الموظفون تواقون إلى تبني عملية إعادة تدريبهم – وعلى الشركات اغتنام ذلك بوصفه فرصة لتعزيز التنافسية.
ثمة مدراء عديدون لا يثقون كثيراً بقدرة موظفيهم على النجاة من التقلبات والمنعطفات التي يمر بها اقتصاد سريع التطور.
"غالبية الموظفين الذين يشغلون الوظائف الآخذة بالاختفاء لا يدركون ما ينتظرهم". هذا ما قاله لنا مؤخراً رئيس قسم الاستراتيجيات في أحد كبار المصارف الألمانية. "العاملون في مركز الاتصالات لدي إما غير قادرين على التغيير أو غير راغبين فيه".
هذا النمط من التفكير شائع، لكنه خاطئ، كما عرفنا بعد أن أجرينا استطلاعاً للآراء شمل آلاف الموظفين في أنحاء العالم. ففي عام 2018، وفي محاولة لفهم مختلف القوى التي تحدد شكل مستقبل العمل، اشترك كل من مشروع إدارة مستقبل العمل في كلية هارفارد للأعمال ومعهد هندرسون التابع لـ "بوسطن كونسلتينغ جروب" معاً لإجراء استطلاع شمل 11 دولة هي البرازيل، والصين، وفرنسا، وألمانيا، والهند، وإندونيسيا، واليابان، وإسبانيا، والسويد، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة، حيث جمعنا ردود ألف عامل في كل بلد من هذه البلدان. ركزنا في هذا الاستطلاع حصراً على الموظفين الأكثر عرضة للديناميكيات المتغيرة، ألا وهم العمال ذوو الدخل الأقل والمهارات المتوسطة. كانت غالبيتهم تكسب أقل من دخل الأسرة المتوسطة في بلدانهم، وكان جميعهم لا يملك أكثر من تعليم لمدة عامين في مرحلة التعليم ما بعد الثانوي. أجرينا بعد ذلك وفي كل بلد من ثمانية بلدان هي: البرازيل، والصين، وفرنسا، وألمانيا، والهند، واليابان، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة، استطلاعاً شمل 800 من قادة الشركات (ممن كانت شركاتهم تختلف عن شركات العمال الذين شملهم الاستطلاع). بالإجمال، جمعنا آراء 11 ألف عامل و6,500 قائد شركة.
كانت النتيجة التي توصلنا إليها مذهلة: فقد نظرت المجموعتان إلى المستقبل بطرق مختلفة اختلافاً جوهرياً. ونظراً لتعقيد التغييرات التي تواجهها الشركات اليوم، والسرعة التي تحتاج بها إلى اتخاذ القرارات، فإن هذه الفجوة في التصورات تترك تبعات أكثر خطورة وأمضى تأثيراً بالنسبة للمدراء والموظفين على حد سواء.
وكما يمكن لأي منا أن يتنبأ، فإن قادة الشركات يشعرون بالقلق على خلفية معاناتهم في إدارة القوى العاملة المستقبلية وحشد طاقاتها. وفي مناخ من الزعزعة الدائمة، كيف بوسع هؤلاء القادة العثور على الموظفين الذين يمتلكون المهارات التي تحتاجها شركاتهم وتعيينهم؟ وما الذي يجب عليهم فعله مع الموظفين الذين يمتلكون مهارات عفا عليها الزمن؟ أخبرنا رئيس إحدى الشركات المتعددة الجنسيات أنه تعذب كثيراً من السؤال الأخير إلى حد أنه اضطر إلى طلب النصح من أحد رجال الدين.
لكن العمال لم يكونوا يشاركونهم هذا الإحساس بالقلق. بل كانوا أكثر تركيزاً على الفرص والمكاسب التي يخبئها لهم المستقبل، وكشفوا عن أنهم أكثر توقاً إلى تبني التغيير، وتعلم مهارات جديدة بالمقارنة مع رأي أصحاب عملهم فيهم.
طبيعة الفجوة
عندما يأخذ التنفيذيون اليوم بحسبانهم القوى التي تسهم في تغيير طريقة إنجاز العمل، فإنهم يميلون غالباً إلى التفكير في التكنولوجيات المُزَعْزِعَة. لكن هذا التركيز يعتبر ضيقاً للغاية. وثمة مجموعة واسعة وملفتة من القوى التي تسهم في إدخال تحول على طبيعة العمل، والشركات بحاجة إلى أن تأخذها جميعها بالحسبان.
حددنا في بحثنا 17 قوة زعزعة وضعناها ضمن ست فئات أساسية. (راجعوا الفقرة الجانبية بعنوان: "القوى التي تحدد شكل مستقبل العمل"). استكشفت الاستطلاعات التي أجريناها مواقف قادة الشركات والعمال تجاه كل واحدة من هذه القوى. ومن خلال إجاباتهم تمكنا من استنتاج ثلاثة فروقات ملحوظة في الطرق التي تنظر بها كلتا المجموعتين إلى مستقبل العمل.
القوى التي تحدد شكل مستقبل العمل
التغير التكنولوجي المتسارع
التكنولوجيات الجديدة التي تحل مكان اليد العاملة البشرية، وتهدد الوظائف (مثل الشاحنات ذاتية القيادة)
التكنولوجيات الجديدة التي تعزز اليد العاملة البشرية أو تكملها (مثل الروبوتات في قطاع الرعاية الصحية)
التحولات الفجائية المستندة إلى التكنولوجيا في احتياجات الزبائن وتقود إلى نماذج تجارية جديدة، أو طرق جديدة في العمل، أو ابتكار أسرع للمنتجات
الفرص المتاحة بسبب التكنولوجيا للاستفادة النقدية من الخدمات المجانية (مثل خدمات أمازون عبر الإنترنت) أو الأصول غير المستغلة على نحو كافٍ (مثل بيانات الاستهلاك الشخصي)
الطلب المتنامي على المهارات
الزيادة العامة في المهارات، والمعارف التقنية، والتعليم الرسمي المطلوب لأداء العمل
النقص المتنامي في اليد العاملة المناسبة للوظائف الآخذة بالتطور السريع
توقعات الموظفين الآخذة بالتغير
تزايد شعبية الأشكال المرنة والموجهة ذاتياً من العمل التي تسمح بتحقيق توازن أفضل بين الحياة الشخصية والحياة المهنية
الانتشار الأوسع نطاقاً للرغبة في العمل الهادف وفرص التأثير في طريقة إنجازه (على سبيل المثال، قدر أكبر من الاستقلال الذاتي للفريق)
التركيبة الديموغرافية الآخذة بالتغير للقوى العاملة
الحاجة إلى زيادة مشاركة القوى العاملة من الأشخاص غير الممثلين على نحو كافٍ (مثل العمال كبار السن، والنساء، والمهاجرين، والعمال الريفيين)
نماذج العمل التي هي في الطور الانتقالي
صعود ظاهرة العمل عن بعد
نمو أشكال العمل العرضي (مثل العاملين بحسب الطلب، والعاملين المؤقتين، والمتعاقدين)
منصات العمل الحر والتشارك في العمل التي تسمح بالوصول إلى أصحاب المواهب
تنفيذ العمل من خلال أنظمة الشراكة المعقدة (التي تشمل عدة قطاعات، ومناطق جغرافية، ومؤسسات من مختلف الأحجام)، عوضاً عن إنجازه ضمن مؤسسة واحدة
بيئة العمل الآخذة بالتطور
التشريعات الجديدة الهادفة إلى التحكم باستعمال التكنولوجيا (على سبيل المثال "ضرائب الروبوتات")
التغيرات التنظيمية التي تؤثر على مستويات الأجور، بشكل مباشر (مثل الحد الأدنى للأجور أو استحقاقات التأمينات الاجتماعية) أو غير مباشر (مثل المزيد من المساعدات التي تأخذ شكل الدخل العام أو الدخل الأساسي الشامل)
التحولات التنظيمية التي تؤثر على تدفق السلع والخدمات ورؤوس الأموال عبر الحدود
التقلبات الاقتصادية والسياسية الأكبر عند شعور أفراد المجتمع أنهم متروكون لوحدهم وأن الجميع قد تخلى عنهم
"الفرق الأول هو أن العمال يدركون أكثر من القادة على ما يبدو أن مؤسساتهم مضطرة للتعامل مع عدة قوى مزعزعة، ستؤثر كل واحدة منها على طريقة عمل الشركات بشكل مختلف". وعندما طُلِبَ من الموظفين تحديد أثر كل قوة من هذه القوى السبع عشرة على حياتهم المهنية، باستعمال مقياس من 1 إلى 100، كانت العلامة التي منحوها للقوة ذات الأثر الأقوى أعلى بمقدار 15 نقطة بالمقارنة مع العلامة التي منحوها للقوة ذات التأثير الأضعف. وبالمقارنة، كان هناك فارق بتسع نقاط فقط بين القوتين اللتين حددهما المدراء على أنهما الأقوى والأضعف.
في الحقيقة، بدا القادة غير قادرين أو غير مستعدين للتفكير بطرق متمايزة حول القدرة الكامنة لهذه القوى على الزعزعة. وعندما سُئلوا عن كل قوة من هذه القوى، فإن ثلثهم تقريباً وصفوها على أنها ذات أثر هام على مؤسستهم اليوم؛ فيما توقع نصفهم تقريباً أنها ستترك أثراً هاماً في المستقبل؛ وزعم خُمْسُهم أنها لن تترك أي أثر على الإطلاق. وهذا مستوى مقلق من الانسجام في الآراء، ويشير إلى أن معظم القادة لم يحددوا بعد أي من قوى التغيير يجب أن يعطوها الأولوية.
المثير للاهتمام في الأمر هو أن العمال بدوا أكثر إدراكاً ووعياً للفرص والتحديات المرتبطة بعدة قوى. ومن بين الأشياء البارزة هو أن العمال ركزوا على الأهمية المتنامية لاقتصاد الأعمال المستقلة، ووضعوا "عمل المرء لحسابه الخاص ومنصات التشارك بالعمل" في المرتبة الثالثة لأهم 17 قوة. لكن قادة الشركات وضعوا هذه القوة في المرتبة الأخيرة بوصفها الأقل أهمية.
الفرق الثاني الذي برز من الاستطلاع الذي أجريناه كان التالي: "يبدو أن العمال أكثر قدرة على التكيف وأكثر تفاؤلاً بخصوص المستقبل مما يدركه قادتهم".
تشير الحكمة التقليدية بطبيعة الحال إلى أن العمال يخشون من أن تؤدي التكنولوجيا إلى إلغاء وظائفهم. لكن استطلاعنا كشف النقاب عن أن ذلك كان تصوراً خاطئاً. فغالبية العمال شعروا أن مظاهر التطور الحاصلة مثل الأتمتة والذكاء الاصطناعي ستترك أثراً إيجابياً على مستقبلهم. في الحقيقة، كان هذا شعورهم تجاه ثلثي القوى التي شملها الاستطلاع. أكثر ما كان يقلقهم هو القوى التي قد تسمح للعمال الآخرين - المؤقتين، ومن يعملون لحسابهم الخاص، ومن تعهد إليهم المهام خارجياً - أن يأخذوا وظائفهم.
وعندما سُئلوا عن سبب نظرتهم المستقبلية المتفائلة، كان أكثر سببين شيوعاً ذكرهما العمال هما: احتمال الحصول على أجور أفضل واحتمال الحصول على وظائف أكثر إثارة للاهتمام وذات مغزى أكبر. وقد شعروا أن كلاً من الأتمتة والتكنولوجيا تنبئان بفرص على هاتين الجبهتين - من خلال الإسهام في ظهور أشكال أكثر مرونة وذاتية التوجيه من العمل، ومن خلال إيجاد سبل بديلة لكسب المال، وعبر إتاحة إمكانية تجنب المهام التي كانت تعتبر "قذرة أو خطرة أو باعثة على الضجر".
في كل بلد من البلدان، وصف العمال أنفسهم على أنهم أكثر ميلاً للاستعداد لمكان عمل المستقبل بالمقارنة مع رأي مدرائهم بهم في هذه النقطة (ولكن في اليابان، كانت النسب المئوية شبه متساوية). مع ذلك، عندما سُئل المدراء عن السبب الذي يمنعهم من المضي إلى الأمام، فإنهم اختاروا الإجابات التي تنحي باللائمة على الموظفين، عوضاً عن توجيه أصابع اللوم إلى أنفسهم. كانت أكثر إجاباتهم شيوعاً أن العمال كانوا يخشون من التغير الكبير. أما الفكرة القائلة إن العمال قد يفتقرون إلى الدعم الذي يحتاجون إليه من أصحاب العمل فقد كانت في المرتبة الخامسة بين إجاباتهم الأكثر شيوعاً.
ينقلنا هذا إلى النتيجة الثالثة: "يسعى العمال إلى الحصول على قدر أكبر من الدعم والإرشاد لتحضير أنفسهم لوظائف المستقبل بالمقارنة مع ما تقدمه الإدارة لهم".
في كل الدول باستثناء فرنسا واليابان، أعلنت غالبية كبيرة من العمال أنهم هم - وليس حكوماتهم أو أصحاب عملهم - كانوا مسؤولين عن تزويد أنفسهم بما هو مطلوب لتلبية الاحتياجات الآخذة بالتغير السريع لمكان العمل. وقد ظل ذلك الأمر صحيحاً بالنسبة لمختلف الفئات العمرية وفي حالة الرجال والنساء على حد سواء. لكن العمال شعروا أيضاً أن هناك عقبات جدية ينبغي لهم التغلب عليها ألا وهي: عدم معرفتهم بالخيارات المتاحة لهم؛ ونقص الوقت للتحضير للمستقبل؛ وبالتحديد عدم وجود الدعم الكافي من أصحاب عملهم. كل هذه الحواجز بوسع الإدارة أن تساعد الموظفين على تخطيها ويجب عليها أن تفعل ذلك.
ما الذي بوسع أصحاب العمل فعله للمساعدة؟
إن وجود فجوة بين الآراء هو مشكلة لأنها تدفع المدراء إلى التقليل من شأن طموحات الموظفين وإلى عدم الاستثمار الكافي في مهاراتهم. لكنها تُظهُر أيضاً أن هناك خزاناً احتياطياً واسعاً من أصحاب المواهب والطاقات التي بوسع الشركات الاعتماد عليهم لتهيئة نفسها للمستقبل، والمقصود هنا هم العاملون في هذه الشركات.
يتمثل التحدي في إيجاد الطريقة الفضلى لفعل ذلك. وقد حددنا خمس طرق هامة للانطلاق في بادئ الأمر.
1- يجب عدم الاكتفاء بإنشاء برامج للتدريب فحسب - بل إيجاد ثقافة تعلم.
عندما تنخرط الشركات اليوم في التدريب، فإنها تميل إلى القيام به في أوقات محددة (عند تعريف الموظفين الجدد على المؤسسة لدى تعيينهم، على سبيل المثال)، أو بهدف تهيئة العاملين لشغل وظائف محددة (مثل بيع منتجات معينة وتخديمها)، أو عند تبني تكنولوجيات جديدة. كان هذا الأسلوب ناجحاً في وقت كان فيه التغير التكنولوجي بطيئاً نسبياً. لكن التقدم يحصل بسرعة شديدة وبهذا القدر من التعقيد اليوم إلى حد أن الشركات تحتاج إلى الانتقال إلى نموذج للتعلم المتواصل - وهو النموذج الذي يعزز مهارات الموظفين بشكل متكرر ويتيح التدريب الرسمي على نطاق واسع. كما تحتاج الشركات أيضاً إلى توسعة ما في جعبتها من تكتيكات لتتجاوز الدورات التي تجري عبر الإنترنت أو دون إنترنت وتشمل أشياء من قبيل التعلم أثناء ممارسة العمل من خلال تحديد الموظفين المناسبين لمشروع معين والمداورة بين أعضاء الفريق. يمكن لهذه المقاربة أن تساعد الشركات في إعادة التفكير في الحواجز التقليدية التي تعيق الدخول إلى المؤسسة أصلاً (ومن بينها المؤهلات التعليمية)، والاستفادة من خزان أوسع من أصحاب الموهبة.
دعونا نأخذ بالاعتبار ما حصل مع شركة "إكسبيديتورز" (Expeditors)، وهي شركة مدرجة على قائمة "فورتشن 500" (Fortune 500) وتؤمن خدمات الشحن والشؤون اللوجستية في أكثر من 100 بلد. فلطالما اعتمدت الشركة في معرض دراستها لطلبات المرشحين لشغل الوظائف ومنذ زمن بعيد على مقاربة تقول "عيّن الأشخاص ذوي المواقف الصحيحة ثم دربهم على المهارات المطلوبة". تحظى الشهادات الدراسية بالتقدير، لكن لا يُنظر إليها بوصفها عاملاً أساسياً للنجاح في معظم المناصب. عوضاً عن ذلك، تركز الشركة وفي جميع المناصب، سواء تلك التي في المستوى الأدنى صعوداً حتى مناصب الإدارة التنفيذية العليا، على مزاج الشخص ومدى تواؤمه مع الثقافة السائدة فيها. وبعد انضمامه إلى قائمة الموظفين الآخرين، يخضع هذا الشخص إلى برنامج مكثف يحصل كل عضو في المؤسسة فيه، وبغض النظر عن أقدميته أو حداثة عهده، على 52 ساعة تعلم تزداد تدريجياً كل عام. تدعم هذه الممارسة الثقافة السائدة في الشركة والتي تقوم على مبدأ الترقية من الداخل. يبدو أن جهود "إكسبيديتورز" ناجعة: فدوران الموظفين وتركهم العمل منخفض (مما يعني وفورات كبيرة في تكاليف التوظيف والتدريب وتعريف الموظفين على المؤسسة)؛ ونسبة الاحتفاظ بالموظفين عالية (ثلث موظفي الشركة البالغ عددهم 17 ألف موظف يعملون لدى الشركة منذ 10 أعوام أو أكثر)؛ ومعظم كبار المدراء في الشركة كانوا قد ارتقوا في مناصبهم تدريجياً؛ والعديد من نواب الرئيس الحاليين والنواب الأوائل للرئيس، إضافة إلى الرئيسين التنفيذيين الحالي والسابق، حصلوا على وظائفهم على الرغم من أنهم لم يكونوا يمتلكون درجة جامعية.
2- إشراك الموظفين في العملية الانتقالية عوضاً عن جرهم كالقطيع خلالها.
عندما تمر الشركات في طور إجراء التحولات، غالباً ما تواجه تحدياً في اجتذاب أصحاب المواهب الذين تحتاج إليهم وفي الاحتفاظ بهم. ولكي تنجح في هذا المسعى، فإنها يجب أن تقدم للموظفين المسارات التي تسمح لهم بتحقيق التطوير المهني والشخصي، كما يجب أن تشركهم في عملية التغيير، عوضاً عن مجرد إبلاغهم أن التغيير قادم.
هذا بالضبط ما فعله بنك "آي إن جي هولندا" (ING Netherlands) عام 2014، عندما قرر إعادة ابتكار نفسه بطريقة جديدة. كان البنك قد اختار لنفسه هدفاً طموحاً يتمثل في التحول إلى مؤسسة تتسم بالرشاقة بين عشية وضحاها تقريباً. يتذكر الرئيس التنفيذي الحالي للبنك فينسينت فان دين بوغيرت، كيف بدأ قادة البنك بشرح أسباب التحول (لماذا) وماهيته (ماذا) لجميع الموظفين. كانت تكنولوجيات الأجهزة المحمولة والتكنولوجيات الرقمية تؤدي إلى حصول تغيير دراماتيكي في السوق في ذلك الوقت، كما أخبروا الجميع، وإذا ما رغبت "آي إن جي" في تلبية توقعات الزبائن، وتحسين العمليات، وطرح قدرات تكنولوجية جديدة، فإنها كانت مضطرة لأن تصبح أسرع وأكثر رشاقة ومرونة في العمل. ولكي تُنجز الشركة هذه المهمة، قال القادة إنها كانت تعتزم استثمار الأموال التي تقلل من التكاليف وتحسن الخدمة. لكن ذلك كان يقتضي منها أيضاً تسريح عدد من الموظفين - على الأقل ربع القوى العاملة.
شعرت غالبية من العمال أن مظاهر التقدم المختلفة مثل الأتمتة والذكاء الاصطناعي ستترك أثراً إيجابياً على مستقبلهم.
بعد ذلك جاءت الطريقة أو "كيف". فعوضاً عن ترك الفأس تقع في رأس مجموعة منتقاة من الموظفين - وهي عملية تؤدي إلى ضرر نفسي لكل الموجودين في الشركة - قررت "آي إن جي" أن كل شخص في الشركة، وبغض النظر عن مدة خدمته أو علو مركزه فيها، يجب أن يتقدم باستقالته. بعد ذلك، أي شخص يشعر أن شخصيته، وقدراته، ومهاراته ستكون مناسبة تماماً للبنك "الجديد" بوسعه أن يتقدم بطلب لكي يُوظف من جديد. وشملت هذه العملية فان دين بوغيرت نفسه. أما الأشخاص الذين لم يُعد توظيفهم فسيحصلون على الدعم من برنامج سيساعدهم في العثور على وظائف خارج "آي إن جي".
لم تسهل أي خطوة من هذه الخطوات عملية التحول في الشركة بطبيعة الحال. ولكن وفقاً لفان دين بوغيرت، فإن المقاربة القائمة على شمول الجميع التي تبنتها الإدارة خففت إلى الحد الأقصى من الألم الذي شعر به الموظفون أثناء العملية الانتقالية، كما أنها وضعت البنك الجديد الأصغر حجماً على مسار النجاح فوراً. تبنى الموظفون الذين عاودوا الانضمام إلى "آي إن جي" بفاعلية رسالتها الجديدة، وشعروا بقدر أقل من الندم مقارنة مع ما يشعر به عادة الناجون في أمثال هذه العمليات، وكرسوا أنفسهم بحماسة لمهمة إجراء عملية التحول. يقول فان دين بوغيرت: "عندما تتحدث عن "لماذا" و"ماذا" و"كيف" في الوقت ذاته، فإن الموظفين سيتحدّون "لماذا" للحيلولة دون حصول "كيف". ولكن في هذه الحالة، كان الجميع يشعرون بالإلهام أصلاً من "لماذا" و"ماذا"".
3- البحث عن أصحاب المواهب من خارج نطاق "سوق العمل الفورية."
كانت معظم الشركات الناجحة قد تبنت استراتيجيات متزايدة في قوتها للبحث عن أصحاب المواهب الأساسيين ذوي المهارات العالية. أما الآن فيجب عليها أن توسع هذه المقاربة لتشمل نطاقاً أوسع من الموظفين. أدركت "أيه تي أند تي" (AT&T) هذه الحاجة في 2013، أثناء تطوير استراتيجيتها لقواها العاملة حتى 2020، التي ركزت على كيفية إنجاز الشركة للعملية الانتقالية من شبكة تركز على العتاد إلى شبكة تركز على البرمجيات.
كان قد سبق للشركة أن خضعت لعملية تحول كبيرة مرة من قبل في 1917، عندما أطلقت خططاً لاستعمال المقاسم الهاتفية الميكانيكية عوضاً عن مشغلي المقاسم الهاتفية من البشر. لكنها نفذت عملية التحول هذه على مدار خمسة عقود! أما عملية التحول المدخلة على القوى العاملة حتى 2020 فقد كانت أكثر تعقيداً بكثير وكان يجب أن تُنجز ضمن إطار زمني أسرع.
بادئ ذي بدء، أجرت شركة "أيه تي أند تي" تدقيقاً منهجياً شمل موظفيها البالغ عددهم ربع مليون إنسان لوضع سجل بمهاراتهم الحالية ومقارنتها مع المهارات التي تتوقع أن تكون بحاجة إليها خلال مرحلة التجديد التي تمر بها وبعدها. في نهاية المطاف قمت بتحديد الشركة 100 ألف موظف ستختفي وظائفهم على الأغلب، وعدداً من المجالات التي ستواجه نقصاً في المهارات والكفاءات فيها.
تسلحت الشركة بهذه الاستنتاجات لتطلق مبادرة طموحة بقيمة مليار دولار تطبق على مدار عدة سنوات بهدف تطوير تجمع من أصحاب المواهب من داخل الشركة عوضاً عن اللجوء ببساطة إلى "سوق العمل الفورية" لتوظيف أصحاب المواهب هؤلاء. باختصار، قررت "أيه تي أند تي" أن تلبية احتياجاتها الآخذة بالتطور تتطلب منها إتاحة عملية إعادة التدريب لقواها العاملة الحالية. ومنذ ذلك الوقت، خضع موظفوها لأكثر من 3 ملايين دورة تدريبية عبر الإنترنت تقريباً مصممة لمساعدتهم في اكتساب مهارات تناسب الوظائف الجديدة في حقول مثل تطوير التطبيقات والحوسبة السحابية.
وقد أثمر هذا المسعى منافع ومكاسب غير متوقعة. فقد باتت الشركة الآن تستعين بعدد أقل من المقاولين لتلبية احتياجاتها من المهارات التقنية، على سبيل المثال. يقول أحد كبار التنفيذيين في الشركة في لقاء مع قناة "سي إن بي سي" (CNBC) في شهر مارس/ آذار الماضي: "لقد أخذنا نتحول نحو الموظفين، لأننا بدأنا نرى أصحاب المواهب داخل الشركة".
4- التعاون بهدف تكبير تجمع أصحاب المواهب.
ضمن البيئة التي تتسم بتطور سريع، من غير المفيد التنافس على أصحاب المواهب. فهو ببساطة يقود إلى مأساة للعموم. تحاول فرادى الشركات الحصول على أكبر حصة ممكنة من المواهب المتوفرة في سوق العمل، وفي نهاية المطاف تؤدي هذه المحاولات المبنية على خدمة المصلحة الذاتية فحسب إلى حالة من النقص الذي يطال الجميع.
فإذا ما أرادت الشركات تجنب تلك المشكلة، فهي ستكون مضطرة إلى إدخال تغيير جوهري على نظرتها المستقبلية وإلى العمل معاً لضمان الرفد الدائم لتجمع أصحاب المواهب بأشخاص جدد وبقائه مواكباً لأحدث التطورات. يقتضي ذلك الدخول في شراكات مع الشركات الأخرى العاملة في القطاع ذاته أو المنطقة ذاتها لتحديد المهارات ذات الصلة، والاستثمار في تطوير المناهج الدراسية، وتوفير عمليات التدريب الميدانية. كما يستدعي ذلك صياغة علاقات جديدة من أجل تطوير أصحاب المواهب. ويكون ذلك، على سبيل المثال، من خلال التعاون مع رواد الأعمال ومطوري التكنولوجيا، والدخول في شراكات مع المؤسسات التعليمية، والتعاون مع صناع السياسات.
ستكون الشركات مضطرة إلى إدخال تغيير جوهري على نظرتها المستقبلية وإلى العمل معاً لضمان الرفد الدائم لتجمع أصحاب المواهب بأشخاص جدد.
وقد بدأت شركات الكهرباء الأميركية بفعل ذلك أصلاً. ففي عام 2006، تعاونت هذه الشركات على إنشاء "مركز تطوير القوى العاملة في مجال الطاقة". تتمثل مهمة المركز، الذي لا يمتلك مقراً فعلياً والعاملون فيه هم بصورة أساسية من الموظفين السابقين في الشركات الأعضاء، في تحديد أكثر ما يحتاج إليه القطاع من وظائف ومهارات بعد تقاعد عامليه الأكبر سناً - ومن ثم تحديد الطريقة الفضلى لتكوين مَعين مناسب من أصحاب المواهب لتلبية هذه الاحتياجات. أخبرتنا الرئيسة التنفيذية للمركز آن راندازو بما يلي قائلة: "نحن معتادون على العمل معاً في هذا القطاع. وعندما تهب العاصفة، يركب الجميع شاحناتهم. وحتى لو كنا نتنافس في بعض المجالات، بما في ذلك التنافس على العاملين، فإننا جميعاً نتعاون لبناء هذا التجمع من أصحاب المواهب، وإلا فإنه لن يكون هناك ما يكفي من الموظفين".
حدد المركز بسرعة أن ثلاث من أهم الوظائف التي تتطلب مهارات وسطى في هذا القطاع -وهم عمال الخطوط والأسلاك الكهربائية، والمشغلون الميدانيون، وفنيو الطاقة- ستتلقى ضربة قوية جراء تقاعد العمال في المستقبل القريب. تشكل هذه الوظائف الثلاث مجتمعة ما يقارب 40% من القوى العاملة في أي شركة كهرباء نموذجية. ولكي يضمن "مركز تطوير القوى العاملة في مجال الطاقة" عدم شغور هذه المناصب، نفذ استراتيجية من شقين. فقد وضع مجموعة أدوات مفصلة، ومناهج، ومواد تدريبية لهذه الوظائف الثلاث، وأتاحها مجاناً لشركات الكهرباء؛ ثم أطلق تحركاً شعبياً للوصول إلى الجيل التالي من العمال وتعزيز المسارات المهنية في القطاع.
