أصبحنا الآن في زمن يسمح لنا بتعلم أي مهارة نريدها عبر الإنترنت، مثل أسلوب ستيف جوبز في استعراض أفكاره والمنتجات الجديدة، أو قفزة لاعب كرة السلة الشهير ستيف كاري، أو رقصة مايكل جاكسون المعروفة، كل هذه الأشياء باتت متاحة عبر الإنترنت ويمكن الوصول إليها بسهولة. ويمكننا القول بكل بساطة أن الفيديوهات التعليمية، والكتيبات الإرشادية والبرامج التعليمية عبر الإنترنت قد غيرت طريقة تعلمنا.
ولكن هل هذا صحيح تماماً؟ قد تمنحنا مشاهدة ما يقوم به المحترفون على منصات الإنترنت الشعور أنه يمكننا أداء مهاراتهم، ولكن تشير بعض الأدلة الجديدة إلى أن التعلم عن طريق الملاحظة قد يكون في بعض الأحيان مجرد وهم وغير مفيد، حيث يشعر الأشخاص الذين يتبعون هذا الأسلوب في التعلم بحالة من الثقة المفرطة أنهم أصبحوا مستعدين جيداً لتجربة أداء المهارات التي يحاولون إتقانها، ولكن عندما يفعلون ذلك، غالباً ما تكون النتائج عكس توقعاتهم.
هناك العديد من المهارات التي تعد مشاهدتها أسهل بكثير من إتقانها في 6 تجارب نُشرت مؤخراً في مجلة سايكولوجيكال ساينس Psychological Science، اختبرنا الفرضية القائلة إن الأشخاص يبالغون في تقدير مدى تطور قدراتهم بعد مشاهدتهم لفترات طويلة كيف يقوم الآخرين بالأمور التي يرغب هؤلاء الأشخاص بإتقانها. في إحدى التجارب، زار مخبرنا 193 طالباً من جامعة شيكاغو لتعلم كيفية رمي السهم. شاهدوا في البداية فيديو لشخص خبير برمي الأسهم وهو يصيب الهدف بدقة تامة، منهم من شاهد الفيديو مرة واحدة ومنهم من شاهده 20 مرة على التوالي. ومن ثم قسّمنا عمل المشاركين إلى مرحلتين: الأولى التوقع والثانية التطبيق. في المرحلة الأولى خمن المشاركون عدد النقاط التي سيحصلون عليها (من 0 إلى 100) إذا مُنحوا الفرصة لإجراء رمية واحدة على الفور. ومن ثم أجرينا مقارنة بين هذه التوقعات والنتائج الحقيقية للمشاركين ذاتهم الذين رموا سهماً واحداً. وتوقع المشاركون الذين شاهدوا مقطع الفيديو 20 مرة على التوالي أنهم سيجلون نقاطاً أعلى من المشاركين الآخرين الذين شاهدوا الفيديو لمرة واحدة. وفي الحقيقة، لم يُحدث ذلك أي فرق في النتائج على الإطلاق، حيث حصل الجميع على عدد قليل من النقاط بغض النظر عن عدد المرات التي شاهدوا فيها الفيديو سابقاً. وتبين أن مشاهدة المحترفين تعزز من ثقة من يشاهدهم، ولكن ليس قدراتهم.
أعدنا تطبيق هذه المخرجات في تجربة أخرى، ولكن هذه المرة كانت حول رقصة مايكل جاكسون الشهيرة moonwalk أو المشي على القمر. وطبقنا هذه التجربة على 100 مشارك (مزيج متنوع من طلبة الجامعات في شيكاغو وعدد من الشباب من أنحاء المدينة)، حيث شاهدوا جميعاً مقطع فيديو لأحد الراقصين الماهرين وهو يؤدي رقصة moonwalk. اختير المشاركون عشوائياً لمشاهدة الفيديو لمرة واحدة أو 20 مرة على التوالي. وبعد ذلك بدأوا بتقديم التوقعات حول مدى قدراتهم على أداء رقصة moonwalk، ومن ثم حاولوا على الفور أداء الرقصة بأنفسهم. صوّرنا تجارب أدائهم لتشاهدها لاحقاً لجنة من الحكام الذين كانوا يجهلون عدد المرات التي شاهد فيها المشاركون مقطع الفيديو التدريبي للرقصة. ومرة أخرى، لم ينجح الفيديو التدريبي سوى في تعزيز ثقة الراقصين الهواة بأنفسهم وليس زيادة مهاراتهم (فالمشاركون الذين شاهدوا الفيديو 20 مرة أو مرة واحدة فقط، كانت توقعاتهم إيجابية حيال مدى نجاحهم في أداء الرقصة، إلا أن المجموعة الأولى كانت توقعاتها أعلى من المجموعة الثانية التي شاهدت الفيديو لمرة واحدة فقط). وبالنسبة للجنة التحكيم، فكان تقييمها ضعيفاً جداً لكلا المجموعتين.
وفي تجربة أخرى تعتمد المفهوم المطبق ذاته في التجارب آنفة الذكر ولكن في مجال مختلف، وهذه المرة كانت التجربة حول لعبة كمبيوتر. كان لدينا 270 مشاركاً عبر الإنترنت يشاهدون أحد الأشخاص يلعب إحدى ألعاب التتبع، ويستخدم لوحة اللمس لجهاز الكمبيوتر لتتبع أحد الأشكال عبر متاهة رقمية بأسرع وأدق ما يمكنه. بدأ المشاركون بعد مشاهدة الفيديو بتوقع عدد النقاط التي سيسجلوها، من 0% إلى 100%، ومن ثم الشروع في اللعب مباشرة. يميل الأشخاص عادة إلى المبالغة في عدد النقاط التي سيسجلوها بغض النظر عن عدد المرات التي شاهدوا فيها الفيديو، ولكن الأشخاص الذين شاهدوا الفيديو 20 مرة على التوالي كانوا أكثر ثقة بقدراتهم. واعتقد المشاركون أنهم بمجرد مشاهدة فيديو لأحد اللاعبين المحترفين سيتمكنون من اللعب بشكل أفضل، ولكن في الواقع لم يحصل ذلك.
ما الذي يجعل الأشخاص يشعرون بحالة من الثقة المفرطة بأنفسهم؟ عندما يشاهد الأشخاص مقاطع الفيديو، فإنهم يشاهدون أسلوب ومهارات الشخص الذي يؤدي أو يقوم بنشاط ما، ولكنهم لا يستطيعون الشعور بها بشكل مادي ملموس. وتعد معرفة وحفظ الخطوات الواجب اتباعها من الأمور الأساسية في التعلم، ولكن لا يمكننا إغفال ضرورة الشعور بهذه الخطوات عند تجربة تطبيقها. وغالباً ما يفقد الأشخاص تفاصيل دقيقة ومهمة أثناء المشاهدة، وبالتالي يميلون أكثر للاستخفاف بمدى صعوبة إتقان تلك المهارة، مما يجعلهم يبالغون في تقدير إمكاناتهم بعد مشاهدة مقاطع الفيديو التي تصور عدداً من الأشخاص البارعين في أداء مهارة ما.
الناس يشعرون أن مهاراتهم تحسنت من خلال مشاهدة الفيديوهات فقط، على الرغم من أنهم لم يحاولوا تطبيقها على أرض الواقع.
