ساهمتْ حالة الشد والجذب بين المبادئ الأساسية الاقتصادية والتهديدات السياسية، منذ تصويت بريكست (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي) والصدمات التي تسبب بها ترامب عام 2016، في بلورة مفهوم العولمة. وثبتَ أن التنبؤات بخصوص انهيار العولمة في ظل موجة من النزعة القومية الاقتصادية ليست أدق من التصريحات حول عالم مسطّح يُسيطر على مسار الأعمال التجارية العالمية منذ عقد من الزمان. ويبين مؤشر الترابط العالمي الصادر عن شركة "دي آتش إل" (DHL Global Connectedness Index) (الذي أعددناه مع فيليب باستيان) أن العالَم وصل في عام 2017 إلى مرحلة أصبح فيها متعولماً أكثر من ذي قبل. وبينما جاء عام 2018 مع تحديات جديدة، من شجارات حول التعرفة الجمركية إلى عمليات استحواذ ممنوعة، إلا أن النتيجة كانت ميداناً متغيراً بدلاً من إنهاء التنافس العالمي على مستوى الأعمال. كيف ينبغي على المسؤولين التنفيذيين التفكير حول بناء أعمالهم التجارية في خضم هذه الاضطرابات؟ يجب أن يبدأ المسؤولون بالتحلي برؤية واضحة حول كيفية رواج معايير العولمة، لأن قرارات الأعمال الذكية تعتمد على التصورات الدقيقة للبيئة.
في عام 2017، أدى نمو قوي في معظم أنحاء العالم إلى تسجيل رقم قياسي على مؤشر الترابط العالمي الصادر عن شركة "دي آتش إل". فزادت نسب التبادل التجاري ورؤوس الأموال والمعلومات وتدفق الناس عبر الحدود الوطنية بشكل ملحوظ. وكانت آخر مرة حدث فيها ذلك عام 2007.
عام 2018، تحولت تهديدات سياسية كبيرة من مجرد أقوال إلى أفعال. وأدت الخلافات بين الولايات المتحدة وأكبر شركائها التجاريين إلى زيادات في التعرفة الجمركية قوبلت بالمثل. وفي هذه الأثناء، شددت الدول الرقابة على عمليات الاستحواذ التي تقوم بها شركات أجنبية، وطوّرت سياسات توطين البيانات، كما شددت إجراءاتها في موضوع الهجرة. وبينما لا نمتلك البيانات الكاملة لعام 2018 حتى الآن، إلا أن هناك دليل على أن مثل هذه التطورات بدأت بالتأثير على بعض التدفقات العالمية. واستمرت التجارة بالنمو ولكن بوتيرة أبطأ، بينما تقلصت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر.
ومع الزخم القوي للعولمة التي تواجه رياحاً معاكسة عاتية، من المهم إدراك أنّ تكامل الأسواق لا يزال محدوداً بالقيم المطلقة. فلا تُحقق العمليات الأجنبية في الشركات متعددة الجنسيات حول العالم سوى 9% من الإنتاج العالمي. وتضيف صادرات البضائع والخدمات حوالي 29% من الناتج المحلي الإجمالي في العالم، ولكن حتى هذا الرقم ينخفض إلى نحو 20% في حال عدّلنا إنتاجاً يعبر الحدود أكثر من مرة. هل أنت متفاجئ؟ أنت مع صحبة جيدة. قدّر المدراء الذين استطلعنا آراءهم في ست دول في عام 2017 أن نسبة الإنتاج العالمي تساوي 37% ومقياس التبادل التجاري 41%.
هذا التقارب الصادم بين التدفقات العالمية، الذي يعد قريباً من أعلى مستوى سبق له أن بلغه ولكنه أدنى بكثير من تصورات المدراء، يُسلط الضوء على الفرص والتحديات التي تستمر العولمة في وضعها أمام الشركات متعددة الجنسيات. ولا يزال النجاح عبر الحدود والمسافات أصعب بكثير من الفوز في الموطن الأصلي، ولكن بعض العوائق المشابهة التي تحد من التدفقات العالمية تزيد أيضاً من المكافآت للشركات التي تجد طرقاً للتغلب عليها.
ولمساعدة قادة الأعمال في التماس طريقهم خلال اضطراب العولمة، وحتى جني الأرباح من ذلك، فنحن نقدم توصيات حول الاستراتيجية (كيف تنافس)، والوجود (أين تنافس)، والهيكلية (كيف تنظم)، والاستراتيجية غير السوقية (كيف تتعامل بشكل أفضل مع المجتمع):
كيف تنافس؟ إذا استمرت التهديدات الموجهة للعولمة بالتصاعد، سوف تكون الشركات التي تمتلك وضعاً تنافسياً هامشياً في الخارج عرضة لها بشكل خاص. وكما يحب وارن بافيت أن يقول "حين ينحسر المد فسوف تعرف مَن كان يسبح عارياً". وبينما تستمر بيئة السياسة في التقلب، تفادى الوقوع في خطأ الاستجابة لكل تطور قصير المدى. ولكن فكِر فيما إذا كان لشركتك مسار طويل الأمد نحو امتلاك ميزات كافية للتفوق على منافسيها كي تتمكن من البقاء في إطار المنافسة. فإن لم تكن كذلك، فإن هناك ما يبرر الانسحاب الاستراتيجي.
وعلى نحو خاص، خذ بعين الاعتبار ما إذا كانت شركتك تحتاج إلى إعادة التوازن في إطار استراتيجيات تجمّع عالمية صمدت أمام اختبار الزمن (تعزيز الأصول القابلة للتوسع بين الدول)، والمراجحة (استغلال الاختلافات، مثل تكاليف اليد العاملة)، والتأقلم (التكيف مع الاختلافات). ويؤدي التجمع والمراجحة مباشرة إلى خلق قيمة بين الدول، لذا فكِّر أولاً حول نهجك تجاه هاتين الاستراتيجيتين. وتشير التوجهات الحالية إلى احتمال حاجة الكثير من الشركات إلى الميل نحو التجمع أو على الأقل لأن تتحلى بعقلانية أكبر في اعتمادها على المراجحة. لاحظ كيف تقلل الاتفاقية الجديدة للتجارة الحرة لأميركا الشمالية (اتفاقية الولايات المتحدة والمكسيك وكندا) من فرص المراجحة في صناعة السيارات من خلال الحد من استخدام العمال بأجر يقل عن 16 دولاراً في الساعة.
يمكن أن يزيد التأقلم من الوصول الجغرافي للتجمع والمراجحة، ولكنه يأتي بثمن في حالة الاقتصادات التي فقدتْ حجمها، أو تضاءلت فرص الوصول إلى المدخلات الأجنبية. ويصبح تعزيز التأقلم من خلال التوطين رداً منطقياً في حال نشأت عوائق في وجه العولمة، إلا أن له حدوداً واضحة. وإذا كانت هناك حاجة ملحة لقيامك بالتوطين حيث لم تعد تمتلك ميزة كبيرة تتفوق على المنافسين المحليين الآخرين، ربما عليك إعادة النظر في خيار الانسحاب من بعض الأسواق.
أين تنافس؟ في عالم ليس متكاملاً على نحو مثالي، يعتمد المكان الذي تذهب إليه بشكل كبير على المكان الذي تأتي منه. فتجري حوالي نصف التدفقات الدولية التي نتابعها على مؤشر الترابط العالمي الصادر عن شركة "دي آتش إل" لعام 2018 بين الدول، وفقط في الدول الثلاث الأعلى التي تستورد منها وتصدر إليها، والتي غالباً ما تكون دولاً مجاورة. وحتى إذا نظرنا إلى أكبر الشركات متعددة الجنسيات في العالم والمرتبة حسب الأصول الأجنبية، فإن فروع هذه الشركات التي تصدر بيانات حول المبيعات لكل دولة تحقق حوالي 60% من عائداتها في أربع دول فقط (في الموطن الأصلي وفي أعلى ثلاث أسواق أجنبية لها). لذا يُعتبر السؤال حول المكان الذي تنافس به واضحاً بشكل عملي بالنسبة لجميع الشركات متعددة الجنسيات بغض النظر عن حجمها.
ويشير الكشف عن السياسات السائدة إلى تغيرات انتقائية في انفتاح الدول على الأعمال التجارية الدولية. وتقع التجارة والاستثمار بين الولايات المتحدة والصين في محور الاهتمام، ولكن العوائق تزول بين الكثير من الدول الأخرى. فجرى توقيع العديد من اتفاقيات التجارة المهمة في عام 2018، بما فيها اتفاقية الدول الإحدى عشرة الشاملة والتقدمية للشراكة عبر المحيط الهادئ (CPTPP) واتفاقية التجارة الحرة في القارة الإفريقية (AfCFTA) واتفاقية الشراكة الاقتصادية بين الاتحاد الأوروبي واليابان.
وتلمح هذه التوجهات إلى وجوب أن تستمر الشركات في تحديد الأسواق الأكثر أهمية بالنسبة لها من خلال دراسة الفرص المتاحة لها في دول معينة في مقابل المسافات الثقافية والإدارية أو السياسية والجغرافية والاقتصادية بينها (CAGE). والجديد في الأمر هو أن المسافات الإدارية أو السياسية تتغير بسرعة أكبر مما هو معتاد. ولا تستطيع الشركات إعادة ضبط عملياتها مع كل تغير في بيئة جيوسياسية متقلبة، ولكن قد يكون حان الوقت الآن للاستثمار في سلاسل إمداد رشيقة، ومراجعة التخطيط لحالات الطوارئ، وغير ذلك. وبينما تعيق التوترات التجارية النمو العالمي، يمكن لبعض الشركات وحتى بعض الدول جني الربح من ذلك. إذ يتوقع صندوق النقد الدولي، مثلاً، أرباحاً قصيرة الأجل تحققها كندا أو المكسيك، ومنطقة اليورو، واليابان من ارتفاع التعرفة الجمركية بين الولايات المتحدة والصين في ظل بعض الأوضاع.
كيف تنظِّم؟ إذا كانت شركتك تغير من استراتيجيتها التنافسية أو نطاقها الجغرافي، فيجب أن تتبع هذه التعديلات على هيكليتها التنظيمية. وقد يتطلب الميل نحو التجمع تعزيز وظيفة البحث والتطوير لديك لدعم تميزك التكنولوجي. ومن ناحية أخرى، ينطوي دعم التأقلم في العادة على تقوية أدوار القادة الموجودين في الدولة في الخارج. وأي تغير كبير في النطاق الجغرافي للشركة ينجم عنه تداعيات بالغة على هيكليات الإبلاغ واتخاذ القرار.
أحد أسهل السبل للتفكير هو التغيرات التنظيمية المحتملة هي من ناحية ثلاثة أسئلة: أي هيكلية؟ من يقود؟ وكيف نعمل معاً؟ التغيرات التنظيمية هي الأكثر زعزعة، ولكن الاستراتيجيات الأكثر تعقيداً مثل تلك التي تجمع بين كميات التجمع والتأقلم الكبيرة تتطلب غالباً هيكليات تنظيمية أكثر تعقيداً. وفي الأغلب تكون الشركات التي تعتمدها منظمة حسب المنطقة أو تستخدم تنظيماً مصفوفياً. وبالحديث عمن يقود، تمتلك العديد من الشركات متعددة الجنسيات عجزاً طويل الأمد من ناحية التنوع الوطني. فتبدو مناصبهم العليا شبيهة ببلدانهم الأصلية أكثر من أسواقهم المستهدفة. وإذا كان التأقلم أولوية، فقد تكون ثمة حاجة إلى فريق قيادي أكثر تمثيلاً. ويساعد النظر بعناية في كيفية عمل الأشخاص عبر الوحدات على تجنب التركيز المفرط على الخطوط والمربعات في المخطط التنظيمي. فكِّر من ناحية كيفية ربط العلاقات والحوافز وتدفق المعلومات لكي تجمع الأشخاص معاً عبر الخطوط الجغرافية والوظيفية.
