العواطف التي تجعلنا أكثر إبداعاً

5 دقيقة

على مر التاريخ، كان الفنانون والعلماء يتغنّون بالسعادة الغامرة التي ترافق وحي الإبداع المفاجئ الذي كان يحلّ عليهم. فآينشتاين وصف إدراكه للنظرية النسبية العامة بأنه أسعد لحظات حياته. لا بل أن الكاتبة الأميركية فيرجينيا ولف وصفت الأمر بطريقة أكثر شاعرية قائلة: "غريب كيف أن القوة الإبداعية تضفي على الكون بأكمله حالة من الانتظام دفعة واحدة".

ولكن ماذا عن الفترة التي "تسبق" لحظات الإلهام الإبداعي هذه؟ ما هي العواطف التي تؤجج الحالة الإبداعية؟

ثمة نظرة متداولة في علم النفس منذ أمد بعيد مفادها أن العواطف الإيجابية تعتبر محفزاً للإبداع لأنها توسع الذهن، في حين تعتبر العواطف السلبية مضرة بالإبداع لأنها تضيق نطاق التركيز لدى الإنسان. لكن هذه النظرة مفرطة في التبسيط لعدد من الأسباب.

صحيح أن الانتباه المركز يترك تأثيرات مهمة على التفكير الإبداعي: الانتباه الواسع النطاق يترافق بأفكار حرة وهائمة ومتصادمة، في حين أن الانتباه الضيق النطاق يساعد في عملية تحقيق الأهداف بشكل خطّي ومتدرج خطوة بخطوة. لكن أبحاثاً جديدة تشير إلى أن التمييز بين العواطف الإيجابية والانفعالات السلبية قد لا يكون هو الفرق الأهم لفهم الانتباه المركز. فخلال السنوات السبع الماضية، أجرى عالم النفس إدي هارمون جونز وزملاؤه أبحاثاً دلت على أن العنصر الأهم الذي يؤثر على نطاق الانتباه لدى الإنسان ليس شدة العواطف الموجودة لديه (سواء العواطف السلبية أو الإيجابية)، وإنما "شدة الدافعية"، أي مدى قوة الدافعية الموجودة لديه والتي تشده بقوة إلى الاقتراب من شيء ما أو تجنبه. على سبيل المثال، "السرور" هو عاطفة إيجابية، لكن شدة الدافعية الموجودة في السرور ضعيفة. وفي المقابل، "الرغبة" هي عاطفة إيجابية ذات شدة دافعية مرتفعة.

لقد عرض الباحثون على المشاركين في البحث مقاطع فيديو مضحكة تصور قططاً (تؤدي إلى تحفيز عواطف ذات شدة دافعية منخفضة)، ومقاطع أخرى تظهر حلويات ذات منظر يثير الشهية (تؤدي إلى تحفيز عواطف ذات شدة دافعية مرتفعة). ورغم أن هذين النوعين من المقاطع قد استثارا عواطف إيجابية لدى المشاركين في التجربة، فقد وسّعت المقاطع التي تصور القطط، والتي كانت ممتعة فقط، نطاق الانتباه لدى المشاركين (وجرى قياس ذلك من خلال إجراء المشاركين في التجربة لعدد أكبر من المطابقات الشاملة مع محفز مستهدف)، في حين أن المقاطع التي تصور الحلويات والتي كانت تنطوي على شدة دافعية أعلى "ضيّقت" نطاق الانتباه لدى المشاركين (جرى قياس ذلك من خلال إجراء المشاركين في التجربة لعدد أكبر من المطابقات الأكثر تركيزاً على التفاصيل مع محفز مستهدف). وكان الأمر مشابهاً عند استعراض مقاطع فيديو تستثير عواطف سلبية: فالحزن (حالة من شدة الدافعية المنخفضة) وسّع نطاق الانتباه المركّز، في حين أن القرف (حالة من شدة الدافعية المنخفضة) ضيّق نطاق التركيز.

وقد خلص الباحثون إلى أن شدة الدافعية كانت عنصراً أكثر أهمية في التأثير على نطاق التركيز من مجرد الإحساس بعواطف إيجابية أو سلبية. والسبب المفترض لذلك هو أن حالات الدافعية المنخفضة تسهل البحث عن أهداف جديدة للسعي وراء تحقيقها، في حين أن حالات الدافعية المرتفعة تجعلنا نركّز على إنجاز هدف محدد. لذلك في المرة القادمة التي تريد أن تحافظ فيها على ذهن منفتح وأن ترى الصورة الأوسع، فالأفضل لك أن تكون في مزاج من السرور (أو حتى الحزن). لأنك إذا كنت تشعر بشغف زائد أو مفرط تجاه النشاط الذي بين يديك، فإنك قد تخطئ في التمييز وتعتقد أن مجموعة من الأشجار هي الغابة. ولكن إذا كنت بحاجة إلى استجماع قواك والتركيز فعلاً على تحويل فكرة جديدة إلى شيء عملي، فإن شدة الدافعية المرتفعة قد تكون هي السبيل المنشود.

في نهاية المطاف، تعتبر القدرة على توسيع نطاق الانتباه والقدرة على تضييق نطاق الانتباه "كلتاهما" عاملان أساسيان يسهمان في حصول الإبداع. فقد أظهرت دراسة حديثة في مجال علوم الأعصاب بقيادة روجر بيتي (وكم كنت أتمنى لو سنحت لي فرصة التعاون معه فيها) بأن الناس المبدعين يمتلكون روابط أكبر بين منطقتين من الدماغ تعتبران عادة متنافرتان ألا وهما: شبكة المناطق الدماغية المرتبطة بالتركيز والتحكم بالانتباه، وشبكة المناطق الدماغية المرتبطة بالخيال والعفوية. في واقع الأمر، تشتمل العملية الإبداعية برمتها – وليس فقط لحظات التبصر العميق – على حالات من الشعور بالسعادة العارمة والإلهام إضافة إلى حالات من الهدوء والتركيز العقلاني. والناس المبدعون لا يتصفون بأي حالة من هذه الحالات لوحدها فقط، وإنما يتصفون بقدرتهم على التكيف والجمع بين هذه الحالات التي تبدو غير قابلة للانسجام فيما بينها، وذلك بحسب المهمة التي يحاولون إنجازها، سواء الجمع بين الانتباه المفتوح والتركيز الدقيق، أو بين الانتباه الشديد وحلم اليقظة، أو بين الحدس والعقلانية، أو بين التمرد الشديد واحترام التقاليد، وغيرها. بعبارة أخرى، الأشخاص المبدعون يتمتعون بعقول فوضوية.

كما أثبتت أبحاث أخرى بأن الناس الذين أفادوا بانتظام عن الشعور بعواطف متطرفة أو شديدة سجلوا علامات أعلى في مقاييس القدرات الإبداعية بالمقارنة مع الأشخاص الذين أفادوا عن شعورهم ببساطة بعواطف إيجابية أو سلبية. إذاً، عيش الحياة بشغف وشدة، بما في ذلك التجربة الإنسانية بكامل عمقها، هو شيء يحفز على الإبداع. وقد اكتشفت أنا شخصياً ومن خلال الأبحاث التي أجريتها بأن "التفاعل العاطفي" – أي مدى انفتاح الناس على عواطفهم بكل عمقها واتساعها – كان مؤشراً أفضل للدلالة على الإبداع الفني من حاصل الذكاء (IQ) أو التفاعل الفكري.

كما أننا نادراً ما نكون في حالة من السعادة الخالصة أو الحزن البحت، حيث نميل إلى الشعور بـ "عواطف مختلطة". وقد قامت الباحثة العلمية كريستينا فونغ من جامعة "كارنيغي ميلون" باستقصاء آثار "التناقض العاطفي" على الإبداع، حيث يعني"التناقض العاطفي" شعور المرء بعواطف إيجابية وسلبية في الوقت ذاته. تشير أبحاث فونغ إلى أن الشعور المتزامن بعدة عواطف لا يشعر بها المرء عادة معاً (مثل الإثارة والإحباط) يدل على أن "ذلك الشخص يعيش في بيئة غير معتادة قد توجد فيها أيضاً علاقات أخرى غير معتادة". وتعتبر هذه الحساسية الأعلى تجاه التداعيات الذهنية غير المعتادة عاملاً آخر مهماً يسهم في الإبداع.