ونحن بدورنا تأكدنا من فعالية آلية التفكير هذه في تجربتين. أولاً، اختبرنا مدى تأثير الدور الذي يلعبه فعل المشاهدة. كان لدينا 400 مشارك يشاهدون مقطع فيديو لخدعة سحب غطاء الطاولة من تحت الأطباق، حيث يقوم شخص بسحب غطاء الطاولة بسرعة من تحت الأطباق والفضيات دون أن تتحرك من مكانها على الطاولة. وهذه المرة، اخترنا الأشخاص عشوائياً لمشاهدة الفيديو بأكمله مع المشاهد التي تضم الشخص المحترف والأطباق، بينما سُمح للآخرين بمشاهدة الأطباق فقط. شعر الأشخاص بثقة أكبر بعد مشاهدة الفيديو 20 مرة على التوالي، ولكن فقط حين تمكنوا من مشاهدة كل من الشخص المحترف والأطباق. ولم تكن مشاهدة الأطباق الثابتة في مكانها كافياً بالنسبة للمشاركين، وشعروا بثقة أكبر عندما تمكنوا من التركيز أثناء مشاهدة الفيديو على تقنيات الشخص المحترف الذي يقوم بسحب غطاء الطاولة من تحت الأطباق.
ولكن لماذا لا يستطيع الأشخاص إدراك أنهم لم يحققوا أي تطور ملحوظ؟ لمعرفة ذلك، قمنا بدراسة دور الشعور، حيث كان لدينا 145 مشاركاً يشاهدون مقطع فيديو لأحد الأشخاص البارعين في أرجحة أوتاد البولينغ الخشبية في الهواء بأسلوب بهلواني. وبعد مشاهدة الفيديو، قسنا ثقة كل شخص بقدراته، ثم طلبنا من قسم منهم أن يقوموا بالحركة ذاتها، وقسم آخر لقراءة المعلومات التقنية مثل وزن الأوتاد وطولها وقطرها، وقسم آخر لشرح أسلوب من يقوم بهذه الحركة البهلوانية في الفيديو. ويميل الأشخاص عادة إلى الشعور بثقة كبيرة بعد مشاهدة الفيديو، ولكن عندما أمسكوا الأوتاد بأيديهم وشعروا بها، أدركوا حينها مدى ضعف معرفتهم، مما قلل من ثقتهم بأنفسهم. وفي المقابل، حافظ الأشخاص الذين قرؤوا المعلومات التقنية أو قاموا بشرح أسلوب الشخص الخبير في أداء هذه الحركة على مستوى عال من الثقة على الرغم من أنه كان لديهم وقت إضافي للتفكير ملياً في مدى الصعوبة التي تنطوي عليها هذه المهارة. ويبدو أن الأشخاص لا يقدّرون مدى ضرورة الشعور الحسي في كيفية أداء مثل هذه المهارات أثناء مشاهدتها، وهذا قد يحد من مقدرتهم على إدراك حقيقة ما يمكنهم فعله أو لا.
وتشير نتائجنا إلى أن التعلم من خلال المشاهدة فقط قد يكون أقل فائدة وفعالية مما نعتقد في كثير من الأحيان. ومن خلال دراستنا لهذا الموضوع عبر إجراء التجارب على مجموعة من المهارات، تبين لنا أن الأشخاص يشعرون أن مهاراتهم تحسنت من خلال مشاهدة الفيديوهات فقط، على الرغم من أنهم لم يحاولوا تطبيقها على أرض الواقع. وهذا يطرح احتمال أنه بعد مشاهدة عروض الأداء، قد يبدأ الأشخاص بتجربة تطبيق مهارات تتجاوز قدراتهم الحالية أو تحتاج إلى وقت طويل من الممارسة لإتقانها.
ومن المهم جداً أن نضع ذلك في عين الاعتبار، حيث أصبح هناك عدد كبير من الفرص التي تسمح للموظفين بمشاهدة الفيديوهات والتعلم عن بعد. والتي تتنوع بين الدورات عبر الإنترنت (التي تتضمن دورات المووك MOOCs "المساق الهائل المفتوح عبر الإنترنت")، والفيديوهات التدريبية عبر تقنية الواقع الافتراضي. وتوفر لنا أماكن العمل اليوم العديد من المساحات لاختبار ما ستؤول إليه هذه التجارب في المستقبل على أرض الواقع. ولكن كيف سيغدو شعورك حين تتحول من مجرد مشاهد إلى شخص يقوم بأداء وتطبيق المهارات التي يكتسبها، مثل أن تطور مهارات التواصل لديك في قاعة الاجتماعات، أو بالطريقة التي تتفاعل من خلالها مع فريق العمل في الخارج، أو ابتكار برنامج جديد ومعقد مع مرور الوقت؟
كيف تختار الفيديوهات التعليمية الأفضل
نحن هنا لا نقول أن عشرات الملايين من الفيديوهات التعليمية على منصة يوتيوب غير مفيدة. ولكن لا يزال بإمكانك تعلم كيفية التكلم أمام العامة وتقديم أفكارك بأسلوب أفضل من ستيف جوبز، أو مساعدة فريقك للقيام بذلك، وغيرها من المهارات إذا اتبعت بعض الاستراتيجيات المبنية على الأدلة.
أولاً، خصص المزيد من الوقت للممارسة والتطبيق. حيث قد يتطلب ما تريد إتقانه مهارات أكثر مما تراه بالعين المجردة، وبالتالي ستحتاج إلى الممارسة أكثر مما تعتقد قبل أن تصبح شخصاً محترفاً. ويمكنك التعلم والاستعداد لما تريد القيام به من خلال مشاهدة الفيديوهات إلى جانب القراءة والتعمق أكثر في المهارات التي تطمح إليها. ووجدنا أن القراءة هي أقل تأثيراً على الأشخاص لناحية مغالاتهم في ثقتهم بمدى قدراتهم قبل البدء في تطبيق ما يتعلموه، لذا تساعد هذه الاستراتيجيات في تقليل المخاطر الناجمة عن مبالغة الأشخاص في ثقتهم بأنفسهم وبقدراتهم.
ثانياً، ابدأ بالتفاصيل الصغيرة والبسيطة. ففي المرة الأولى التي تحاول فيها ممارسة مهارة ما، قد تلاحظ مدى التفاصيل المعقدة التي غفلت عنها أثناء مشاهدة الفيديو، مثل ما حدث في التجربة أعلاه عندما أمسك المشاركين أوتاد البولينغ الخشبية، حيث شعروا حينها أن قذفها في الهواء بأسلوب بهلواني ليس بالأمر الهين. وانتبه لهذا الجانب جيداً منذ المراحل الأولى لتجربة تعلمك لمهارة ما، وابدأ بإتقان المهارات البسيطة وصولاً إلى تلك المعقدة التي جذبت انتباهك منذ البداية.
ثالثاً، احرص على دمج المشاهدة والتعلم مع التطبيق والممارسة. ولا تتبع أسلوب المشاهدة الآن والتطبيق لاحقاً، لأن هذا الأسلوب هو ما دفع الأشخاص في تجاربنا إلى التوهم أنهم قادرون على فعل ما شاهدوه بكل بساطة. فإن مشاهدة الفيديوهات دون الممارسة يزيد ثقة الأشخاص بأنفسهم ولكن لا يحسن من مهاراتهم. وبدلاً من ذلك، احرص على الدمج بين المشاهدة والتطبيق الفوري، حيث يحقق الأشخاص فائدة أكبر من مشاهدة الفيديوهات التعليمية بعد محاولتهم لتطبيق المهارات التي يحاولون تعلمها على أرض الواقع، لذا حاول تطبيقها، ومن ثم شاهد الفيديو مرة حتى تلتمس التطور المنشود.
وفي الختام، نستنتج من كل هذا أن تعلم مهارة جديدة ليس بتلك السهولة المتمثلة فقط بالدخول إلى منصة يوتيوب ومشاهدة بعض الفيديوهات. وفي الواقع، قد يعود مثل هذا الفعل بالآثار السلبية عندما يكون هدفك إتقان مهارات تتطلب جهداً كبيراً أو يتوجب عليك إتقانها خلال فترة قصيرة، حيث أن أي مهارة تتطلب وقتاً لإتقانها بشكل كامل، ويجب على القادة والمدراء بشكل خاص التأكد من تشجيعهم للموظفين بشكل جيد لإنهاء أي تدريب رقمي بتطبيقه على أرض الواقع مباشرة.