كيف يمكن القيادة إلى مرحلة التعافي من جائحة كوفيد العالمية؟ "تعود شركتنا إلى نشاطها أسرع كثيراً مما تخيلت. هذه أخبار جيدة بالفعل، ويجب أن أشعر بالحماس. لكن لماذا لا أشعر بالراحة؟" هذا ما قاله لي أحد كبار القادة مؤخراً.
عندما تبدأ الحكومات بتخفيف القيود وتحفيز النمو الاقتصادي، تبدأ مرحلة التعافي من جائحة "كوفيد-19" بالتكشف للشركات. ظاهرياً، تتعلق هذه المرحلة بالعودة إلى الوضع الطبيعي، مع بدء العمليات من جديد والعودة إلى المكاتب وخطوط الإنتاج والمتاجر. في أوروبا، (حيث أعيش) بدأت دول كثيرة بإنهاء حالة الإغلاق العام، إذ يندهش كثير من القادة الذين أتحدث إليهم من سرعة التعافي وعودة الحياة اليومية إلى ما كانت عليه قبل الأزمة.
أما تحت هذا السطح، ثمة اضطراب مستمر. في البداية، كنت أتوقع أن يشعر القادة بالاندفاع جراء دفقة شعور النصر التي تجتاحهم بصورة طبيعية بعد انتهاء التوتر الناجم عن مرحلة الانحدار. غير أن كثيرين تحدثوا عن مشاعرهم المختلطة، إذ تشابك إحساسهم بالتفاؤل والوضوح مع الشعور بضرورة الانسحاب، والخسارة والشك. وحتى بين القادة الذين نجحوا في مواجهة الأزمة، فإن غياب الشعور بالراحة هو القاعدة لا الاستثناء.
أصبح التعافي يمثل التحدي الجديد للقادة والفرق. إذاً، ما الذي يمكنك توقعه في هذه المرحلة، وكيف يمكنك تجاوزها؟
مواجهة الواقع الجديد
ظهرت ثلاثة مواضيع رئيسة في المحادثات التي أجريتها مع القادة وفرقهم في الأسابيع الأخيرة حول تجاربهم في إدارة مرحلة التعافي، وهي:
أبرز النقاط التي أظهرتها الأزمة ولم تكن متوقعة آخذة بالتراجع الآن. وهي صناعة القرار السريعة؛ وكفاءة الاجتماعات؛ والتواصل الصريح والمقتضب والمتكرر؛ وحرية تنظيم يومك وعملك من المنزل؛ والتفاعلات غير الرسمية الصادقة بين أفراد الفريق.
ذكر أفراد عدد من الفرق أنهم يفتقدون الدفقة المحفزة التي تولدها حالة الطوارئ والمشاعر العميقة التي اختبروها أثناء فترة الإغلاق العام فيما يتعلق بالمعنى والمجتمع. كانوا يرغبون في استدامة هذه الطرق الجديدة في العمل والحفاظ على الإحساس بالإلحاح والحميمية الذي عاشوه في الأزمة. لكن نواياهم الحسنة تلاشت مع العودة السريعة بصورة مفاجئة للاجتماعات المتعاقبة المستمرة من التاسعة صباحاً حتى الخامسة مساء. تبين أن الوضع "الطبيعي الجديد" ليس جديداً على الإطلاق، لذا فهو يبدو وكأنه فرصة ضائعة.
ربما بدت مقارنة مشاعر مرحلة التعافي بمتلازمة إجهاد ما بعد الصدمة مبالغة نوعاً ما، لكن ثمة تشابه بينهما. أحد أكثر ردود الفعل الشائعة بين الجنود العائدين من المعركة هو أن الحياة اليومية تبدو غير مهمة على نحو مناف للعقل مقارنة بالمعارك التي خاضوها فيما سبق، ويمكن أن يبدو الوقوف في طابور "السوبرماركت" أو الاستماع لشكوى الناس بشأن الطقس عادياً لدرجة مستفزة بعد التعامل مع حالات الطوارئ على مدى أسابيع.
مشاعر متشابكة لم نتمكن من حلها. يقول القادة الذين أتحدث إليهم أنهم تعلموا أشياء جديدة كثيرة عن أنفسهم وعن أقرب زملائهم إليهم. من منهم يرتقي إلى مستوى الحدث، ومن يفقد ثقته، ومن يبدي ردود فعل حادة، ومن يلتزم الصمت، وكيف تتطور هذه السلوكيات مع تكشف الأزمة؟
شدد أحد القادة في قطاع الإعلام على مدى افتخاره بزملائه، حين يقول: "لا أعتقد أني قدّرت زملائي بهذه الطريقة من قبل قط. عندما ضربنا فيروس كورونا، واجهناه جميعنا معاً وتساعدنا فيما بيننا. كانت القضية الأسمى تشكل دافعاً للجميع، وانتقلنا إلى نظام التسلسل الإداري الجديد بصورة أسرع من أي وقت مضى. كنا مجبرين على التعامل بصراحة شديدة فيما يخص قدراتنا وطاقاتنا. بصراحة، كان ذلك مثيراً للحماس حقاً".
وبالفعل، كان ذلك يبدو وكأن "النظام التشغيلي العاطفي" لدى جميع الفرق قد أعيد ضبطه. وإعادة الضبط هذه تشكل ضغطاً نفسياً كبيراً، إذ تكشف عن الروابط القوية والضعيفة في الفريق، وكل هذا يتطلب إعادة ضبط صورتك الذاتية وديناميات الفريق عندما تعود الأمور إلى وضعها الطبيعي.
عبء العمل القادم. بدأ القادة والفرق يرون بوضوح أن مرحلة الإغلاق العام كانت في الحقيقة الجزء الحاد من الأزمة، وأن عليهم الآن التفاعل مع تحديات أعمق وقابلة للتكيف أكثر في شركاتهم وأساليب قيادتهم.
تكمن المفارقة في أنه أثناء فترة الطوارئ، كان الإحساس بالهدف واضحاً للغاية، وهو: تحرك الآن، أنقذ الشركة. ومع تكشف مرحلة التعافي، تبرز أسئلة أساسية أكثر وملحة أكثر، وهي: ماذا سيأتي بعد ذلك؟ ما هي الأجزاء التي ستكون مهمة في المستقبل من أعمالنا ومؤسستنا؟ ما الذي يجب علينا فعله استعداداً لموجة ثانية أو ثالثة من الجائحة؟ ما هي الصورة الكبيرة الجديدة؟
كيف يمكن للقادة التعامل مع مرحلة التعافي من جائحة كوفيد العالمية؟
يشكل غياب الشعور بالراحة إشارة إلى أنك تحمل عبء عمل نفسي كبير كجزء من مرحلة التعافي أيضاً. ويجب عليك كقائد أن تعي ما يجري في فريقك وفي الخطوط الأمامية في مرحلة التعافي، وأن تكيف أسلوبك في القيادة حسب الحاجة.
أولاً، تشير مرحلة التعافي إلى بداية تحد أوسع، وليس نهاية الأزمة. وأحد الأمور الصعبة فيما يخص أزمة "كوفيد-19" هي عدم وجود "يوم استقلال" منها، حيث تنتهي تماماً. فهي لم تنته في معظم الأماكن، ويمكن أن تستمر نتائجها مدة أطول وتكون أصعب من الاضطراب الذي شهدناه عند الاستجابة الأولى للجائحة في بداية انتشارها. ومن الضروري أن تأخذ هذه النتائج في الحسبان في قيادتك، ويجب عليك أن تواجه نفسك وفريقك بهذه الحقيقة القاسية إلى حد ما.
كيف ذلك؟ لا تفكر بالتعافي على أنه مجرد العودة إلى العمل وإلى عاداتك القديمة. بل أنشئ له معنى جديداً. اطرح الأسئلة التالية: "ما هو المغزى من هذه الأزمة؟ ماذا سنفعل إذا حدث ذلك ثانية؟ ما الذي تعلمناه من هذه الحالة؟ كيف يمكننا التحرك بصورة أسرع في المرة القادمة؟" اعثر على إحساس تفاؤل واقعي، "ما الذي يجب علينا تغييره؟" يجب تحديد الأولويات من جديد وتعديل الخطط وإعادة توجيه الموارد. يقيم قادة مثل رئيس شركة "سيمنز"، جيم هاغمان سنيب، حملة يدعون فيها إلى "التجديد، وليس العودة". هذا هو جوهر القيادة في مرحلة التعافي.
ثانياً، أعد ضبط فريقك. تؤدي الأزمات عادة إلى إعادة ترتيب التراتبية غير الرسمية في الفريق لسببين، وهما تغير الأمور الملحة والأمور المهمة، وظهور أبطال جدد ونشوء علاقات جديدة. وفي حين يمكن ألا تتغير البنية الرسمية للفريق، يمكن أن تتعرض البنية غير الرسمية للزعزعة تحت السطح ويصبح من الضروري ترتيبها أو إعادة النظر فيها من جديد. فكر بمرحلة التعافي على أنها نقطة انعطاف تغير طريقة تعاون فريقك، وليس نقطة عودة تقوده ثانية إلى الروتين المألوف.
إليك مثالاً عن فريق استطاع المضي قدماً. استدعى الرئيس التنفيذي لشركة أثر عليها الإغلاق العام بشدة فريقه القيادي من أجل التفكير فيما تعلموه في شهور الطوارئ والإغلاق العام وبدايات مرحلة التعافي. أنهى الرئيس التنفيذي الاجتماع بطرح السؤال التالي: "هل تفضلون لو أنكم لم تمروا بهذه التجربة؟" وكانت المفاجأة في جواب أكثرية أفراد الفريق بالنفي. كانت الأزمة مكلفة من منظور الشركة والمنظور الشخصي على حد سواء، لكن فوائدها فاقت هذه التكاليف.
اختصر أحد الأفراد المفارقة في الأزمة بقوله: "بالنظر إلى الأرقام، تراجعت شركتنا أعواماً عديدة، لكن من ناحية الثقافة، قذفتنا الأزمة إلى مستقبل لم نكن نتخيله، ومن الناحية الاستراتيجية، اكتسبت عملية التحول التي خضناها زخماً لم نكن سنتمكن من توليده بمفردنا".
والدرس الرئيسي الذي نستخلصه من سبب حدوث ذلك هو أن الأزمة كشفت مواهب خفية وميزات لم تكن مرئية. وكانت النتيجة النهائية من اجتماع القادة إعادة ضبط رسمي للأدوار والمسؤوليات في الفريق، بناء على احتياجات الشركة الجديدة التي أظهرتها الأزمة، وبناء على الميزات الخاصة التي أظهرها كل واحد من أفراد الفريق.
صحيح أنه ليس بإمكان جميع قادة الفرق التوصل إلى نفس هذه النتيجة، لكن يمكن لجميع الفرق الاستفادة من إجراء بحث موجه عن نتائج الأزمة الإيجابية والتفكير في التغييرات التي طرأت على علاقات أفراد الفريق فيما بينهم وعلى علاقتهم بعملهم. يمكن أن يكون لتخصيص بعض الوقت لهذا النوع من اللقاءات التي تهدف لاستخلاص المعلومات أثر علاجي للفريق، وأن يحدث الحركة التي تحتاج إليها للتقدم.
ثالثاً، عد إلى العمل وأعر الأمور الصغيرة انتباهك. يدرك كثير من القادة أن العودة إلى العمل الآن أصعب من الإغلاق. فالعودة إلى المكاتب الآن تنطوي على خطورة أكبر وتتطلب مزيداً من الخيارات والقرارات المفصلة بدقة، أكثر مما كان عند الطلب من الموظفين العمل من المنزل. لماذا؟ لأن المسائل المرتبطة بالعودة إلى العمل لا تخص مشكلات مجردة، أو تدخلات الأزمة الحادة أو التحركات الاستراتيجية، بل تخص الأمور العملية واليومية، وتغييراً جذرياً في المشهد بالنسبة لكثير من القادة. يبدو الأمر مثل ترتيب غرفتك بعد خوض معركة كبيرة فيها.
وعلى الرغم من أن النقاشات حول "طريقة فتح المكاتب من جديد" تبدو وكأنها واجب لا تحدّ، فمن الضروري أن تأخذ الأمور الصغيرة على محمل الجد وأن توضح التفاصيل. احترم القواعد الأساسية للتباعد الاجتماعي في المكتب، فكل شخص لديه أفكاره الخاصة حول درجة الاقتراب التي تعتبر خطرة. وضح الالتزامات وابق حاضراً على الإنترنت عند العمل من المنزل، كي لا يشعر الموظفون بسخط عندما يعمل بعضهم من المنزل في حين يبقى البعض الآخر في المكتب. احرص على الاستمرار في تسهيل الأعمال الرقمية الروتينية الجديدة التي رأى شركاؤك وزملاؤك وعملاؤك فيها الفائدة. حاول أن تعثر على المتعة من جديد في الأعمال الروتينية واستثمر في شروط العمل غير الرسمية.
لا تكن كأحد القادة في القطاع المالي، الذي كان متوتراً للغاية وقد اكتفى من النقاشات حول موعد عودة فتح ركن القهوة والعصير في الشركة، فانفجر صارخاً: "من يهتم بالقهوة والعصير الآن؟" في الحقيقة، لم يكن الملجأ المجاني المتمثل في ركن العصير والقهوة بهذه الأهمية قط، فالموظفون يحتاجون إلى أماكن ومساحات وفرص لإعادة التواصل فيما بينهم ومشاركة الخبرات وإجراء جميع هذه المحادثات الصغيرة التي تجدد الحياة الاجتماعية في العمل. ففي هذا الركن يمكنك أن تسأل زملاءك عما سيفعلونه في إجازاتهم، وعن أحوال زوجاتهم وأزواجهم وأطفالهم ومدى تأقلمهم مع الوضع. وأن تسأل عمن لديه أولاد سيتخرجون من المدرسة، ومن لديه أقرباء مرضى.
يجب ألا تبدو العودة إلى المكاتب كلعبة الكراسي أو مناورة لوجستية. بل اعتبرها عملية إعداد موظفين جدد للدخول إلى الفريق، واحرص على تقديم ثقافة الشركة لهم (من جديد) وتحفيز الحياة الاجتماعية المهنية. هذه فرصة نادرة نوعاً ما لتعيد تنفيذ خطة الأيام التسعين الأولى من البداية.
تجاوز مرحلة التعافي من جائحة كوفيد
القيادة في الأزمات سيف ذو حدين. فالمهارات وأنماط ردود الأفعال التي تتيح لك الأداء على نحو جيد في حالة الطوارئ قد تصبح نفسها مدمرة عندما تحاول العودة إلى وضع يشبه الوضع الطبيعي. أي أن تصميمك المقنع الذي جعلك تعمل بكفاءة في البداية قد يتحول إلى إدارة تفصيلية متعنتة. والمراقبة المستمرة قد تولد التوتر وحتى الحذر المفرط. وتعزيز الإنتاجية على مدى فترة مطولة قد ينجرف ليصبح اندفاعاً غير مكبوح. من الضروري أن تعرف متى يجب أن تتوقف.
وفي الوقت نفسه، لا يمكن للقادة الانصياع للنزعة الطبيعية نحو الانسحاب والاسترخاء وافتراض أن الفريق سيعيد ضبط نفسه بسهولة ما أن يبدأ موج البحر بالاستقرار. ثمة حاجة إلى الظهور المستمر وإعادة التوجيه الهادف والاهتمام المستدام بالتفاصيل.
مع تطور الأزمة، يجب عليك تغيير نهج القيادة الذي تتبعه. وفي مرحلة الطوارئ، يجب على القادة الانتقال إلى الخطوط الأمامية ومحاربة النيران. وفي مرحلة الانحدار، يجب على القادة التراجع واحتواء الاضطراب العاطفي الذي يعيشه أفراد فرقهم. وفي مرحلة التعافي، يجب على القادة تحقيق توازن جديد بين توجيه عملية سلسة للعودة إلى الوضع الطبيعي، مع الإلحاح على تجديد المستقبل، وإعادة النظر في هذا المستقبل في نفس الوقت.
لهذا السبب، أنت لا تشعر بالراحة: فعملك كقائد أزمة لم ينته بعد من أجل التعافي من جائحة كوفيد العالمية.