كما تشير أبحاث أجريت سابقاً إلى بعض الأوضاع التي تميل عادة إلى أن تزيد من حجم التناقض العاطفي: فالنساء اللواتي يشغلن مناصب رفيعة يعبّرن عن تناقض عاطفي أكبر من النساء اللواتي يشغلن مناصب أدنى مرتبة، وكذلك هو حال الأشخاص الذين يمرّون بمرحلة التوظيف أو التعارف الاجتماعي الأولي في المؤسسات بعد تعيينهم، حيث يفيدون عن مستويات أعلى من التناقض العاطفي. وتشير فونغ إلى أن المدراء "قد يستفيدون أكثر إذا ما عمدوا إلى تأجيل إنجاز المهام التي تستدعي تفكيراً إبداعياً إلى تلك الأوقات أو إذا ما أوكلوا المهام التي تتطلب الإبداع إلى الأعضاء الجدد في المؤسسة (الذين لا يزالون في طور التعارف الاجتماعي)". بعبارة أخرى، ربما تكون هذه اللحظات التي تتسم بالتناقض العاطفي المرتفع هي الوقت المناسب الذي تكون فيه عواطف الموظفين جاهزة لتساعدهم على الإبداع.

كما تشير أبحاث فونغ إلى أن التناقض العاطفي والطابع غير المعتاد للبيئة المحيطة بالمرء قد يسيرا جنباً إلى جنب – وإلى أن الموظفين الذين يعتقدون بأنهم في بيئة غير معتادة يمكن أن يظهروا قدراً أكبر من التفكير الإبداعي. وتدرك الشركات التي تعتمد على الابتكار اعتماداً كبيراً مثل "ديزني" و"إيديو" (IDEO) هذه الحقيقة جيداً، بما أن موظفيهما يستفيدون من هذا النوع من بيئات العمل غير المعتادة. فمقر شركة "إيديو" في بالو آلتو في كاليفورنيا يضم طائرات ودراجات هوائية متدلية من السقف، وستائر من قطع الخرز البلاستيكية المستعملة كأبواب، وأنوار شجرة عيد الميلاد المضاءة على مدار العام. وأينما ذهبت تجد الدمى والألعاب والنماذج من المشاريع التي أنجزتها في الماضي. وفي حقيقة الأمر، ثمة دراسات نفسية عديدة تشير إلى أن أحد العوامل الأساسية المحفزة على الإبداع هي اختبار أحداث غير معتادة وغير متوقعة. فالأحداث غير المتوقعة قادرة بالتأكيد على خلط العواطف، والعواطف المختلطة، كما تبين فونغ، يمكن أن تزيد من الحساسية تجاه الداعيات الذهنية والأفكار غير المعتادة.

وإذا ما أضفنا نتائج كل هذه الأبحاث الحديثة حول دور العواطف في الإبداع معاً وأخذنا بها، فإنها تشير إلى أنه عوضاً عن أن يركز المدراء الذين يحاولون تحفيز الإبداع حصرياً على إبراز العواطف الإيجابية لدى الموظفين – أو على محاولة طرد العواطف السلبية – فإن على هؤلاء المدراء ربما أن يأخذوا بعين الاعتبار عوامل إضافية، كأن ينظروا مثلاً إلى البيئة ليروا ما إذا كانت تؤدي إلى إبراز التناقض العاطفي (هل البيئة غير معتادة؟ هل ستؤدي البيئة إلى إظهار مجموعة من العواطف التي قد تبدو متناقضة لتستفيد منها؟) وشدة الدافعية (هل ستوسع تركيز الشخص أم تضيّقه؟). فقد حان الوقت لتجاوز المفاهيم التبسيطية القائمة على اللونين الأبيض والأسود بخصوص دور العواطف في الابتكار. وإنما يجب عوضاً عن ذلك تبنّي الطابع الفوضوي الذي يعتبر جزءاً متأصلاً من العملية الإبداعية.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي