غالباً ما يفتخر القادة وفرقهم بقدراتهم على تحديد أولوية القرارات والتعامل مع الأوضاع الطارئة باتخاذ القرارات السريعة ومعالجتها، ولكن في الحقيقة هم غالباً ما يفشلون في تقديم الحلول الناجعة فضلاً عن إضاعة الوقت. إلا أنه بإمكانهم هم ومؤسساتهم التصرف في مثل هذه الأوضاع بشكل أفضل، وذلك باتباع منهجية تتناول القرارات عبر هيكلية عمل منظمة ومتأنية.
تحديد أولوية القرارات
يمكننا هنا الاستشهاد بإحدى التجارب لواحدة من أكبر الشركات المصنعة للأحذية في العالم، والتي تتبع فيها المنظومة الإدارية للشركة منهجية تسمح للموظفين الآخرين بإعادة تنظيم العملية المتبعة لاتخاذ القرارات. ونظراً لطبيعة قطاعاتها المتغيرة بتسارع، غالباً ما تواجه الشركة العديد من التحديات الكبيرة على العديد من الأصعدة. فمثلاً: التصنيع الآلي القائم على تقنيات الحاسوب عزز من كفاءة عمل المصانع أكثر، إلا أنه هدد بإعادة رسم خارطة سلسلة التوريد. كما أن المواد المتطورة وأساليب البناء الجديدة زادت كثيراً من تعقيد عمليات التصنيع. فضلاً عن المنتجات المبتكرة (مثل أجهزة الاستشعار في الأحذية الرياضية لاكتشاف الإصابات المبكرة) التي عززت من هذه التعقيدات. وكما هو الحال لدى جميع الشركات، تعاني الشركات المصنعة تدفقاً ثابتاً للمزيد من التحديات الثانوية، مثل كيفية الامتثال لمواصفات المنتج التي يرغب فيها الزبائن، أو تحسين الإنتاجية للمواقع ضعيفة الأداء، أو تجديد مقرات الشركة.
وتتطلب مثل هذه التحديات اتخاذ قرارات بشأنها، وفي بعض الحالات يستلزم الأمر سلسلة من القرارات التي تختلف بمدى أهميتها وتعقيدها. ولكن بالنسبة لثقافة مجابهة التحديات التي طُورت في الشركة، كان يتم التعامل مع القرارات بشكل منعزل أو بناء على المستجدات اليومية في الشركة. وعلاوة على ذلك، لم يكن المدراء وفرق العمل متأكدين من هو المسؤول عن اتخاذ القرارات، لذا كانوا يقومون بإحالتها إلى القيادة العليا، ما يفرض المزيد من المسؤوليات على عاتقها. لتجد قيادة الشركة نفسها مسؤولة عن كل شيء بدءاً من الأمور الكبرى مثل ما هو مقدار الاستثمار الواجب تخصيصه للمصنع في المراحل القادمة، وصولاً إلى الأمور الأقل أهمية مثل شراء المعدات لتحسين أحد خطوط الإنتاج.
ومع إدراك أنّ أمر اتخاذ قرارات عالية الجودة يتطلب اتباع منهجية منضبطة، شرع الفريق التنفيذي بتطبيق ممارسة تهدف لإنشاء عملية قابلة للتكرار لتحديد أولوية القرارات والمنهجية المناسبة لكل واحدة منها. وتتكون هذه المنهجية من 4 خطوات:
1- إنشاء قائمة
إنشاء قائمة بالقرارات التي من المرجح أن تصدر في الأشهر المقبلة، دون أي اعتبار لأهميتها – تتناول كل شيء من الاستثمار في رأس المال والعروض الترويجية وموعد الاجتماعات القادمة وما إلى ذلك. وعلى الرغم من أن معظم الشركات الكبيرة قد يكون لديها عمليات محددة بهذا الخصوص، إلا أن الأوضاع المتغيرة بسرعة والأزمات قصيرة الأمد واحتياجات الزبائن الملحة، يمكن أن تطغى على جدول أعمال الفريق. وغالباً ما تغفل القرارات عن الجوانب السلوكية لديناميات الفريق – على سبيل المثال، كيفية ممارسة مختلف أعضاء الفريق سلطتهم لإدراج التحديات التي تواجههم على قائمة أعمال الفريق. بالإضافة إلى جوانب أخرى تتعلق بعلاقة الفرق فيما بينها، على سبيل المثال، كيف يتواصل الفريق القيادي الإقليمي مع الفريق العالمي؟
تبين أنّ هذه الممارسة، بالنسبة إلى تصنيع الأحذية، أصبحت أقل وضوحاً مما كانت عليه في البداية. قدم أعضاء فريق القيادة على مدى 12 شهراً مجموعة قوائم تختلف عن بعضها لحد كبير. وبدأ يظهر الخلاف حول القرارات التي تندرج ضمن الإطار الزمني المحدد. وقام أعضاء الفريق بتشكيل قائمة للعديد من التحديات التي توقعوا أنها تندرج ضمن مسؤوليات أقسامهم. وسرعان ما أصبح جلياً أن هناك حالة من عدم الاتفاق حول من يمتلك الصلاحية لاتخاذ القرارات المختلفة في الشركة.
ولكن بمجرد قيام الفريق بتحديد القائمة وإدراك مدى إلحاح تطبيق القرارات التي تقدم بها الأعضاء، تمكنوا حينها من إزالة القرارات المتكررة ودمج القرارات المشابهة وجعلها أكثر تناسقاً وفعالية. فعلى سبيل المثال، تضمنت القائمة قراراً بشأن الشروع في استراتيجية للعمليات المبتكرة، وآخر حول جعل عملية الإنتاج أكثر صلة باحتياجات الزبائن. فقام الفريق بدمج العمليات المبتكرة في قرار أكبر لاستراتيجية أوسع تتمحور حول رضا الزبائن.
2- فهم خصائصها
أفضت الخطوة الأولى في النهاية إلى حوالي 26 قراراً. ثم صنّفها الفريق وفقاً لأربعة معايير هي: الحجم ودرجة التعقيد من الناحية التنظيمية ومقدار التعقيد من الناحية التحليلية وحجم التحدي الخاص بالموضوع. واستخدم الفريق بعد ذلك نظام نقاط لمنح كل قرار درجات محددة.
شملت المقاييس المتعلقة بالحجم مقدار استثمارات رأس المال أو النفقات التشغيلية والوقت لحصد الفوائد المتوقعة؛ وكلما زاد الاستثمار أو الوقت لحصد الفوائد، زادت النقاط الممنوحة. وتضمنت مقاييس التعقيد للناحية التنظيمية عدداً من أصحاب المصلحة المعنيين ودرجة توافقهم وقوتهم والجهود المطلوبة لتحقيق التوافق، مع زيادة النقاط وفقاً لذلك. بينما تضمن التعقيد في الناحية التحليلية جودة البيانات ذات الصلة ودرجة عدم اليقين والبدائل المتاحة ونسبة الوضوح في مقاييس القيمة، مع زيادة النقاط وفقاً لذلك أيضاً. أما بالنسبة لمقاييس التحديات التي تنطوي على المحتوى فتتضمن درجة معرفة الفريق بالتحديات التجارية أو الفنية المعنية، وكلما كان الفريق أقل اطلاعاً على هذا الجانب، ارتفعت النقاط الممنوحة.
3- تصنيفها ضمن 3 فئات
يمكن للفريق، بناء على النتائج المحققة، أن يصنف كل من القرارات الـ 26 ضمن ثلاث فئات، كل واحدة منها تتطلب منهجية متميزة عن الأخرى لاتخاذ القرارات.
الاستراتيجية: تتضمن هذه القرارات ذات النقاط العالية التي تنطوي على درجة عالية من التعقيد التنظيمي والتحليلي، عدداً قليلاً من القرارات التي ستحدد توجه الشركة طويل الأمد. أما بالنسبة إلى شركة تصنيع الأحذية، تتضمن القرارات الاستراتيجية هذه مكان وكيفية نشر أنظمة الأتمتة ومواقع المصانع القريبة من الزبائن. وتتطلب مثل هذه القرارات معالجة التحديات التنظيمية المعقدة مثل أصحاب المصلحة المتعددين والمتعارضين في كثير من الأحيان حول اختلاف القيم أو التجارب أو الاحتياجات الثقافية. تنطوي هذه القرارات أيضاً على بعض التعقيدات للناحية التحليلية، مثل البيانات الكبيرة غير المكتملة في كثير من الأحيان مع تفاوت كبير في مستوى الثقة بصحتها.
تتطلب القرارات الاستراتيجية أغلب الأحيان معظم وقت واهتمام فريق القيادة العليا، بالإضافة إلى منهجية صارمة وشاملة وموحدة لاتخاذ القرارات. ومن شأن مثل هذه المنهجية أن تضع الأسئلة بدقة، وأن تقدم خيارات متعددة بديلة (بما فيها الخيارات التي تجمع بديلين أو أكثر)، وطيفاً واسعاً من المعلومات المستقاة من الخبراء داخل وخارج الشركة، وتحديد الخيارات والمفاضلات الأعلى قيمة، مستخدمة في ذلك التفكير المنطقي (غير القائم على الحدس) الذي يأخذ المخاطر بعين الاعتبار، ويخلص إلى الالتزام بالتطبيق الفعال.
الهامة: تتضمن هذه الفئة القرارات متوسطة الأمد، والتي تتطلب بيئة أعمال سليمة، ويمكن أن تشتمل على قرارات تخص استثمارات كبيرة. وتشمل القرارات المهمة المعتادة على أمور تتعلق بالاستعانة بالمصادر والمنتجات الجديدة، وإنشاء أو شراء استثمارات في تقنية المعلومات. وقد لا تتطلب منهجية اتخاذ القرار تطبيقاً متعمقاً لكل خطوة من العملية المتبعة لاتخاذ القرارات الاستراتيجية. وبدلاً من ذلك، يجب أن تكون المنهجية مصممة حسب طبيعة كل قرار هام.
وبالنسبة للقرارات المهمة المعقدة من الناحية التنظيمية والتي تحمل قليلاً من التعقيد من الناحية التحليلية، يجب أن تركز المنهجية على أفضل الوسائل التي تقنع الناس وتضمن موافقتهم وتأييدهم. أما بالنسبة لشركة تصنيع الأحذية، فإن اختيار نهج لتخطيط موارد المشاريع يتطلب قراراً كهذا.
تتطلب القرارات المهمة ذات الدرجة العالية من التعقيد التحليلي، ولكن المنخفضة من ناحية التعقيد التنظيمي، كفاءة عالية في جمع البيانات وتنقيحها، بالإضافة إلى التحليلات الصحيحة التي تركز على القيمة. وبالنسبة إلى شركة التصنيع، فيضمن ذلك قرارات تتعلق بحلول الطاقة والمياه كجزء من مساعي الشركة لتحقيق الاستدامة.
السريعة: تتمتع هذه القرارات بدرجة تعقيد منخفضة في الناحيتين التنظيمية والتحليلية على حد سواء، ويمكن معالجتها من خلال تحديد الإجراءات التي تصف النهج اللازم أو الذي يتضمن قواعد وتشريعات تنظيمية وقوائم مرجعية محددة، وكيفية التعامل مع العملية الإنتاجية التي تخالف المواصفات التي تندرج ضمن هذه الفئة. وغالباً ما يمكن تفويض مثل هذه القرارات السريعة إلى مناصب قيادية أدنى في الشركة، ما يوفر وقتاً أكبر لفريق القيادة العليا للتركيز على القرارات الاستراتيجية والهامة.
وتضطر حالياً الفرق في القيادات العليا إلى التعامل مع جميع القرارات من الفئات الثلاث آنفة الذكر، حيث إنّ نوع القرار لا يرتبط بالضرورة بإيجاد القسم المسؤول في الشركة لإصداره، بل يرتبط باتباع الطريقة المناسبة لإصداره.
4- الإطار الزمني المناسب
يمكن لفريق القيادة العليا في شركة تصنيع الأحذية، بمجرد تحديد القرارات وتصنيفها، معرفة الوقت الأنسب لإصدار مثل هذه القرارات. ومن خلال تحديد الإطار الزمني الذي قد يمتد إلى 3 أو 6 أو 9 أشهر، يمكن للفريق تمييز القرارات التي تحتاج إلى التطبيق الفوري وتطبيقها في الوقت المناسب. فعلى سبيل المثال، قرر الفريق أن الترقيات الرئيسة، التي ستأخذ بعين الاعتبار مهارات التغيير الإداري للمرشحين، يجب إصدارها قبل تطبيق استراتيجية تخطيط موارد المشاريع.
وعندما تبدأ الفرق في دراسة القرارات من ناحية التعقيد التنظيمي والتحليلي، فإن غالبية القرارات عادة ما تصنف على أنها مهمة. وعلاوة على ذلك، وبفضل وجود آلية لتصنيف القرارات من ناحية التعقيد التنظيمي والتحليلي في المستقبل، يمكن للفريق التعامل مع القرارات على أنها جزء هام لضمان سير العمل، وبالتالي مراجعتها وتحديثها بشكل دوري. ومن خلال تحديد المنهجية الأكثر كفاءة وفعالية للتعامل مع هذا النوع من القرارات، يمكن للفريق توفير المزيد من الوقت للقرارات الاستراتيجية ذات التأثير الكبير. كما أن تفويض مسؤولية بعض القرارات لموظفين أكفاء من شأنه توفير المزيد من الوقت أيضاً. وفي حالة شركة تصنيع الأحذية، يمكن للمدير التنفيذي أن يؤكد لأعضاء الفريق أنه يمكن اتخاذ مجموعة كاملة من القرارات بشكل سلس وفعال على مستوى الأقسام الأخرى بدلاً من طلب موافقة فريق القيادة العليا بأكمله أو حتى موافقته هو شخصياً.
ويعد الإلمام بالمكان والوقت اللذين يتطلبان تركيزاً أكثر من أهم الصفات التي يجب أن يتمتع بها فريق القيادة من أجل تحديد تحديد أولوية القرارات. وكما تعلّم فريق القيادة في شركة تصنيع الأحذية، فإن إنشاء جدول أعمال للقرارات وإدارته يعد من أسرع الطرق وأكثرها فاعلية.
اقرأ أيضاً: