القطاع المالي بحاجة إلى التخطيط للخمسين عاماً القادمة، وليس لخمسة أعوام فقط

6 دقائق
تخطيط القطاع المالي

ما الذي تعرفه عن تخطيط القطاع المالي للمستقبل؟ على الرغم من الابتكارات السريعة سواء فيما يتعلق بمعالجة البيانات أو تعلم الآلة، لا يزال يتحتم على الكثير من الشركات تحقيق تلك القفزة من العصر الصناعي إلى عصر المعلومات، علاوة على أن الفجوة بين التقدم التكنولوجي والتقدم التنظيمي آخذة في الاتساع بشكل مطرد. ويتطلب سد هذه الفجوة أكثر من مجرد الإصلاحات قصيرة الأجل، مثل تبني التقنيات الجديدة. إذ يتعيّن على الشركات أن تنتظم حول استراتيجيات طويلة الأجل للنمو والشراكة بطريقة مستدامة. لأن إخفاق تلك الشركات في تبني ذلك سيؤدي إلى عواقب وتبعات وخيمة.

وتعتبر شركة "إيستمان كوداك" (Eastman Kodak) المعروفة بـ "كوداك" مثالاً منهجياً ونموذجياً للإخفاق في إعطاء الأولوية لبرامج الابتكار، إذ تدرس كليات إدارة الأعمال في جميع أنحاء العالم تداعيات قرار شركة "كوداك" المشؤوم بتجاهل سوق التصوير الرقمي حتى فوات الأوان. والأمر هنا لا يتعلق فقط بمجرد الإخفاق في تبني نهج أكثر رقمية، فالتحول الكبير نحو الرقمية يغيّر الطريقة التي تعمل فيها كل الصناعات في شتى المجالات. فبعض الصناعات، مثل التصوير الفوتوغرافي والوسائط الإعلامية، تأثرت بالتحول الرقمي قبل غيرها. في حين أن صناعات أخرى، مثل الخدمات المالية، لم تشعر بهذا التغير نحو الرقمية بجدية سوى الآن. ولكن القاسم المشترك في كل حالة هو أن عدم إدراك الإشارات وإعطاء الأولوية للابتكار على الأرباح قصيرة المدى قبل فوات الأوان يمكن أن يكون له تداعيات وجودية وآثار سلبية ضخمة في جميع أسواق المال على النطاق الأوسع.

تخطيط القطاع المالي ومستقبل الخدمات

بدأ مجال الخدمات المالية الذي يتسم بتأخره التقليدي في تبنيه للتكنولوجيا، الدخول في المرحلة الرقمية الآن. وهناك دلائل كثيرة على ذلك، مثل: انطلاق شركات التكنولوجيا المالية بمعدلات غير مسبوقة، مع تحسن في تجارب المستخدم، بالإضافة إلى ممارسات أكثر شفافية. وبدأت البنوك تستشعر الأزمة، فطبقاً لشركة "ماكنزي"، ستشهد المؤسسات المالية القديمة انخفاضاً في الأرباح بين 20%-60% بحلول عام 2025 إذا أخفقت في التطور الرقمي. ولن يكون بمقدور الشركات الناشئة وحدها ملء هذا الفراغ، وإنما يجب أن يبرز من شركات الخدمات المالية الضخمة الكبيرة رواد يقودون عملية الرقمنة هذه.

وفي الواقع، صُمم نموذج الابتكار الحالي في القطاع المالي بحيث يولّد أعلى عائدات ممكنة على المدى القصير. ولكن، سيتعيّن على المستثمرين ورواد الأعمال في الخدمات المالية إعادة التفكير في تلك الأطر الزمنية إذا كانوا يرغبون في تحقيق النجاح خلال رحلتهم نحو التقدم، فمن غير الواقعي أن نتوقع نفس النمو الذي حققته العصا السحرية لشركات ناشئة مثل "سلاك" أو "إير بي إن بي". وقد تكون مجموعة "فانغارد" حققت نجاحاً جامحاً في السوق، حيث تمتلك 20 مليون مستثمر، ولكن نجاحها قد استغرق الوصول إليه وتحقيقه أكثر من 40 عاماً. لذلك، فإن الطريق الوحيد الذي يتعين أن تسلكه شركات الخدمات المالية للمضي قدماً، هو النظر على المدى الطويل، بمعنى التخطيط لعمل تجاري يمكنه البقاء والاستمرارية في العقد القادم، بدلاً من التخطيط للمشروع الأكثر ربحية في الربع التالي من السنة المالية. وينطوي هذا القطاع على معضلة تنظيمية هائلة، وخمول تنظيمي كبير، بما يجعل إحداث أي تغيير جوهري وكبير يتطلب وقتاً طويلاً.

