ففي المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأميركية على حد سواء، شهد متوسط الدخل ركوداً دام عقوداً. وفي الوقت نفسه، يعاني الناس حالة لم يسبق لها مثيل في التاريخ الحديث للدول الغنية من الضعف المالي، وانعدام الأمان. ففي المملكة المتحدة، انخفضت مستويات المعيشة لجميع المستويات عدا الطبقات الأكثر ثراءً. وفي الولايات المتحدة، يقع معظم أطفال المدارس العامة تحت وطأة الفقر، ولأول مرة أصبحت الطبقة المتوسطة أقلية ديموغرافية، وأصبح متوسط الأعمار ثابتاً في المجمل، وفي الواقع، انخفض لدى أصحاب البشرة البيضاء.
انهيار الطبقة المتوسطة
ولا توجد تسمية حميدة لهذه الظاهرة التي تنهار فيها الطبقة المتوسطة، في حين "تنمو" اقتصادات الدول شكلياً. وهذه الظاهرة ليست مجرد "ركود"، مع بضعة أرباع فقط من السنة المالية يحقق فيها الاقتصاد نمواً ضعيفاً. وليست مجرد "كساد"، أفضى إلى نمو سالب. لا يوجداسم لظاهرة انهيار الطبقة المتوسطة هذه وتحولها إلى الطبقة الفقيرة الجديدة، بينما يزداد الأثرياء ثراءً. ويكشف افتقارها إلى اسم أن الأشخاص الذين حاولوا تسميتها بالكاد يدركون هذه الأشياء من الأساس.
لكن تمهل، فافتقار هذه الظاهرة إلى اسم لا يعني أنها ليست حقيقية في أنظار الناس الذين يتذوقون مرارتها. فقد كبر هؤلاء الناس وفي قلبهم غضب تجاه نظام تخلى عنهم، وهو نفس النظام الذي لن يعترف من الأساس بحدوث ذلك التخلي. ولهذا السبب يتحول هؤلاء الشعوب، في كل ربوع العالم، إلى ديماغوجيين أو يتبعون السلوك الغوغائي.
ويكمن وراء الخراب الاقتصادي جيل من قادة فشلوا في تحقيق مسعاهم. وأكثرهم شهرة في هذه الآونة هو ديفيد كاميرون. إذ سيذكره التاريخ بأنه الرجل الذي فكك الاتحاد الأوروبي، أو المملكة المتحدة بالأحرى، وأدخل البلاد في حالة من الفوضى.
من السهل بمكان توجيه أصابع الاتهام إلى القيادة السياسية الفاشلة. لكن الأمر يتعلق هنا بفشل القيادة المؤسسية أيضاً.
الحقيقة هي أن قادة الأعمال في وقتنا الحالي قد فشلوا في أبسط الظروف وأقواها وأشدها قسوة. فالطبقة المتوسطة، التي تعتبر حجر زاوية الرخاء، والمقياس الحقيقي له، والإبداع العظيم للعصر الحديث (لا، لم يكن ذلك الإبداع هو أجهزة الآيفون) تندثر تحت قيادتهم. وفي الواقع، حتى "الطبقات المتوسطة العالمية الناشئة" المزعومة في البلدان النامية لا تحل محل الطبقة الأصلية. (فأفراد هذه الطبقات لا يتمتعون بالحقوق نفسها، ولا المستوى نفسه من الحماية والأمان، وجودة الحياة مقارنة بالطبقة المتوسطة الأصلية المتهاوية في العديد من البلدان الغنية الأخرى. وقد سُميت هذه الطبقات "طبقات متوسطة" من قبل الخبراء والنقاد، لكن تسميتها بهذه الشاكلة أشبه بتسمية كل من ناقلة بترول ضخمة وزورق صغير باسم مركب).
يعتبر البريكست أسوأ حدث طرأ على الأعمال التجارية البريطانية منذ الحرب العالمية الثانية، وكابوساً للتجارة العالمية منذ الأزمة المالية العالمية الهائلة عام 2008. فهو رمز لحقبة جديد مضطربة؛ حقبة تصبح فيها الانهيارات المدمرة للأنظمة هي الظاهرة الطبيعية الجديدة. والحقيقة هي أنه بدلاً من الأمل فيتجنبهادون جدوى (وهو ما لا يمكنك فعله)، من الأفضل أن تساعد فيمنعحدوثها (وهو ما يمكنك فعله).
وللحيلولة دون وقوع هذه الكوارث، يجب على الأعمال التجارية لعب دور أكثر نشاطاً وانخراطاً في خلق اقتصادات مزدهرة نابضة بالحياة من شأنها أن تصون المجتمعات من الانهيار الذاتي، لأن هذه الانهيارات تجرف في طريقها الأعمال التجارية أيضاً. لا يحدث البريكست في الاقتصادات المزدهرة، إنما يحدث فقط في الاقتصادات الآخذة في الانهيار. فالأشخاص الذين لديهم وظيفة جيدة، ويقصد بذلك تلك الوظائف التي تتيح لهم فعل شيء مفيد، وتقدم لهم أجوراً تكفل لهم حياة كريمة، وتعود عليهم بمزايا جيدة، والقادرون على تعليم أبنائهم، والذين يحصلون على الرعاية الصحية التي يحتاجونها، ويعيشون حياة كريمة مُرضية في العموم، لا يدمرون أنظمتهم الاقتصادية في محاولة طائشة لجذب الانتباه، وتحقيق العدالة، وأخذ الثأر.
لكننا لا نستطيع أن نقف مكتوفي الأيدي ونترك حياة الناس تتدهور بمعدل أبطأ قليلاً من التدهور التجاري الوشيك، ونعتبر ذلك إنجازاً جيداً. فلا يمكن أن تستوفي الشركات مسؤولياتها الاجتماعية في الوقت الذي يتقاضى فيه كبار الرؤساء التنفيذيين أمولاً طائلة متزايدة بينما يحصل العاملون لدى الشركة على رواتب قليلة وآخذة في الانخفاض (نسبياً). ولا شك أن رد الفعل العكسي الصادر من الأشخاص الذين أهملهم نموذج غير متكافئ لتعميم الرخاء يكون حاداً للغاية، وعنيفاً جداً، وبالغ التدمير. وذلك هو الحال تماماً عندما تتسارع وتيرة التغير المناخي، وعندما تبدأ الأزمة المالية القادمة في الحدوث، وعندما يصل الشباب العاطلون عن العمل والمثقلون بديون التعليم إلى نقطة الانهيار، وما إلى ذلك. هذه التكاليف المزعزعة للعالم الناجمة عن هذه المخاطر العالمية الكبيرة لم تعد مجرد مصدر إزعاج يمكن للأعمال التجارية أن تخفيه وتتغاضى عنه.
إنما يحمل البريكست إلينا رسالة طارئة حول الفئة المتوسطة وقادة الأعمال. وهي أننا سنصل إلى نقطة معينة سيكون عندها الأشخاص الذين أهملهم النظام الاقتصادي مستعدين لرؤية البلد بأكمله ينهار حتى يصبح أنقاضاً، بحيث تتسنى إعادة إعماره بشكل يكفل العدل والمساواة. وقد يطيحون بك وبعملك التجاري مع هذا الانهيار أيضاً.