لماذا يحتاج الموظفون والشركات إلى تحديد الغرض من وجودهم؟

13 دقيقة
shutterstock.com/Abscent

أجرت هارفارد بزنس ريفيو مقابلة في أحد برامجها الصوتية (بودكاست) مع نيكولاس بيرسي، أستاذ الطبّ السريري المشارك في كلية كيلوغ للإدارة. وهو أيضاً قس، ومدرب تنفيذي، ومؤلف كتاب "الطريق إلى الغرض: دليلك لمواصلة عمل حياتك الحقيقي". (The Purpose Path: A Guide to Pursuing Your Authentic Life's Work).

وإليكم مقتطفات من هذه المقابلة الصوتية:

يقول نيكولاس بيرسي: إنّ الكثير من الشركات والأفراد يمارسون أعمالهم اليومية دون التحلي بوعي قوي تجاه الغرض. وهو يرى أنّ الشركات التي لا يتحكم فيها مجرد عامل الربح تزداد فرص نجاحها أكثر، وأن الأمر نفسه ينطبق على الموظفين. كما يقول إن الأفراد الذين يوفقون بين وظيفتهم اليومية وعمل حياتهم سيكونون أكثر سعادة وأكثر إنتاجية.

النص

كيرت نيكيش: مرحباً بكم في برنامج "آيديا كاست" المقدم من هارفارد بزنس ريفيو. أنا كيرت نيكيش.

لم يكن نيكولاس بيرسي يعرف دائماً الطريق الذي كان مقدَّراً له أن يسلكه.

ترعرع في الجانب الجنوبي لشيكاغو. كان جيداً في مادتي الكيمياء والرياضيات، وتخرج بتفوق في المدرسة الثانوية.

درس الهندسة الكيميائية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (إم آي تي)، ولكنه أدرك بمرور الوقت أنّ ذلك لم يكن محور اهتمامه وشغفه.

فقد كان يهتم لأمر الناس كثيراً.

وبدأ يركز على هندسة شيء آخر، هو القيادة والنجاح التنظيمي.

بيرسي هو الآن أستاذ في كلية كيلوغ للإدارة في جامعة نورث وسترن. وهو قسّ في إحدى الكنائس الكبيرة في شيكاغو، ويعمل أيضاً مدرباً تنفيذياً.

ويصف ذلك بقوله إنه يملك ثلاث وظائف ورسالة واحدة. تشكل كل هذه الأدوار مجتمعة حياة هانئة. وهو يقول إنّ كثيرين منا يبحثون عن وظائف دون التفكير بشأن الغرض. ويضيف أنّ على الشركات أيضاً أن تسعى إلى تحقيق الأهداف مثلما تسعى إلى جني الأرباح.

كتابه الجديد هو "الطريق إلى الغرض: دليلك لمواصلة عمل حياتك الحقيقي". (The Purpose Path: A Guide to Pursuing Your Authentic Life's Work).

شكراً لقدومك إلى برنامجنا يا نيكولاس.

نيكولاس بيرسي: شكراً لاستضافتكم لي يا كيرت.

كيرت نيكيش: إذا سلّمت بأنّ أكثر الشركات نجاحاً هي الشركات التي تسعى لتحقيق غرض أو تمتلك رسالة واضحة، فهل الأشخاص الذين يديرون دفّة القيادة فيها يمتلكون غرض ورسالة أيضاً؟

نيكولاس بيرسي: أفضل الشركات هي تلك التي لا تمتلك غرض لنفسها فقط، بل تجتذب إليها الأشخاص الذين تنسجم أحاسيسهم الفردية بالغرض مع غرض الشركة، وتقوم بتوظيفهم.

الغرض هي ببساطة السبب الذي يوجد من أجله الأشخاص أو الأشياء. ومن الضروري أن يشكل حافزاً للأعمال التي تقوم بها الشركات كلّ يوم، لأن السبب يجب أن يكون الدافع وراء العمل. كما أننا نستطيع أن نقول الشيء نفسه عن الأفراد، إذ يتعين أن يكون السبب هو الدافع وراء العمل فيما يتعلق بما يقومون به كلّ يوم.

كيرت نيكيش: أتساءل: عندما تقوم بدراسة المشهد العام للشركات القائمة، كم عدد الشركات التي تشعر أنّ السبب لديها يشكل الدافع وراء العمل؟

نيكولاس بيرسي: تركز الكثير من الشركات على زيادة الأرباح. وللأسف، لا يعتبر ذلك غرض وجيه، وليس سبباً مقنعاً. لا شك أنّ الأرباح هي أحد المُخرَجات المهمة، ولكنها ليست السبب وراء وجود مؤسسة ما.

يجب أن يميِّز الغرض المؤسسة عن غيرها من المؤسسات، فهو أشبه ببصمة الإصبع أو الحمض النووي لشخص ما، وهو ما يميزه عن شخص آخر. كلّ شركة مدرجة ضمن قائمة شركات "فورتشن 500" ستقول "إننا هنا نسعى لجني المال". هذه ليست مؤسسة خيرية عامة.

ولكن ما يميزها عن الشركات الأخرى يجب أن يكون السبب الخاص بها. إذاً، تتعاظم أهمية الغرض لأنّ ثمة الكثير من الأشخاص، وخصوصاً من مواليد التسعينات، يتخذون قرارات العمل دون الاستناد إلى إمكانية جني الأرباح أو القدرة على دفع الرواتب والقدرة على تحقيق المكاسب، بل على انسجام ذلك العمل مع غرضهم. وربما لا تركز الكثير من الشركات حالياً على الغرض، ولكن عددها بكل تأكيد يشهد زيادة كبيرة.

كيرت نيكيش: ما الأسباب الأخرى التي تدعوك لقول ذلك؟

نيكولاس بيرسي: حظيت بفرصة للحديث مع 50 من القادة المائة الكبار في إحدى أهم الشركات العالمية. وسألتهم: "ما غرض شركتكم؟ وما هو السبب وراء وجودكم جميعاً؟".

عمّ الصمت المكان. نظر بعضهم إلى بعض بحيرة وارتباك، دون أن ينبسوا ببنت شفة. وفي نهاية المطاف، قال أحدهم: "حسناً، نريد أن نستمر في البقاء". قلت لهم: "تقصدون أنْ تخبروني أن سبب وجودكم هو الحفاظ على البقاء؟". هذا لن يحفزني للاستيقاظ والذهاب إلى العمل. ولن يدفعني للمجيء باكراً، أو البقاء حتى وقت متأخر، أو تقديم أفضل أفكاري، أو أن أكون سفيراً ناجحاً للعلامة التجارية.

"هل يمكنكم تقديم إجابة أفضل؟". وبعد حوالي 15 دقيقة، توصلنا إلى فهم للوضع الذي كانوا فيه كمؤسسة، وكيف وجدوا أنفسهم يحاولون- ليس فقط تغيير وجه القطاع الذي يعملون فيه- بل إحداث تغيير في جودة حياة الناس حول العالم أيضاً.

إذاً، فبدفعهم إلى التفكير بشأن غرضهم الأكبر وسبب وجودهم، من خلال هذا السؤال الذي ربما طرحته بشكل آخر: "ماذا سيحدث أو من سيهتم إذا لم تعد شركتكم قائمة؟"، كانوا قادرين على الاجتماع حول مفهوم أعمق للغرض الذي استطاعوا تعميمه فيما بعد على المؤسسة بأكملها، مع رفع معنويات الموظفين وإعطائهم سبباً لوجودهم في هذه المؤسسة.

كيرت نيكيش: هل تعتقد أن الموظفين والأفراد يجدون هذا أسهل أم أصعب مما تجده الشركات؟ (أين يبدو الأمر أصعب؟ لدى الموظفين والأفراد أم عند الشركات؟).

نيكولاس بيرس: يجد الأفراد والمؤسسات الأمر صعباً بالدرجة نفسها، حيث إنّ المؤسسات ليست مميزة، بل هي مكونة أساساً من أشخاص. وإذا لم يفكر هؤلاء الأشخاص بشأن أهدافهم الخاصة، فلن تقوم الشركات عندها بالتفكير بشأن الغرض.

يعمل الأفراد في جميع الحالات وفق رؤيتهم الخاصة، فيعيشون حياتهم يوماً بعد آخر مع سلسلة غير منتهية من الأنشطة، دون التساؤل حقاً عن السبب وراء ما يفعلونه. إنّ المزايا والفوائد التي يتمتع بها الأفراد اليوم هي نتاج قرون من الفكر الفلسفي واللاهوتي. فقد كتب بعض الفلاسفة أننا موجودون في هذه الحياة من أجل ملذاتنا وسعادتنا. فيما يعتقد البعض الآخر أننا موجودون من أجل التكاثر وحفظ النوع البشري، من وجهة نظر جينية. ويعتقد آخرون أننا لا نملك أي غرض إطلاقاً.

أتذكر جيمس واتسون، الحائز على جائزة نوبل وهو أحد مكتشفي بنية الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين (DNA)، والذي قال إنه لا فائدة من وجودنا، فنحن ثمرة التطور فحسب. واعترف آخرون فيما بعد أنّ ثمة صورة أكبر وبُعداً سامياً وروحياً وأبدياً لحياتنا، بغضّ النظر عن المعتقد الديني لشخص ما، حيث يوجد ما هو أكثر مما نستطيع رؤيته أو تجربته بحواسنا.

وعلى هذا النحو، عندما ندرك بصفتنا كأفراد أننا خلقنا من أجل غرض أكبر، فهذا يشجعنا ويلهمنا ويثير لدينا التّحدّي لنستمع إلى صوت الخالق الذي كلّفنا بمهمة حياتنا التي يزداد نطاقها وتكبر مع مرور الوقت. وبعيداً عن المسار المهني والوظيفة، ما هو عملي في الحياة، وكيف أصل إليه؟

كيرت نيكيش: أنت مسيحي، أليس كذلك؟ أنت قسّ. بهذا فأنت تمتلك قناعات عميقة حول امتلاك البشر لأهداف فردية، وهو شيء يجعلهم متميزين حقاً. ولذلك فهم يمتلكون مسار أهدافهم الفردية الخاص بهم وموهبة يستطيعون اتباعها، وهذا يعني أكثر من مجرد عمل في وظيفة. كما تعلم، هذا شيء أقرب إلى الدعوة.

نيكولاس بيرس: هذا صحيح. ويوجد الكثير من الأشخاص الذين ربما لا يشتركون في معتقد ديني معين، ويمكن أن يعترفوا على الأقل بحقيقة أنّ ثمة شيئاً أكثر في هذه الحياة مما قد نراه - في المكان والزمان الحاليين. وهذا ما يقود الكثير من الناس إلى الاهتمام بأسئلة الأثر وأسئلة المعنى. لدى هؤلاء لهفة شديدة وقدرة على طرح هذه الأسئلة بغض النظر عمّا إذا كانت ترتكز عندهم أو ترتبط بمعتقد ديني معين.

كيرت نيكيش: وماذا لو كنت لا تعلم ما هو عملك في الحياة؟ مثل كيف تصل إلى القرار الخاص برسالتك ومهمتك الشخصية وأنت تعلم أنّ العثور على الوظيفة المناسبة أو اختيار المسار المهني هو عمل شاق بحد ذاته؟

نيكولاس بيرس: أعتقد أن عملنا في الحياة متعلق إلى حد كبير بهويتنا وسبب وجودنا على الكوكب. لذلك علينا أن نبدأ بطرح الأسئلة العميقة التي تخص الغرض والهوية حتى نصل إلى عملنا في الحياة. تتطلب فكرة العمل في الحياة مستوى من الأصالة الإنسانية.

ولكن هذه الفكرة الأصيلة لا تسمح- فقط- لأفضل قيمنا وأسماها بتوجيه كيفية قيامنا بالعمل وكيفية سلوكنا فيه، بل تُمَكن تلك القيم من التوجيه نحو نوع العمل الذي نقوم به في المقام الأول. فهي تتمحور حول العمل والأثر الذي نشعر بأننا مدعوون تحقيقه في أي لحظة من لحظات حياتنا. إنه العمل الذي لا يمكننا عدم القيام به. وهكذا، عندما نُمنَح الموهبة كي ندع نفوسنا تتألق من خلال العمل الذي نؤديه، يكون ذلك هو عملنا الأصيل.

وهي تدعونا للمشاركة في العمل الجوهري المتمثل في الربط بين أنفسنا وأدوارنا. وفي الواقع فإنّ ما يبدو أصيلاً لشخص ما قد يكون غير أصيل تماماً بالنسبة لشخص آخر. وهذا ليس مجرد وسيلة أو خديعة للتحايل على الناس ودفعهم للمشاركة في أعمال غير ربحية، أو أعمال متدنية الأجور، أو بعض الأعمال ذات الأثر الاجتماعي الواضح. إنه فقط العمل الذي دُعيتَ إلى القيام به بشكل خاص في هذه اللحظة وهذا الفصل من حياتك.

كيرت نيكيش: عندما تطرح هذه الأسئلة، كيف تعرف ما إذا كنت في الوظيفة الخاطئة من ناحية الشعور بأن لديك غرضاً ما؟

نيكولاس بيرس: هناك عدة أشياء تتبادر إلى ذهنك وتخطر في بالك عندما تحاول تحديد فيما إذا كنتَ في الوظيفة الخاطئة أو أنه قد حان الوقت لتغيير مسارك. ولا شكّ في أنّ أحد أكثر الأسباب التكتيكية وراء احتمال استعداد الشخص لترك عمله تكمن في توقفه عن التعلم والنمو، أو وجود ثقافة محبطة في مكان العمل تؤثر سلباً في رفاهية العاملين ونوعية حياتهم.

كما قد تشمل شعور الشخص بالزيف وعدم الأصالة في ذهابه إلى العمل كل يوم، إذا كان العمل الذي يقوم به لا يرتبط بغرضه الخاص، وإذا كانت النتائج التي يسعى إلى تحقيقها تبدو جوفاء لا معنى لها أو لا تنسجم مع هويته والمبادئ التي يمثلها، فعندها يكون الوقت قد حان للتفكير في ترك ذلك العمل.

وأقول ذلك مع احترام كامل لأولئك الذين يعملون في وظائف فقط لكسب لقمة العيش وتأمين المسكن لأفراد أسرهم. أدرك أن بعض الناس قد لا يشعرون أنهم يمتلكون ما يكفي من الرفاهية والترف للاستماع إلى هذه المحادثة الآن، ولكن حتى في الوظائف التي قد لا تحتوي مسارات مهنية فاتنة بالنسبة لهم، نبقى جميعاً مدينين في ذلك لأنفسنا، ذلك لأننا لا نملك سوى حياة واحدة لنحياها، ونقضي أيامنا في القيام بما نشعر أنه ينسجم مع ما يجب أن نفعله في حياتنا.

كيرت نيكيش: هل ترى أن الأصعب بالنسبة للموظفين أن يكتشفوا الآن أنّ اقتصاد الأعمال المستقلة وصل إلينا، وأنّ عالم العمل أصبح أكثر تعقيداً من ذي قبل؟

نيكولاس بيرس: أعتقد أن القيام بذلك ليس فقط أسهل الآن، بل أكثر أهمية فنظراً للطريقة التي تُعامل فيها الشركات الموظفين. كان ثمة عقد اجتماعي بين صاحب العمل والموظفين يقول "سنعتني بك ما دمت تفعل الأشياء الصحيحة، وسوف نهتم لأمرك، ونقيم لك حفلة عندما تتقاعد، ونقدم لك ساعة ومعاش تقاعد. سنعتني بك مدى الحياة".

كان الموظفون يمثلون أهم ثروة تمتلكها المؤسسة. ولكنّ ما نراه الآن هو أن الكثير من الشركات تعامل المواهب كما لو كان الموظفون سلعة، والمال هو الثروة التي تقدِّرها وتعتز بها. إذا كنت تعمل في مؤسسة تعاملك كموظف رقم 742,017، فمن الأرجح أن يتحرك لديك حافز شخصي أكبر للبحث عن إجابة للسؤال: ماذا أفعل وما الذي أقوم به في حياتي؟

لأن من الواضح أنّ هذه الشركة لا تفكر كثيراً في حياتي. تعتقد هذه الشركة أنني قابل للاستبدال وأنّ دوري ثانوي في الشركة. وفي الوقت الذي يواصل فيه الذكاء الاصطناعي الانتشار، وتحل الآلات محل الموظفين بشكل أكبر، سيدفعنا ذلك كبشر إلى توضيح ما يعنيه لن أن نكون بشراً على نحو فريد.

إذا لم يكن الجهد الجسدي والقدرات المعرفية هي ما تجعلنا فريدين كبشر، فماذا يتبقى لدينا؟ ما يتبقى لدينا هو الروح. ما يتبقى لدينا هو الوعي العميق والمستمر بالذات. ما نملكه هو القدرة على خوض تجارب السّمو بالذات .

وكقادة تنظيميين، يجب ألا نطلب من موظفينا أن يتركوا ذلك الجزء من أنفسهم خارج الشركة، بل أن يحضروه إلى داخل الشركة وإلى داخل العمل اليومي. هذا ليس بالشيء الكثير لمحاولة تحويل الناس إلى اتباع معتقد ديني معين، ولكن لإقناعهم بأن يكونوا أصلاء ومحققين حضورهم الذاتي تماماً.

كيرت نيكيش: كيف تتعلم ذلك؟ بم أنّك تدرِّس في كلية كيلوغ للإدارة، وأنا حصلت على شهادة جامعية من كلية كويستروم للأعمال، ولا أذكر مطلقاً أنه قد قيل لي كيف أفعل ذلك.

نيكولاس بيرس: إنني أومن بقوة بأن نظامنا التعليمي متواطئ في المشكلة التي وصفتها للتو. ترعرت في الجانب الجنوبي لشيكاغو، ودخلت المدارس العامة للنخبة في شيكاغو، ثم تخرجت من بعض أفضل الجامعات، وأدرِّس الآن في أحدها. ولكن عندما أفكر في حياتي الخاصة، أجد أنّ كلّ شيء كان موجهاً نحو مواءمة الاهتمام والشغف العاطفي وتحقيق التناغم مع المسار المهني.

لقد قضيت وقتاً أطول مع الطلاب في قاعة الفصل، بمن فيهم بعض قادة المدارس ومسؤولين تنفيذيين في القطاعين العام والخاص، وعرفت أن الأشخاص المسؤولين عن تعليم شبابنا تقلقهم هذه الأسئلة هم أيضاً. ولذلك فإنهم قد يكونون في وضع لا يؤهلهم لقيادة الجيل الشاب إلى مكان لم يصلوا هم إليه أصلاً.

من المهم والأساسي جداً إعادة صياغة الغرض من التعليم، ليكون موجّهاً نحو النهوض بالقطاع الصناعي واختيار المسار المهني، بحيث يمكنك القول بأن التعليم الذي تلقيته سيمنحك المهارات والأدوات والشهرة التي تحتاجها كي تقوم بإنجاز عملك في الحياة، مهما كان هذا العمل.