لذلك، سيتعين على الرؤساء التنفيذيين تحويل عقلياتهم وطرق تفكيرهم الآن إذا كانوا يرغبون في تجنب وصولهم إلى تلك اللحظة التي مرت بها شركة "كوداك". ويتطلب تبني الابتكار مخصصات مالية غير تقليدية لا تدر دائماً أرباحاً على المدى القصير، ولكن يمكن أن تؤدي إلى نمو هائل على المدى الطويل. ربما لا يكون الابتكار مجرد خطة أو منصة عمل شائعة يمكن تبنيها في غرفة مجلس الإدارة، ولكنه أمر لازم وحتمي لمستقبل شركات الخدمات المالية.

وهناك بعض الإجراءات التي اتخذتها بعض الشركات المالية مؤخراً تبعث على الأمل، ولا سيما ما فعلته شركة "غولدمان ساكس". فقد تجاوزت الشركة مجرد إطلاق "مختبر ابتكارات" أو استثمار مبالغ هائلة في شركات ناشئة راسخة، وأعطت الأولوية لبرنامج الابتكار، مضحية بالنمو على المدى القصير. إذ يعتبر إطلاقها لـ "بنك ماركوس"، وهو بنك تجزئة عبر الإنترنت، إشارة لافتة وواعدة على وجه الخصوص. وفي حين أن "بنك ماركوس" هذا أبعد ما يكون عن تحقيق الربحية، فقد أقرت شركة "غولدمان" عزمها التمسك بذلك النموذج، مدركة أن قواعدها الحالية في العمل لن تستمر وتصمد لتحقق النمو على مدار قرن آخر.

التكنولوجيا ≠ الابتكار

يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن التكنولوجيا المالية عبارة عن سلعة، وعليه، فإن أي شخص يمكن أن يحصل على التكنولوجيا الجديدة. ولكن، ينشأ عامل التميز الحقيقي في الخدمات المالية عن امتلاك الرؤية والقدرة على تنفيذ التغيير في هذا العالم الجديد. فإذا أرادت المؤسسات المالية أن تظل باقية وقائمة في ظل التحول إلى العصر الرقمي، وأن تأخذ ذلك النوع من المخاطر التي يتطلبها تحقيق النجاح طويل الأجل، فستحتاج إلى مواهب أكثر استبصاراً ومهارة من الناحية التقنية. ولكن الكثير من هذه المؤسسات تقوم بتسريح الموظفين لصالح الشركات التقنية بدلاً من استقطاب وتوظيف المواهب الجديدة. فقد أفادت نسبة 95% من البنوك، التي شملتها الدراسة الاستقصائية التي أجرتها شركة "وايت آند كيس" للمحاماة، أنها ستشتري شركات التكنولوجيا الناشئة أو تستثمر فيها خلال الأشهر الـ 18 المقبلة. بيد أن الكثير من هذه الشركات تقوم بذلك لأسباب خاطئة، فتشتري التكنولوجيا في حين أنه يتعيّن عليها التركيز على الابتكار الحقيقي.

سوف تستثمر المؤسسات التي تنجح في عبور الفجوة الرقمية في القادة الذين يقومون ببناء شركات على مدار 50 سنة القادمة، وليس على مدار السنوات الثلاث إلى الخمس القادمة. هذا التركيز على الأفراد هو المفتاح الرئيس للنجاح والاستمرارية. فعلى سبيل المثال، لم يساعد استحواذ شركة "باي بال" على شركة "برينتري"الأولى في تحديث بوابة الدفع عبر الإنترنت الخاصة بها فحسب، بل إن بيل ريدي، الذي كان في السابق الرئيس التنفيذي لشركة "برينتري"، يقود الآن عملية التغيير بنشاط، كما وضع "باي بال" في الموضع المناسب للدخول إلى بوابة للمستقبل كرئيس تنفيذي للشركة.

وبالمثل، لا تحتاج الشركة المعنية إلى الاستحواذ على شركة ناشئة واعدة ويُتوقع لها النجاح بسبب التكنولوجيا المتفوقة أو بسبب الأرقام الكبيرة في النمو، فهي تستطيع استنساخ كلا الأمرين بضخ الاستثمارات المطلوبة سواء فيما يتصل بالوقت أو بالمال. بل يتعين عليها بدلاً من الاستحواذ على الشركة أن تتحول إلى اجتذاب القائد الديناميكي الذي يقود دفة تلك الشركة، والذي من المرجح أن يكون لديه برنامج ابتكاري أكثر فاعلية، وكذلك لديه قدرة أكبر على التعامل مع الإخفاقات على المدى القصير سعياً وراء تحقيق أهدافه طويلة الأجل. ورغم أن ذلك ليس متضمناً في بنية الشبكة الرقمية لنهج معظم المؤسسات المالية، لكن هناك حاجة ماسة للغاية إليه. ولهذا السبب، يمكن أن نتوقع بشكل معقول أن تكون الخطوة التي اتخذتها شركة "فانتيف" مؤخراً في استحواذها على "مجموعة وورلد باي" - وهي صفقة يُقال أيضاً إن "جيه بي مورغان" كانت تسعى إلى الفوز بها - إشارة إلى ارتفاع أوسع نطاقاً في نشاط عمليات الدمج والاستحواذ في مجال الخدمات المالية في الأشهر والسنوات المقبلة.

النهج النظامي لتحقيق النجاح على المدى الطويل

عند تخطيط القطاع المالي تحديداُ، سيحدث الابتكار في الخدمات المالية، جزئياً، من خلال نشر نماذج وتكنولوجيات جديدة لتوليد الإيرادات، تجمع بين أفكار العمل الريادي والخبرة المؤسسية والتشغيلية.

ويحتاج هذا الأمر إلى بذل جهود متضافرة للاستثمار في تصميم نظم التفكير، ودعم الثقافات المتنوعة والشاملة التي تجمع بين الناس ذوي وجهات النظر المتباينة لتبادل الأفكار والنُهج الجديدة.

لا يزال قطاع الخدمات المالية في المراحل الأولى من التحول الرقمي. وقد كانت بعض المؤسسات أسرع في تبنيها لهذا التحول، في حين ما تزال مؤسسات أخرى متقوقعة في عقلية العصر الصناعي. وتندرج شركة "غولدمان ساكس" ضمن الفئة الأولى التي كانت سريعة في تبنيها للتحول الرقمي، وقدمت نموذجاً يحتذى به لأقرانها في مجال عملها يتعين عليهم محاكاته. فلم تقم "غولدمان ساكس" بمجرد الإشارة إلى الحاجة إلى مزيد من الابتكار، وإنما بدأت اتخاذ سلسلة من الخطوات الجريئة والحاسمة اللافتة للنظر مختلفة في ذلك عمّا تتسم به شركات الخدمات المالية من نمطية. وتمثلت تلك الخطوات في ترقية مدير المعلومات السابق بها إلى منصب المدير المالي، حيث إنها دأبت على تقديم وتعريف نفسها بشكل متزايد على أنها شركة تكنولوجيا وليست شركة خدمات مالية، وكذلك الظهور باعتبارها واحدة من أبرز المدافعين عن العملات المشفرة، وهو ما يشير بكل وضوح إلى أن الشركة تفكر في آفاق زمنية تتجاوز التفكير الربع السنوي أو حتى التفكير السنوي.

وسيتّبع البعض هذا النموذج وسيزدهرون، وسوف يخفق آخرون في التكيف وسينتهي الأمر بهم إلى الاندثار، ولكن بالتأكيد، سيستغرق الأمر بعض الوقت إلى أن تظهر صورة واضحة للعصر الجديد للخدمات المالية. ويتعين على الشركات أن تكون الآن في طور وضع الأساس لمستقبل أكثر رقمية. وسيتطلب ذلك استعداداً وجاهزية لقبول الانتكاسات على المدى القصير، كما سيتطلب، في بعض الحالات، التضحية بالأرباح قصيرة الأجل، مع التركيز بقوة وثبات على أهداف الابتكار في الصورة الكبيرة، ومعها التركيز على الربحية على المدى الطويل.

وقد لخص جيف بيزوس، مؤسس شركة "أمازون"، هذه الفلسفة عن تخطيط القطاع المالي أفضل تلخيص في الرسالة التي بعثها إلى المساهمين قبيل طرح الشركة للاكتتاب العام في عام 1997:

"سنستمر في اتخاذ قرارات الاستثمار في ضوء اعتبارات قيادة السوق على المدى الطويل بدلاً من اعتبارات الربحية على المدى القصير أو ردود أفعال وول ستريت على المدى القصير....  وسنتخذ قرارات استثمارية جريئة، لا قرارات خجولة، حيثما نرى احتمالاً كافياً للحصول على مزايا ريادية في السوق. وستؤتي بعض هذه الاستثمارات ثمارها، بينما لن يكون لبعض منها أي مردود، وفي كلتا الحالتين سنخرج بدرس مستفاد آخر نتعلمه".

وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه المحادثة تحدث وتتكرر بعد قرابة 20 عاماً من أول ظهور عام للشركة. ففي حين أنه لم يكن من المرجح أن تعطي شركات الخدمات المالية مصداقية كبيرة لأفكار رائد في مجال التقنية كان قليل الشهرة (وقتها)، إلا أن تلك الأفكار تضمنت حكمة موزونة، بل إنها أكثر قراءة لعالم اليوم وتبصراً به.

اقرأ أيضاً:

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي