في 13 فبراير/شباط من العام الحالي، ذكرت نيويورك تايمز أنّ شركة أوبر تخطط لطرح اكتتاب عام. وتقدر قيمة أوبر ما بين 48 و70 مليار دولار، على الرغم من تحقيقها لخسائر على مدار العامين الماضيين. من جهتها، ذكرت تويتر تكبدها خسارة قدرها 79 مليون دولار قبل اكتتابها العام، ومع ذلك حصلت على تقييم بمبلغ 24 مليار دولار عند تاريخ طرحها للاكتتاب العام في العام 2013. وتواصلت الخسائر على مدى السنوات الأربع التالية. وبالمثل، فقد دفعت مايكروسوفت 26 مليار دولار لقاء شرائها لشركة لينكد إن الخاسرة في العام 2016، ودفعت فيسبوك 19 مليار دولار لقاء استحواذها على شركة واتساب الخاسرة في العام 2014 عندما لم تحقق أي عوائد أو أرباح. وعلى النقيض من ذلك، فإنّ سعر سهم عملاق الصناعة شركة جنرال إلكتريك، انخفض بمعدل 44% زيادة عن العام الماضي، كما جاء في الأخبار التي تناولت أولى خسائره في الخمسين عاماً الأخيرة.
ما السبب وراء رد الفعل السلبي من جانب المستثمرين على الخسائر التي تظهرها القوائم المالية للمؤسسات الصناعية، بيد أنهم يغفلون الخسائر المتعلقة بالمؤسسات الرقمية؟
في الكتاب الصادر عام 2016 بعنوان "نهاية المحاسبة" (The End of Accounting)، يرى الدكتور باروك ليف، الأستاذ في كلية ستيرن لإدارة الأعمال بجامعة نيويورك (إن واي يو) أنه على مدار المئة عام الماضية، أصبحت التقارير المالية أقل نفعاً في قرارات سوق المال. بل إنّ البحوث التي أجريت مؤخراً تجعلنا نقول بشيء من الثقة: إن المكاسب المحاسبية غير ملائمة من الناحية العملية للشركات الرقمية. فلا يستطيع النموذج المحاسبي الحالي الوقوف على مصدر خلق القيمة الرئيسية بالنسبة للشركات الرقمية: زيادة العوائد بما يتناسب مع الاستثمارات غير الملموسة.
ويصبح هذا واضحاً عندما تلقي نظرة على أهم قائمتين ماليتين في أي شركة: الميزانية العمومية وبيان الدخل. بالنسبة لشركة صناعية تتعامل مع أصول مادية وبضائع، تقدم الميزانية العمومية صورة معقولة للأصول المنتجة، بينما يقدم بيان الدخل تقديراً تقريبياً معقولاً للمصاريف والنفقات المطلوبة لخلق القيمة المضافة لحاملي الأسهم. ولكن هذه القوائم والبيانات ليس لها ذلك الوجود البارز في الشركات الرقمية.
لنبدأ بإلقاء نظرة على الميزانية العمومية. الأصول التي تظهر في الميزانية العمومية يجب أن تكون ذات طبيعية مادية أو ملموسة، ويجب أن تكون مملوكة للشركة، كما يجب أن تكون في نطاق حدودها. ومع ذلك، غالباً ما يكون لدى الشركات الرقمية أصولاً ذات طبيعة ملموسة، ويوجد لدى الكثير منها أنظمة بيئية تمتد في ما وراء حدود الشركات. لننظر مثلاً إلى أزرار أمازون، وإلى جهاز إليكسا إيكو، وسيارات أوبر، وشركة إير بي إن بي (Airbnb) للعقارات السكنية. الكثير من الشركات الرقمية ليس لديها منتجات مادية أو ملموسة، وليس لديها قوائم جرد أو مخزون يتم نشره. وبناء عليه، فإنّ الميزانيات العمومية للشركات ذات الوجود المادي وللشركات الرقمية تقدم صورتين مختلفتين اختلافاً تاماً. لنقارن بين ما لدى شركة وول مارت من أصول مادية تقدر بقيمة 160 مليار دولار، وفي المقابل تقدر قيمتها بمبلغ 300 مليار دولار، وما لدى شركة فيسبوك من أصول مادية تقدر بقيمة 9 مليارات دولار، وفي المقابل تقدر قيمتها بمبلغ 500 مليار دولار.