يظن البعض أنّ الغرض من التعليم هو إنارة عقل شخص ما بنور المعرفة وإذكاء طاقاته ومواهبه، وليس ملء وعاء فارغ بالحقائق والمعرفة. وأعتقد أنّ من مصلحتنا، ليس فقط كأفراد بل كمجتمع، أن نوجِّه الناس في الاتجاه الذي تمّ تأهيلهم فيه ليكونوا متألقين على نحو فريد.

ولا يعني ذلك ضرورة أن يمتلك كلّ شخص وظيفة مكتبية، وأن يكون من أولئك الموظفين الإداريين ذوي الياقات البيضاء كي يكون له أهمية و غرض. فأنا لا أرى أن الأهمية والغرض مرتبطان بلقب الشخص أو مكانته أو الراتب الذي يتقاضاه. فهناك بعض الأشخاص في جامعة نورث وسترن يقومون بتنظيف الألواح البيضاء بعد انتهائي من التدريس، ولديهم إحساس أكثر وضوحاً حول المغزى من حياتهم مقارنة ببعض زملائي في الكلية الذي يتمتعون بوضع مالي جيد. إذاً، هذا ليس كلاماً يقال في فصل مدرسي. هذا نقاش روحي عميق وجوهري فائق السمو.

كيرت نيكيش: ماذا يعني كل ذلك للشركات والمدراء؟ إذا كنت تعمل في مكان ما، فهناك احتمال- كما تعلم- في أن تجد عدد من الأشخاص الذين تعمل معهم لا يشعرون بالانسجام والتوافق مع ما يتعين عليهم القيام به. وبالتالي، قد تشعر- بصفتك مديراً أو قائداً أو زميل عمل- بأنك تعمل ما ترغب به على وجه صحيح، ولكن هل بوسعك مساعدة الأشخاص الذين تعمل معهم للوصول إلى هذا الشعور؟

نيكولاس بيرس: أعتقد أن إحدى أكبر مسؤولياتنا كقادة تتمثل في تزويد الموظفين بإحساس واضح حول أهمية عملهم والغرض والمغزى منه. وأرى أن هذا النقاش بالغ الأهمية بالنسبة للقادة، لأننا في معظم الحالات نكون شركاء في خفض قيمة موظفينا والتقليل من شأنهم. ما أعنيه، وقد كنت شاهداً على ذلك في عملي، أنه يكون لديك أحياناً قائد لديه موظف ذو أداء استثنائي، وهو نجم لامع في فريقه.

والمشكلة ليست في انخفاض أداء ذلك الشخص، بل في أن القائد يتملكه في قرارة نفسه شعور قوي بأنّ هذا الشخص ليس في مكانه المناسب، وأنّ هذا الشخص لا يربط نفسه بدوره الوظيفي. هذا الشخص يعمل وفق رؤيته التلقائية الخاصة، وينجز عملاً رائعاً ومهماً له قيمة للشركة، إلا أنّ عمله لا قيمة له في نظر نفسه بالذات.

لا ينبع ذلك من منظور مالي، ولكن من إحساس أكثر أهمية وعمقاً بمنظور الغرض. وفي بعض الأحيان يكون لدى ذلك القائد أو المدير رغبة في التمسك بذلك الشخص لأنه لا يريد خسارة شخص جيد. ولكن من منظور إنساني، عليك ألّا تحتفظ بذلك الشخص رهينة لديك، وأن تطلق سراحه أو تحرره وتسمح له بالانصراف.

لا أعني بذلك طرده من وظيفته. ولكنني أعني تدريبه، وأن نكون على استعداد لوضع رصيدنا الاجتماعي على المحك لمساعدته في الوصول إلى المكان الذي يسمح له بدمج عمله اليومي مع عمله في الحياة. ربما يكون ذلك المكان في مؤسسة أخرى، أو ربما يعني أننا بحاجة إلى إيجاد منصب آخر داخل مؤسستنا الحالية.

ولكننا كقادة، يقع على عاتقنا دور مهم ليس في إيجاد غرض للموظفين، بل في تيسير تحقيق ذلك الغرض الذي يأتي به الموظفون إلينا. وكقادة، نحن حريصون على الموظفين، وتعتبر طريقة رعايتنا لهم لمساعدتهم في الوصول إلى طاقاتهم الكامنة وتقديم أفضل ما لديهم بُعداً مهماً لطريقة قياسي لفعالية القيادة وكفاءتها.

كيرت نيكيش: هل هناك أشياء يمكن أن تقوم بها دون زعزعة الأمور على نحو مُريع؟ مثلاً، هل يمكنك تحويل مؤسستك إلى مؤسسة تقوم بأعمال خدمة مجتمعية وعمل تطوعي أكثر، وإيجاد بعض الأشياء التي تعطي الموظفين إحساساً أكبر بالغرض دون خلط الأمور أو زعزعتها؟

نيكولاس بيرس: تحاول الكثير من الشركات رتق أو ترقيع المسؤولية الاجتماعية للشركة لعدم وجود غرض واضح لديها. وفي النهاية لن يكون هذا مجدياً. تمتلئ حافلة أو اثنتين أو ثلاثة بالزملاء من مكان العمل، ونرتدي ملابس متشابهة، ونذهب إلى مجتمع ربما يعاني من الحرمان الاجتماعي والاقتصادي، ونقوم ببعض الأعمال الجيّدة لعدة ساعات، ونلتقط الصور، ولكن في نهاية اليوم نجد أننا قمنا بإنفاق مبالغ أكبر على الحافلات والقمصان مقارنة بما أنفقناه للتأثير في حياة الناس في المجتمعات التي ذهبنا إليها، ولم نقدم الكثير فعلاً.

والموظفون في المؤسسات يدركون ذلك. لا يتعلق الأمر بإقامة نشاط لخدمة المجتمع أو إيجاد نوع من اللجان يمكنها أن تعلن على مواقعها الإلكترونية أنها ملتزمة بفعل الخير وتقديم أشياء جيدة. هذا إحساس أكثر عمقاً وقوة حول سبب وجودنا كشركة، بحيث يعزز قيمة كل شيء نقوم به.

سواء كان ذلك الإحساس في الفضاء المجتمعي أو المدني، أو في القرارات التي نتخذها مع زبائننا وعملائنا، أو القرارات التي نتخذها حول كيفية قيامنا بتأسيس بيئة عمل وثقافة صحية، والعمل على رعايتها وتنميتها. وكيف نعامل بعضنا بعضاً كزملاء. هذه مسألة غرض، وليست ممارسة فحسب. وعندما تحاول الشركات العبث بممارسات تبدو جيدة ظاهرياً، ولكن عندما تبحث فيها بعمق تجدها جوفاء، يستطيع الأشخاص فهم ذلك بسهولة.

كيرت نيكيش: ما هي الأشياء التي تحب أن تسمعها أو تتعرف عليها عند زيارتك لشركات أو حديثك مع قادة؟ وما هي الإشارات التي تعلم من خلالها أنك تتعامل أو تعمل مع شركة منسجمة مع مبادئ هادفة؟

نيكولاس بيرس: أحد الأشياء المهمة من ناحية القدرة على فهم فيما إذا كانت شركة ما مهتمة بشأن الغرض هي القدرة على سؤال الموظفين عن الكيفية التي يساعد بها عمل الشركة الحالي على تحقيق غرضها، ليس ربحيتها بل غرضها. وإذا نظر الموظفون إليّ بحيرة وكأنه لم يسبق أن وُجِّه لهم ذلك السؤال أو لم يخطر على بالهم، فهذا يخبرني أن الغرض هو مجرد عبارة مكتوبة على الموقع الإلكتروني. إنه ليس شريان الحياة الحقيقي الذي يتحكم بمسار الأمور داخل المؤسسة.

عندما أدخل إلى مؤسسة ما تقوم بأشياء على صعيد الغرض، أتذكر شركة ماري كاي. بعض الأشخاص الذين قابلتهم في المقرّ الرئيس لهذه الشركة يعاملونها كما لو كانت إيماناً دينياً، حيث يتملكهم شعور بالفخر عند الحديث عن الشركة، ولا يقتصر الأمر على مؤسِّستها ماري كاي آش، بل أتحدث عن الأثر الذي تتركه الشركة في حياة النساء في كل مكان.

يؤمنون بذلك في أعماقهم، وهذا ليس بالشيء الذي يدّعونه بشكل زائف. إنهم لا يراؤون في هذا الأمر. بل يؤمنون في داخلهم بأن العمل الذي يقومون به كل يوم ليس لتحقيق منفعة اقتصادية فحسب، بل هو لتحقيق أثر اجتماعي يتمثل في تمكين النساء اللواتي يشكِّلن 50% من التعداد العالمي للسكان وإطلاق العنان لقواهن الداخلية.

وما أستطيع أن أراه أن ذلك لا يمكن تجاهله، وهو أمر تنتقل عدواه بالمعنى الإيجابي. لقد جعلوني في معظم الأحيان أرغب العمل في شركة ماري كاي يا كيرت، وأنا ليس لدي مصلحة أو اهتمام للقيام بالعمل الذي يقومون به. ولكن ثمة عدوى إيجابية منتشرة في الأرجاء لأنّ حالة الحماسة والالتزام التي يتحلّون بها تجاه غرضهم تخلق لديك الرغبة في الانضمام إلى فريقهم، حيث تعلم أنهم يفعلون شيئاً مهماً يستحق العناء.

كيرت نيكيش: برأيك ما هو أكبر تصور خاطئ لدى الموظفين حول الغرض، وتريد توضيحه لنا؟

نيكولاس بيرس: أعتقد أن أحد أكبر التصورات الخاطئة التي نجدها لدى الموظفين حول الغرض هو أنه يمثل جائزة ترضية تعويضية عندما لا تستطيع أن تحقق الأرباح. يعتقد الكثير من الموظفين أن الغرض هو الخطة "ب" التي يتعين على شركة ما اختيارها عندما لا تستطيع جني المال. بما أننا لا نملك المال، لدينا غرض على الأقل.

سأقول بدلاً من ذلك إن الغرض هو أحد الدوافع لجني المال. وسواء كنت تفكر بشأن الربح من منظور اقتصادي أو إنساني أو اجتماعي، فإن الغرض يعزز الربح. وهو أساسي لكلّ مؤسسة، وليس فقط لتلك المؤسسات التي تنطلق بوضوح لفعل الخير على المستوى الاجتماعي.

كيرت نيكيش: شكراً لقدومك يا نيكولاس إلى البرنامج وحديثك حول هذا الأمر.

نيكولاس بيرس: شكراً جزيلاً لاستضافتكم لي يا كيرت.

كيرت نيكيش: كان ذلك نيكولاس بيرس. وهو أستاذ مشارك في الطب في كلية كيلوغ للإدارة في جامعة نورث وسترن (Northwestern University). كما أنه قس، ومدرب تنفيذي، ومؤلف كتاب "الطريق إلى الغرض: دليلك لمواصلة عمل حياتك الحقيقي". (The Purpose Path: A Guide to Pursuing Your Authentic Life's Work).

هذه الحلقة من إنتاج ماري دوي. وحصلنا على المساعدة الفنية من روب إيكهاردت. ومدير الإنتاج الصوتي لدينا هو آدم باكولتز.

شكراً لاستماعكم إلى برنامج "آيديا كاست" المقدم من هارفارد بزنس ريفيو. أنا كيرت نيكيش.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي