطلب إتقان تجاوز الماضي، فنختار عن وعي ترك بعض الممارسات والتوجهات التي تقف في طريق بناء المستقبل. ولكن كيف نعرف ما يجدر بنا تركه؟ من الضروري أن نفرق بين أصولنا وتقاليدنا والمعتقدات الأخرى التي يمكن الاستغناء عنها. لو قمنا بقطع أصول شجرة ما، فإن هذه الشجرة ستموت، فالأصول، كالإخلاص للهدف والرؤية لها قيمة متجاوزة للزمن وعلى أي قائد أن يحترمها ويعززها. ولكن لدى كل شخص ومؤسسة معتقدات بالية، وإن لم نحسن التحرر منها، فإننا سنبقى عالقين بها ولن نتمكّن من تحقيق المستقبل الذي نطمح إليه.