ملخص: مرَّ القادة بفترة عصيبة للغاية خلال العامين الماضيين، فقد حاولوا من جهة طمأنة مرؤوسيهم والحفاظ على تركيزهم في مواجهة حالة عدم اليقين التي بدا أنها لا آخر لها، ومن جهة أخرى غالباً ما كانوا يعانون هم أنفسهم حالة من التوتر والاحتراق الوظيفي في أثناء تعاملهم مع تحديات الصحة العقلية المتزايدة لموظفيهم. فكيف يستطيعون الحفاظ على توازنهم وتقديم رسالة واضحة ومتفائلة لفرقهم حينما تضطرهم الظروف إلى إعادة التمحور بشكل متكرر مع تغيُّر الظروف؟ نستعرض فيما يلي 3 استراتيجيات عملية من أجل "القيادة خلال الأوقات العصيبة"، تساعد القادة على الاعتناء بأنفسهم، وتتمحور كلها حول فهم الفرد لعقله وإدارته: احذر غرورك، وفَضِّل الشجاعة على الراحة، ومارس الشفافية المصحوبة بالرعاية.
أدى القادة على مدى العامين الماضيين عملهم على أحسن ما يكون، فقد سعوا لتحقيق الاستقرار في ظل ظروف استدعت منهم التعامل مع جائحة مزعزعة يصعب التنبؤ بتداعياتها، وعانوا كافة أشكال الصعوبات من أجل تعيين الكفاءات في ظل نقص المواهب الذي وصل إلى أعلى مستوياته منذ 15 عاماً، وأعادوا صياغة السياسات لتلبية مطالب الموظفين بمنحهم مزيداً من المرونة في العمل. وأدت الموجات المتلاحقة من متحوّرات فيروس كورونا واندلاع الحرب في القارة الأوروبية إلى تفاقم مخاوف القادة الذين لم يدخروا وسعاً لطمأنة موظفيهم والحفاظ على تركيزهم في مواجهة حالة عدم اليقين المستمرة مع عدم وجود دليل ملموس لما سيحدث في المستقبل القريب. وقد تم نصحهم بالتسليم بالأمر الواقع و"تقبل حالة عدم اليقين" كما لو كان ذلك أمراً طبيعياً وسهلاً. (ولكنه ليس كذلك). وغالباً ما تتراجع أهمية معاناتهم الناجمة عن تعرضهم للشعور بالتوتر والاحتراق الوظيفي ويعطون الأولوية للتعامل مع تحديات الصحة العقلية المتزايدة لموظفيهم.
وينتاب الكثير من القادة في الوقت الحالي حيرة بالغة ما بين الرغبة في تقديم رسالة واضحة ومتفائلة للموظفين من جانب وضرورة الرجوع إلى الخلف وخلق مجال لحرية الحركة بشكل متكرر بما يتناسب مع تغير الظروف من جانب آخر. وهذا اختيار مرهق في واقع الأمر.
إذ يحتاج القادة أكثر من أي وقت مضى إلى استراتيجيات عملية للعناية بأنفسهم وفرقهم. وقد عملنا في شركة "بوتينشال بروجيكت" (Potential Project) على تدريب الآلاف من القادة، وبدأنا من جزئية غير متوقعة إلى حدٍّ ما، وذلك بأن حاولنا مساعدتهم على فهم عقولهم هم أنفسهم وإدارتها. وللأسف لا يستطيع أي إنسان التحكم فيزيائياً في عقله، لأن العقول تتميّز بامتلاكها أنماطاً عصبية وأوضاعاً افتراضية، ولكن يمكننا تدريبها بحيث تعمل لصالحنا وليس ضدنا.
ونستعرض فيما يلي 3 نصائح نوصي القادة باتباعها حتى يتمكنوا من أداء مهمتهم بنجاح في هذه الحقبة الغامضة.
احذر غرورك
يقول الكثيرون عن أنفسهم إنهم يضعون مصالح الآخرين في الاعتبار، في حين أن الحقيقة الماثلة أمامنا بوضوح تشير إلى أن غرورنا يشكّل قوة فاعلة في حياتنا وأننا نحرص كل الحرص على تحقيق المنفعة الذاتية لأنفسنا والحفاظ على مصالحنا الشخصية.
وعندما نرتقي في المناصب القيادية، فمن الطبيعي أن يتضخَّم إحساسنا بالأنا ويزداد غرورنا. وإذا داخَلَنا هذا الإحساس، فسيزداد تعرضنا لخطر اتخاذ قرارات سيئة والوقوع في الزلات. وتؤدي الأنا المتضخمة إلى تضييق رؤيتنا وتجعلنا نبحث عن المعلومات التي تؤكد ما نريد تصديقه، فنفقد القدرة على رؤية الأمور من منظور مختلف وتنتهي بنا الحال إلى الوقوع في فقاعة قيادية لا نرى فيها ولا نسمع إلا ما نريده بدلاً من رؤية الصورة كاملة. وفي مواجهة الانتكاسات والنقد، نجد صعوبة أكبر في الاعتراف بأخطائنا والتعلم منها.
وقد شهدنا في الصيف الماضي مثالاً جيداً على أثر الغرور في الواقع. فعلى الرغم من ظهور "متحوّر دلتا" ثم تفشيه بمعدلات مخيفة، فقد أكد الرئيس التنفيذي لمجموعة "مورغان ستانلي" جيمس غورمان، بثقة تامة أن موظفيه سيعودون إلى المقرات المكتبية لعملهم في شهر سبتمبر/أيلول. حتى إنه هدد بقطع رواتب أولئك الذين لم يسيروا وفق الخطة المرسومة ورفضوا العودة إلى المقرات المكتبية. وعندما فشل في تحقيق رؤيته، كان لدى غورمان على الأقل الشجاعة للاعتراف بأنه كان مخطئاً، بدلاً من مضاعفة تبعات خطته الفاشلة. وقال لشبكة "سي إن بي سي" في شهر ديسمبر/كانون الأول: "كنت مخطئاً في هذا الأمر، كنت أعتقد أننا قد تجاوزنا الأزمة، ولكن الحقيقة لم تكن كذلك، لا يزال الجميع يتلمسون طريقهم".
وقد يؤدي الغرور إلى تدمير قدرتنا على التحلي بالمرونة في عالم عشوائي لا يمكن التنبؤ بأحداثه. وحينما نُقيد شعورنا بالغرور، فإن هذا سيمنح القادة بعض الحرية وعدم الخوف من اتخاذ قرارات غير موفقة وارتكاب أخطاء والاعتراف بأنهم بشر يصيبون ويخطئون.
فَضِّل الشجاعة على الراحة
يميل البشر بطبيعتهم إلى الوصول إلى اليقين والعيش في أمان ويحاولون بكل ما أوتوا من قوة تجنب المخاطر والمتاعب، وهذه الخصال متأصلة في كل إنسان، حتى إننا قد نبذل كل ما في وسعنا في واقع الأمر لإقناع أنفسنا بأن البقاء ضمن منطقة الراحة الخاصة بنا هو خير ما نفعله. وفي مثل هذه الحالة نكون في أمسّ الحاجة لبعض الشجاعة لمواجهة هذا الوضع. وتختلف الشجاعة عن عدم الخوف. إذ لا يزال بإمكاننا الشعور بالخوف من اتخاذ قرار صعب أو الإعلان عن أخبار سلبية، لكننا نجد القوة الداخلية للتغلب على الخوف والخروج من مناطق راحتنا والمضي قدماً.
وقد حكت لنا الرئيسة التنفيذية لشركة "أفانادي" (Avanade)، باميلا ماينارد، عن تجربتها مع الخوف. وشركة "أفانادي" هي شركة تكنولوجيا عالمية يعمل بها 45,000 موظف. ففي عام 2020، وبعد 6 أشهر فقط من شغلها منصب الرئيسة التنفيذية، كانت بحاجة إلى التعامل مع تداعيات الجائحة العالمية. فقد أقدمت مؤسسات كثيرة على خفض أعداد قوة العمل للحفاظ على استمرارية أنشطتها التجارية. لكن باميلا قطعت على نفسها عهداً في وقت مبكر من الأزمة بحماية الوظائف، حتى لو بدا أن ذلك يمثل خطراً من نوع ما، وقد قالت: "بصفتي رئيسة تنفيذية جديدة، شعرت بالتحدي في اتخاذ هذا القرار لأنني أردت أن أكون قائدة بالمعنى الحقيقي للكلمة وأن أقود النمو وأن أحقق أهدافي. ولكن في هذا الموقف الذي يحدث مرة واحدة في العمر، كانت أهم مسؤولياتي تنصّب على رعاية موظفينا، لم يكن هناك خيار آخر ولا أولوية أهم منها".
ألغت باميلا متطلبات محاسبة الاستشاريين في الأشهر الأولى من الجائحة ورفعت حدود الإجازات المدفوعة لأن الموظفين كانوا بحاجة إلى النأي بأنفسهم عن الآخرين. لقد رأت الفرصة سانحة أمامها من منطلق منصبها كقائدة لإظهار شجاعة حقيقية وقيادة السفينة خلال الأوقات العصيبة. وقد أطلعتنا على المبدأ الذي لطالما استرشدت به طوال حياتها المهنية، إذ قالت: "لا ضير أن تشعر بالخوف، ولكن لا بد من الإقدام وعدم التهيُّب". وقد واجهت خوفها في هذه اللحظة من تأثير سلوكها سلباً على أداء الشركة وإصابة أصحاب المصالح فيها بالإحباط، وأظهرت قيم شركة "أفانادي" على أرض الواقع.
ويضعنا تفضيل الشجاعة على الراحة في موقف ضعف لأن الشجاعة قد تعرّضنا للنقد وتجعلنا عرضة لارتكاب الأخطاء حينما نغامر في منطقة غير مضمونة العواقب ومحفوفة بحالة من عدم اليقين، لكن هذا الضعف البشري يفتح الأبواب للآخرين ليبدوا ضعفهم البشري أيضاً. وإذا واجهنا مخاوفنا وفشلنا في بعض الأحيان، فإننا بذلك نسمح للآخرين برؤية جانبنا الإنساني ودعوتهم للإفصاح عن مخاوفهم أيضاً.
