يتردد أغلب قادة الأعمال في اتخاذ موقف حازم ضد الفساد، حتى في البيئات التي ينتشر فيها. ويرى بعضهم فوائد في الانغماس في ممارسات الفساد كتسريع الحصول على الرخص أو للحد من تدخل المسؤولين الحكوميين. وفي الوقت نفسه تظل الكلفات المتصورة للفساد منخفضة نظراً للصياغة السيئة للقوانين الموجهة لمكافحة الفساد وللتطبيق غير الفعال لها، ما يؤدي لاحتمالات ضعيفة للمتابعة القضائية أو العقاب. ونتيجة لهذا، فإنهم بقدر ما يكرهون الفساد، فإن أغلب قادة الأعمال يستسلمون له في نهاية المطاف. في الواقع إن بعضهم يرون أنفسهم ضحايا للفساد المستشري بدلاً عن مرتكبيه، ولسان حالهم يقول: "الكل يفعل هذا" و"علينا أيضاً فعل ذلك". فكيف يمكن تعزيز النزاهة في العمل لدى الشركات؟
اقرأ أيضاً: السخرية، وانتقاد الذات، ونكاتنا الخاصة: دليل إرشادي لاستخدام الفكاهة في بيئة العمل
لا ينبغي أن يكون الأمر كذلك، وفي الواقع لا يجب أن يكون كذلك. يبرز بحثنا في مصر وزيمبابوي والهند أن المؤسسات يجب أن تنظر إلى احتمال النزاهة في العمل وبناء سمعة أخلاقية قوية في مثل هذه البيئات كفرصة، وتعتبر كلفات مقاومة الفساد بمثابة استثمار في بناء مثل هذه السمعة. وعلاوة على ذلك، يسلط بحثنا الضوء على خطوات محددة يمكن للشركات اتخاذها للحفاظ على معايير أخلاقية عالية في بيئات يبدو الفساد فيها منتشراً. كما أننا نجد أن هذه الخطوات تحقق فعالية أكبر في بلدان تتمتع بصحافة حرة وتعددية، وقضاء مستقل، وجمعيات قادرة على إدارة العمل الجماعي (مثل جمعيات الدفاع عن حقوق المستهلكين، والمؤسسات الدينية، ومنظمات المجتمع المدني، واتحاد الغرف التجارية). عندما تتوفر هذه الشروط يصبح من السهل على مؤسسة ما اتخاذ موقف حازم ضد الفساد، وخاصة ضد الفساد السياسي.
النزاهة في العمل تصنع الفارق
يعتبر السلوك النزيه (أو الأخلاقي) نادراً في بيئات الأعمال الفاسدة، كما هو الحال في زيمبابوي، ومصر والهند، بالمقارنة مع البلدان التي تعرف مستويات نزاهة عالية. من ثم فإن أصحاب المصالح، كالزبائن أو المستثمرين، يعطون قيمة كبيرة للسلوك النزيه في البيئات الفاسدة. وإضافة إلى ذلك، فإن السلوك النزيه يلفت النظر في البيئات الفاسدة أكثر من البيئات التي تسودها قيم النزاهة، ومن السهل على الشركة النزيهة أن تبرز في بيئة فاسدة.
وأخيراً، فإن المؤسسات تقلل عادة من قيمة الدعم الكامن للسلوك النزيه في البيئات الفاسدة. ويجب أن تدرك هذه المؤسسات أن صمت أصحاب المصالح عن الفساد المتفشي لا يعني أنهم راضون عن الوضع القائم. إن الهيئة التي تظهر قيادة نزيهة يمكنها أن تدفع أصحاب المصالح الحساسين أخلاقياً لدعمها في سعيها نحو مواجهة الفساد، ما يؤدي إلى تحقيق فوائد على مستوى سمعة هذه الهيئة.
كيف يجب أن تقاوم المؤسسات الفساد؟ وكيف يمكن نشر النزاهة في العمل؟
أولاً، تحتاج المؤسسات إلى وضع إطار لسلوكها النزيه بطريقة تترك صدى لدى أكبر شبكة ممكنة من أصحاب المصالح
وكمثال على ذلك، فقد أكدت شركة "إندياز أنفوسيس" (India’s Infosys) المتخصصة في الاستشارات وتكنولوجيا المعلومات والاتصال مراراً على ما تسميه "قيم الطبقة الوسطى" الخاصة بها لوضع نفسها كمؤسسة نزيهة، ما ترك صدى لدى اليد العاملة من خريجي الجامعات الشباب الذين كانت تحاول استقطابهم. ووجد إبراهيم أبو العيش مؤسس مشروع "سيكم" (Sekem) للزراعة الحيوية في مصر أن السعي إلى أهداف كبرى كبناء الوطن أو ترك البلد في حالة أفضل للأجيال القادمة كانت مبررات فعالة لالتزامه بمبادئ النزاهة.
ملاحظة بحثية
تتأسس دراستنا على 120 مقابلة شبه منظمة مع أشخاص تابعين لخمس مؤسسات في الهند، زيمبابوي ومصر شملت مؤسسيها، وموظفيها، والموظفين السابقين، وأصحاب مصالح آخرين من خارجها. كما حصلنا على كميات هائلة من البيانات المجمعة عن هذه المؤسسات والظروف التي تعمل فيها.
اقرأ أيضاً: كيف تبني علاقات اجتماعية مع موظفيك في بيئة العمل؟
وطورنا دراسات حالة بحثية عن شركتين، ودراسات حالة تعليمية عن أربع شركات. كما نشرنا مقالات بحثية حول دراسات عن المؤسسات (بناءً على موضوع من شركة واحدة) ومجلة عن دراسات الإدارة (بناء على موضوع شركة واحدة). ونشرنا حالة مدرسية حول شركة واحدة في المجلة الدولية لدراسات ريادة الأعمال (المسماة حالياً المجلة الدولية لريادة الأعمال).
ثانياً، يحتاج روّاد الأعمال والمدراء أن يفهموا أن الفساد درجات
وغالباً ما يفترض قادة الأعمال في الشركات الخاصة افتراضاً خاطئاً مفاده أن كل المسؤولين الحكوميين في البيئات الفاسدة هم فاسدون بشكل ميؤوس منه. وفي أوقات أخرى يكون المبادرون إلى المعاملات الفاسدة من هذه الشركات الخاصة ذاتها، فتلجأ إلى الرشوة لتحفيز المسؤولين الحكوميين على تسريع الموافقة على الطلبات أو على التغاضي عن مخالفة القواعد القانونية.
ينبغي على قادة الأعمال بدلاً عن ذلك إدراك أن الفساد مسلسل لا ينتهي. على سبيل المثال صرح لنا رئيس قسم العلاقات الحكومية في شركة "ألاكريتي هاوسينغ" (Alacrity Housing) الهندية أن ما بين 40 و50% من المسؤولين الحكوميين، الذين تعامل معهم خلال أربعين سنة من مشواره المهني، أخبروه بشكل مباشر أو غير مباشر أنهم كانوا يتوقعون الحصول على رشوة. وعلى الرغم من أن هذه النسبة قد تبدو كبيرة، فإنه يظهر لنا أن ما بين 50 و60% من المسؤولين الحكوميين لم يكونوا يتوقعون الرشاوى، حتى في قطاع البناء الذي يشتهر بنسبة عالية من الفساد بسبب تعدد المصالح الحكومية التي يلزم اللجوء إليها للحصول على الرخص والموافقات، وفي بلد ينتشر فيه الفساد على نطاق واسع. في كل بلد سيكون هناك مسؤولون حكوميون يقومون بواجبهم دون أن يطلبوا رشاوى أو يقبلوها إذا عرضت عليهم، وآخرون لن يطلبوا الرشوة لكنهم لن يرفضوها، وفئة ثالثة تطلب الرشاوى لكنها لا تلح على ذلك، وفئة رابعة لا تتزحزح حتى يُلبى طلبها. وعلى قادة الأعمال ألا يفترضوا أن كل مسؤول حكومي يلتقونه ينتمي إلى الفئة الرابعة.
ثالثاً، تحتاج الهيئات إلى بناء فهم دقيق لأصحاب المصالح المرتبطين بها
وينقسم هؤلاء إلى أربع فئات على أساس رد فعلهم المحتمل على سلوك نزيه لهيئة ما. هذه الفئات الأربع تتقاطع مع مجموعات أصحاب المصالح التقليدية من الزبائن والموردين والموظفين والمستثمرين والمفتشين والمقيمين الذين يميل قادة الأعمال إلى تصنيفهم حسب عملياتهم التجارية. وبدلاً عن ذلك فإننا نعتقد أن الشركات النزيهة ينبغي أن تصنف أصحاب المصالح بهذه الطريقة:
- أصحاب المصالح اللامبالون، الذين يهتمون فقط بما إن كانت المؤسسة ستلبي توقعاتهم كموردين أو زبائن أو موظفين أو مستثمرين، ولا يكترثون للوسائل التي تستخدمها المؤسسة لتحقيق ذلك.
- أصحاب المصالح الواقعيون، الذين في ظل غياب السلوك النزيه لن يشاركوا في المنافسة في السوق بسبب مستوى الريبة العالي الناتج عن الفساد.
- أصحاب المصلحة الغائبون، الذين لن يشاركوا في سوق المنافسة بسبب عدم اليقين الشديد الناجم عن الفساد في ظل عدم توفر سلوك أخلاقي نزيه.
- أصحاب المصالح النزهاء الذين سيدعمون مؤسسة نزيهة ولو أدوا ثمن ذلك.
تحتاج المؤسسات إلى إعطاء الأولوية لأصحاب المصالح الواقعيين والغائبين والنزهاء. أما بالنسبة لأصحاب المصالح اللامبالين، فينبغي أن تقبل المؤسسة أن بعضاً منهم يمكن أن يعيب على الشركة عدم حرصها على الوسائل التي يستعملونها لتحقيق أهدافهم. إن المؤسسات النزيهة التي تعمل في بيئات فاسدة تثير ريبة أكثر لهذا النوع من أصحاب المصالح، الذين يشغلهم هم واحد هو إن كانت المؤسسة ستوفي التزاماتها تجاههم. لكن بحثنا يقترح تصورا آخر، وهو أنه عندما تُظهر شركة ما قيادتها النزيهة فإن عدداً من أصحاب المصالح الذين كانوا على ما يبدو لامبالين، يمكنهم التحول إلى أصحاب مصالح واقعيين ونزهاء. ويعود آخرون من الذين ظلوا بعيدين عن سوق المنافسة (الغائبون) إلى الظهور.
اقرأ أيضاً: جهز المناخ المناسب لحث أعضاء فريقك على الإبداع
رابعاً، تحتاج المؤسسات النزيهة إلى عقد شراكات استراتيجية مع شخصيات ومؤسسات مرموقة، حتى تنتشر سمعة النزاهة التي تتمتع بها بأوسع نطاق ممكن
هذا التكتيك الذي يعرف بـ "استعارة السمعة" استعمل من طرف شركات ناشئة لبناء شهرتها بين مجموعة واسعة من أصحاب المصالح في مرحلة مبكرة من دورة نشاطها عندما كانت لها سمعة محدودة. وفي الحالات القصوى فإن الهيئات التي تبحث عن النزاهة في العمل ستحتاج إلى اللجوء لمقاربة قضائية لمواصلة كفاحها ضد الفساد والعمل سوياً مع مجموعات أخرى تتقاسم الفكرة نفسها لدعم قضيتها.