كيف تتعامل بشكل أفضل مع المجتمع؟ رد الفعل المناهض للعولمة هو في جزء منه رد فعل ضد الأعمال التجارية الكبيرة. ووفقاً لمؤشر إيدلمان للثقة لعام 2018، لا يزال الجمهور يثق في الأعمال التجارية أكثر من الحكومة، وشعر أغلب الأشخاص المستطلعة آراؤهم أن "الرؤساء التنفيذيين يجب أن يتولوا قيادة التغيير بدلاً من انتظار الحكومة لكي تفرضه". ويتطلب هذا الأمر من الشركات التي تعمل بغض النظر عن الانقسامات السياسية، مثل شركات الولايات المتحدة متعددة الجنسيات في الصين، أن تمتلك قائداً يسير بثبات بين المصالح الوطنية المتنافسة.
ولحفظ توازنك، لا تسقط ضحية للوهم الذي يقول إنه من الممكن اعتبار شركتك محلية في الأسواق التي توجد فيها كلها. وأكِّد على الفوائد الحقيقية التي تقدمها شركتك للدول التي تعمل فيها، ولكن لا تختلق ولاءات كاذبة. تذكر أن أفراداً من الجمهور يميلون إلى الاهتمام أكثر بمواطني دولتهم بالمقارنة مع الأجانب. فحسب أحد الاستطلاعات، سيكون الأميركيون داعمين أكثر لسياسة تجارة افتراضية تضيف وظيفة واحدة في الولايات المتحدة على حساب ألف وظيفة مفقودة في الخارج مقارنة بسياسة تضحي بوظيفة واحدة في الولايات المتحدة وتخلق ألف وظيفة في الخارج. وفي هذا الإطار، فمن المرجح أن يُنظر إلى القائد الذي يحاول أن يكون بمثابة "أحد مواطني العالم" على أنه "مواطن بلا وطن" حسب المقولة الشهيرة لرئيسة وزارة المملكة المتحدة تيريزا ماي.
إضافة إلى ذلك، بما أن الكثير من الأعمال التجارية ما زالت محلية بدلاً من كونها عالمية، يوجد للكثير من الغضب المجتمعي تجاه العولمة أسباب جذرية محلية بالتأكيد، ويمكن التعامل معه فقط من خلال تسويات سياسية قوية على المستوى المحلي. فمثلاً، من الصعب التعامل مع المخاوف بشأن عدم المساواة في الولايات المتحدة من خلال تقليل الواردات نظراً لأن الولايات المتحدة دولة غنية بالفعل وما تقوم باستيراده لا يضاهي حجم اقتصادها الكبير ولا تزال تصنف في مستوى عالٍ من عدم المساواة. إن التدخل في ساحة السياسة المحلية بشأن التغير التكنولوجي والسياسة الضريبية وتنظيم سوق العمال وغيرها قد يكون محفوفاً بالمخاطر حتى لأكثر القادة صدقاً في النوايا، ولكن يجب على قادة الأعمال التجارية إبداء وجهة نظرهم لإحداث تقدم في هذه النقاشات.
لا نستطيع التنبؤ بثقة فيما إذا كان العام المقبل سيحمل معه مستوى أعلى أو أقل من العولمة. ولكننا يسعنا القول بثقة أن التدفقات العالمية والقيود التي تفرضها الحدود والمسافات عليها سيظلان على قدر من الأهمية. لذا فعلى الأرجح أن الفائزين الكبار بغض النظر عن صعود أو هبوط العولمة هي الشركات التي تتقبل تعقيدات العولمة بدلاً من اتباع الرؤى المحلية أو العالمية البحتة لبيئات عملها.