مارس الشفافية المصحوبة بالرعاية
ذكرت شركة "ماكنزي" في تقرير لها أن أكثر من ثلاثة أرباع المسؤولين ذوي المناصب التنفيذية العليا الذين شملهم الاستقصاء يتوقعون عودة الموظفين العاديين إلى المقرات المكتبية في وقت ما لمدة 3 أيام أو أكثر في الأسبوع. وفي الوقت نفسه، أشار ما يقرب من ثلاثة أرباع الموظفين البالغ عددهم 5,000 موظف الذين شملهم الاستقصاء إلى أنهم يرغبون في العمل من المنزل لمدة يومين أو أكثر في الأسبوع. ومن المفهوم أن ينظر القادة للعودة إلى المقرات المكتبية باعتبارها شيئاً إيجابياً؛ فهي تعني للبعض نهاية عصر الفوضى والعودة إلى التقاليد المتعارف عليها وإحكام السيطرة على بيئة العمل، وقد تعني للبعض الآخر أفضل حل ممكن لحالة الانفصال والإعياء التي عانيناها جميعاً وأثقلت كاهلنا خلال فترة العمل عن بُعد.
لكن التضارب ما بين التوقعات والخطط المُعلَن عنها التي تتعارض مع ميول الموظفين أمرٌ خطِر قد يؤدي إلى تآكل الثقة المتبادلة. ولا يكمن الحل في أن يتجنب القادة الاستراتيجيات والخطط التي لا تحظى بالشعبية على الرغم من ضرورتها، وغالباً ما تكون قيادة الشركة منوطة بهذا العمل الشاق، لكن نهج الرعاية والتعاطف يجب أن يتصف بالشفافية قدر الإمكان.
وتعني الشفافية المصحوبة بالرعاية طرح الرؤى والأفكار في العلن لإبراز الجوانب التي قد تكون خافية عن البعض في كثير من الأحيان، كما تعني الانفتاح على الآخرين والصدق معهم بشأن ما يدور في أذهاننا وقلوبنا. فنحن لا نُحجِم عن الإفصاح عن المعلومات المهمة خوفاً من تلقيها بصورة سلبية أو تشويه صورتنا في عيون المتلقين. وهكذا نستطيع التخلص من القوة التي تصاحب المعرفة الحصرية ونسهم في تكافؤ الفرص. ونتيجة لذلك، يعرف الجميع موقفهم وما سيحدث في المراحل اللاحقة ويمكنهم بناءً على ذلك تحديد مسار حياتهم بشكل أفضل. وتختلف الشفافية عن الصراحة في أنك تستطيع أن تكون صريحاً ولكنك مع ذلك تُخفي المعلومات، أما الشفافية فتعني أن الآخرين يعرفون ما يدور في ذهنك. وعندما تضيف الرعاية إلى الشفافية، فإن الآخرين يعرفون أيضاً ما يعتمل في قلبك.
وتساعد الشفافية المصحوبة بالرعاية على وضع كلٍّ من القادة والموظفين في الاتجاه نفسه، ما يؤدي بدوره إلى تحقيق نتائج إيجابية. وقد درسنا في البحث الذي أجرته شركة "بوتينشال بروجيكت" النتائج التي تحققت عندما يرى كلٌ من القادة ومرؤوسيهم أن القائد يتعامل مع موظفيه بطريقة تنم عن التعاطف (بشجاعة وحضور وشفافية). ولاحظنا تحسُّن الرضا الوظيفي بنسبة 11% وازدياد الالتزام المؤسسي بنسبة 10% وتراجع الاحتراق الوظيفي بنسبة 10%.
لا شك في أن قيادة الآخرين أمرٌ صعب في الأوقات العادية، ولكن من المؤكد أن القيادة خلال الأوقات العصيبة التي تشهد تغيرات متلاحقة وحالة دائمة من عدم اليقين أصعب بكثير. وقد يشعر المرء أنه محاصر في فقاعة معتمة في ظل الحاجة إلى تحديد أفضل مسار للمضي قدماً وسط معلومات منقوصة والحاجة إلى اتخاذ قرارات قد لا تلقى قبولاً واسعاً. وننصح القادة في هذه الظروف غير المواتية بأن يسمحوا لمَشعَل إنسانيتهم بتفجير هذه الفقاعة وإعادة التواصل مع مَنْ حولهم. عليهم أن يعترفوا بالأخطاء عندما يخطئون وأن يختاروا الشجاعة حتى إذا جعلتهم يشعرون بضعفهم البشري وأن يفصحوا عمّا يدور في أذهانهم وما يعتمل في قلوبهم. قد يكون الأمر مخيفاً في البداية، لكنه أفضل شيء يمكنهم فعله لفرقهم ولأنفسهم.