يؤمنُ "مركز تطوير القوى العاملة في مجال الطاقة" بفكرة التواصل مع أصحاب المواهب مبكراً، ومبكراً جداً. ولتحقيق هذه الغاية، فقد عمل مع مئات المدارس الابتدائية، والإعدادية، والثانوية لصياغة المواد والبرامج التي تعرف الطلاب على منافع العمل في هذا القطاع. وهي تشمل إحساساً بغاية أسمى (تقديم خدمات أساسية إلى الزبائن)؛ والاستقرار (عدم الاستعانة بعمال أجانب من الخارج لأداء الوظائف، والقليل من الإحلال التكنولوجي)؛ واستعمال الأتمتة والتكنولوجيا لجعل الوظائف أقل إنهاكاً جسدياً وأكثر إثارة للاهتمام فكرياً؛ وأخيراً وليس آخراً، وعلى سبيل المفاجأة، أجوراً أعلى. وصفت لنا راندازو البرنامج قائلة: "أنت تنمي القوى العاملة. لذلك اضطررنا إلى البدء من الصفر لإفهام الطلاب في الصفوف الدنيا ما الذي يحتاجون إلى فعله وكيف يكونون قادرين فعلاً على تنمية هذه المهارات طوال التحاقهم بالمدرسة الثانوية والكليات المجتمعية أو الجامعات. ولا يقتصر الأمر على إنجاز هذه المهمة والسلام. بل يجب علينا الاستمرار في رعاية هذه العملية".
5- إيجاد طرق لإدارة حالة عدم اليقين المزمنة.
في عالم اليوم، يعلم المدراء أنهم إذا لم يحددوا التحولات الحاصلة ولم يتجاوبوا معها بسرعة، فإن شركاتهم سوف تتخلف عن غيرها. فكيف بوسع الشركات أن تحضر نفسها أفضل تحضير؟
طرحت شركة صناعة الأثاث المكتبي "ستيل كيس" (Steelcase) بعض الأفكار المثيرة جداً. إحدى هذه الأفكار هي ما يسمى فريق "الهندسة الاستراتيجية للقوى العاملة وإدخال التحولات عليها" في الشركة. يتولى هذا الفريق مهمة مراقبة الاتجاهات الناشئة وإجراء تجارب آنية حول كيفية التجاوب معها.
أطلق الفريق منصة داخلية تدعى "لوب" (Loop)، على سبيل المثال، حيث يكون بوسع الموظفين التطوع للعمل على مشاريع تقع خارج نطاق وظائفهم. ويعتبر ذلك مفيداً للشركة وموظفيها على حد سواء: فمع ظهور احتياجات جديدة، سيكون بوسع الشركة وبسرعة تحديد الموظفين الموجودين بين صفوف قواها العاملة الذين يمتلكون الدافع والمهارات لتلبيتها، وبوسع العاملين اكتساب الخبرة وتطوير قدرات جديدة بطرق لا تسمح بها وظائفهم الحالية ببساطة.
تحتاج الشركات إلى توسعة ما في جعبتها من تكتيكات لتتجاوز الدورات التدريبية التي تجري عبر الإنترنت أو دون إنترنت وتشمل التعلم أثناء ممارسة العمل.
تبنى موظفو شركة "ستيل كيس" منصة "لوب"، ويعتبر نجاحها تجسيداً لفكرة لطالما ظهرت بوضوح في نتائج استطلاعات الرأي التي قمنا بها. وكما عبر جيل دارك، مدير فريق "الهندسة الاستراتيجية للقوى العاملة وإدخال التحولات عليها" عن الأمر قائلاً: "إذا منحت الموظفين الفرصة ليتعلموا شيئاً جديداً أو ليُظهروا حرفتهم، سيبذلون قصارى جهدهم. ويتمثل السحر في إعطاء الفرصة".
هذا درس يجب على جميع المدراء أن يتعلموه.