أما اللبنات والمكونات الأساسية التي تتكون منها أي شركة رقمية فهي البحوث والتطوير، والعلامات التجارية، والاستراتيجية التنظيمية، وشبكات النظراء والموردين، وعلاقات العملاء والعلاقات الاجتماعية، والبيانات المحوسبة والبرمجيات، ورأس المال البشري. إذ لا يختلف الغرض الاقتصادي لهذه الاستثمارات غير الملموسة عن الغرض الاقتصادي لما لدى أي شركة صناعية من مصانع وأبنية. ومع ذلك، فبالنسبة للشركة الرقمية، لا تتم رسملة الاستثمارات في مكوناتها على أنها أصول، إذ هي في المقابل تعامل على أنها نفقات عند حساب الأرباح. لذلك، كلما زادت استثمارات الشركة الرقمية في بناء مستقبلها، زادت خسائرها التي يتم الإعلان عنها. وهكذا فلا يكون أمام المستثمرين من خيار سوى التغاضي عن المكاسب في ما يتخذون من قرارات استثمارية.
لقد توصل بحثنا إلى أنّ الاستثمارات غير الملموسة فاقت العقارات والممتلكات، والمعدات والأدوات في كونها المصدر الأساسي لإنشاء رأس المال بالنسبة للشركات الأميركية، وهو ما يوحي أيضاً بأنّ الميزانيات العمومية صارت مجرد أداة تستخدم لدواعي الامتثال التنظيمي، ولا تمثل بالنسبة للمستثمرين سوى قدر بسيط من الفائدة أو ربما ليست لها فائدة من أصله. وعلى الجانب الآخر، أصبحت الميزانية العمومية أقل نفعاً بالنسبة لما تأخذه المصارف من قرارات لمنح القروض، لأن المصارف تعتمد على تغطية الأصل في حسابها لضماناتها. ومن الغريب أنه يُسمح للشركات بأن تقيد العلامات التجارية المشتراة والبنود غير الملموسة على أنها أصول في الميزانية العمومية، ما يخلق اختلالات بين المكاسب والأصول لدى الشركات الرقمية التي تعتمد على النمو العضوي في مقابل الاستحواذات.
ومع ما آلت إليه الشركات الرقمية، إذ أصبحت أكثر بروزاً في الاقتصاد، بينما أصبحت الشركات المادية أكثر رقمنة في عملياتها، فقد أصبحت قوائم الدخل أيضاً أقل دلالة أو قيمة في قرارات المستثمرين. وفي دراسة أخرى، نُظهر أنّ المكاسب لا تفسر سوى 2.4% من تفاوت عوائد السندات والأسهم بالنسبة لشركات القرن الحادي والعشرين، وهو ما يعني أنّ 98% من التفاوت في العوائد السنوية للأسهم والسندات لدى الشركات لا تُظهرها ولا تفسرها مكاسبها المالية. كما تبدو المكاسب أقل دلالة بالنسبة لما يحصل عليه الرئيس التنفيذي: فالشركات تعمد الآن إلى الحد من اعتمادها على الأرباح المحققة كأساس لمنح الحوافز المالية للعاملين فيها، وتتحول إلى مكافآت الرؤساء التنفيذيين التي تعتمد على الأسهم والسندات، ويعود هذا في جزء منه إلى الحيلولة دون قيام المدراء الانتهازيين إلى تقليل الاستثمارات القيمة كطريقة للإعلان عن تحقيق أرباح أكبر.
وفي تقدير آخر أنّ النموذج المحاسبي المالي الحالي لا يفي بمتطلبات الشركات حالياً. ففي مقال سابق نشرته هارفارد بزنس ريفيو، قلنا إنه بالمقارنة مع الأصول المادية التي تتهالك مع الاستعمال، فإنّ الأصول غير الملموسة تتحسن وتتطور مع الاستخدام. لننظر مثلاً إلى فيسبوك: تزيد قيمة فيسبوك مع زيادة عدد مستخدميه، لأنّ المنافع والمزايا التي يجنيها المستخدم الحالي تتزايد مع بروز مستخدم جديد واستخدامه لمنتج فيسبوك. ويتعزز نمو قيمته بالشبكة القائمة لديه، وليس بالزيادات في التكاليف التشغيلية. ومن ثم، فإنّ أهم هدف لدى الشركات الرقمية هو تحقيق الريادة في السوق، وخلق آثار الشبكة، وامتلاك هيكل أرباح يقوم على مبدأ الفوز بكل شيء. يوضح هامش الأرباح الإجمالي لدى فيسبوك وهو 76% من عوائدها لعام 2017 المقدرة بمبلغ 46.5 مليار دولار جني المنافع والمزايا. فإنّ كل دولار تقليدي من العوائد يخلق تقريباً قيمة مكافئة للمساهمين. (يمكنك مقارنة هذا بعوائد تويتر ويلب Yelp المقدرة بمبلغ 2.4 مليار دولار و0.8 مليار دولار، على التوالي، حيث لم تصل كلتا الشركتين بعد إلى مرحلة الربح التي يستحوذ فيها الفائز على كل شيء تقريباً).
ومع ذلك ليس هناك مكان في المحاسبة المالية لمفهوم آثار الربط الشبكي، أو الزيادة في قيمة مورد من الموارد مع استخدام ذلك المورد. من الناحية الفعلية، يدل هذا ضمناً على وجود مصروفات إهلاك سالبة في المصطلحات المحاسبية. ولذلك، فإنّ الفكرة الأساسية وراء نجاح الشركات الرقمية (العوائد المتزايدة المتناسبة مع الحجم) تأتي عكس المعتقد الأساسي للمحاسبة المالية (اهتلاك الأصول مع الاستخدام).
من الأهمية بمكان ملاحظة أنّ الشركات مثل شركات الخدمات المهنية تقوم هي أيضاً على الأصول غير الملموسة مثل رأس المال البشري. ولكن التحديات المحاسبية أمام الشركات الرقمية الحديثة أكثر حدة، حيث توجد لديها عوائد متزايدة متناسبة مع الحجم في منصاتها القائمة على الفكرة. على سبيل المثال، تستطيع جوجل خدمة مليارات من العملاء الإضافيين مستخدمة نفس المكتب الذي تعمل منه، وذلك من خلال زيادة سعة الخوادم التي تستخدمها. في حين أنه لكي تستطيع أي شركة لمراجعة الحسابات زيادة أعداد عملائها زيادة كبيرة، فسوف تحتاج على الأرجح إلى المزيد من العمالة وإلى زيادة مساحاتها المكتبية. علاوة على ذلك، تتناسب تكاليف الخدمات التي تقدمها شركات الخدمات المهنية، وبصفة أساسية الأجور التي تدفعها هذه الشركات، مع الإيرادات الجارية. لذلك، فإنّ قوائم الدخل الخاصة بها تعكس بشكل دقيق الفوائض الناتجة في تلك الفترة، وهي بهذا تشبه الشركات الصناعية. ولكن بالنسبة للشركات الرقمية، فإنّ الكم الكبير من تكاليف بناء منصة قائمة على الفكرة يتم إدراجه كبند نفقات في سنواتها الأولى، بينما تكون إيراداتها قليلة. في السنوات القادمة، عندما تبدأ فعلياً في تحقيق إيرادات على منصة مثبتة، تقل النفقات التي يتم إدراجها. في كلتا المرحلتين، فإنّ حساب المكاسب لا يعكس التكاليف الحقيقية للإيرادات.
ويقودنا هذا إلى سؤال آخر: إذا كانت المكاسب والأرباح لا تحمل أي معنى أو مغزى، فما السبب وراء رد الفعل الإيجابي من جانب المستثمرين على الشائعات في ما يتعلق بتحقيق شركة رقمية لأرباح؟ على سبيل المثال، عندما أعلنت تويتر عن أول أرباح حققتها، قفز سعر سهمها بمعدل 20%. وحدث الشيء ذاته مع شركة يلب (Yelp). ويكمن أحد الأسباب المعقولة لذلك، في أنّ هذه الأخبار لها أثر ذو دلالات هامة على أنّ الشركة ربما تجاوزت مرحلة الاستثمار المبدئية لديها، أو أنها لا تزال في مرحلة تعادل الربح والخسارة، أو أنها تنطلق كالسهم في مسارها المحدد، حيث تقوم بجني أرباح وفق قاعدة الفائز يظفر بكل شيء. يتعارض هذا الحدس مع وجهة نظرنا الكلية بأنّ المكاسب ليس لها معلومات، وهناك تحد آخر يمكن أن يتمثل في أنّ خسائر الشركات الرقمية تنقل المخاطر التي تنطوي عليها عمليات شراء أسهمها.
مع زيادة إخفاق الميزانيات العمومية في أن تعكس قيمة موارد الشركة، ومع زيادة إخفاق قوائم الداخل في تحديد القيمة التي تحققها الشركة، فقد وقع الرؤساء التنفيذيون في معضلة بشأن ما يمكنهم فعله. ويطرحون هذا السؤال: ما الذي يحققه إعداد وتدقيق القوائم المالية على أساس الاستحقاق؟ ألا يمكن أن تكون الشركات الرقمية في وضع أفضل بمجرد نشرها لملخص فقط لتعاملاتها المالية؟ ما الذي يمكن أن تفعله الشركات الرقمية لتعزيز إثراء قوائمها المالية بالمعلومات؟
ما تزال الإجابات عن هذه الأسئلة غير واضحة. من غير المحتمل أن تتغير المعايير المحاسبية في المستقبل القريب بحيث تتيح للشركات الرقمية رسملة استثماراتها غير الملموسة. (بل حتى وإن قامت الشركات الرقمية برسملة أصولها غير المادية، فإنّ الأرباح والأصول المعاد حسابها لن تنجح بحال من الأحوال في تبرير قيمها السوقية الحالية). ولكن هناك أمور تستطيع الشركات أن تفعلها لتوصيل قيمتها الحقيقية إلى المستثمرين. لقد توصل عملنا إلى أنّ المستثمرين يبحثون عن إشارات ودلالات معينة حول نجاح نموذج عمل الشركة، مثل الاستحواذ على عملاء كبار، وإدخال منتجات وخدمات جديدة، وحلفاء التقنية والتسويق والتوزيع، وأعداد المشتركين الجدد، والإيرادات حسب أعداد المشتركين، والانخفاض في أعداد العملاء، والتوزيع الجغرافي للعملاء. وتستطيع الشركات الإفصاح عن هذه البنود في القسم الخاص بمناقشة وتحليل الإدارة في تقريرها السنوي. (على سبيل المثال، انظر البند رقم 7 في التقرير السنوي لفيسبوك).
يجب الإفصاح على الفور عن أي تطور كبير ذي صلة بقيمة الشركة، بدلاً من الانتظار حتى صدور التقرير السنوي. وقد أوضحنا في عملنا أنّ الإفصاحات حول المزايا الشبكية، مثل حركة الزوار على الويب والحلفاء الاستراتيجيين، يعتبرها المستثمرون ذات صلة كبيرة بقيمة الشركة. عند دمج مقاييس الأداء المالي مع هذه المؤشرات غير المالية، فإنها تصبح أكبر صلة وملاءمة لقيمة الشركة. بالإضافة إلى ذلك، تستطيع الشركات توفير معلومات تفصيلية حول الاستثمارات غير الملموسة التي تقوم بها الشركة ـ حتى وإن لم تكن تلك المعلومات قد تمت مراجعتها من جانب مراقبي الحسابات ـ وذلك عن طريق إدراج هذه الاستثمارات في ثلاث فئات: علاقة العملاء والتسويق، وتقنية المعلومات وقواعد البيانات، واستقطاب أصحاب المواهب والتدريب.
ونلخص كل ذلك على هذا النحو، مع تحول الشركات إلى المزيد من الرقمنة، وزيادة إنفاقها على الاستثمارات غير الملموسة، ومع وصول الشركات الرقمية لمرحلة تمثيل الوجه الجديد للشركات الأميركية، فإنه سيتحتم عليها أيضاً أن تغير جذرياً طريقة وسبل نقلها لقيمتها إلى المستثمرين الخارجيين.