ليس من المفترض أن يكون العمل المهم امتيازاً للنخبة فقط

3 دقائق

من الصعب أن تجد شخصاً يعارض فكرة أن يعم الخير والازدهار على جميع الناس. فمن المسلم به أن ثمار النمو الاقتصادي يجب أن توزع على نطاق واسع. غير أن الشيطان يكمن في التفاصيل، وعندما يدافع الناس عن النمو الشامل ويدعون إليه فإنهم لا يعنون دائماً الشيء نفسه.

فالبعض على سبيل المثال يستلهمون رأيهم من توماس بيكيتي، الذي يبدو أنه قد وضع بمفرده برنامج عمل جديداً للأبحاث الاقتصادية. وتركز هذه المجموعة اهتمامها على تخفيض حدة التفاوت في توزيع الدخل والثروة فيما بين الأفراد.

والبعض الآخر، كالباحثين في معهد ليجاتوم، ينظرون إلى الازدهار ليس من المنظار المالي فقط بل من منظار الرفاه العام والشامل ويركزون اهتمامهم على قياس وتنمية جميع مركبات ذلك الرفاه في مجتمعات العالم المختلفة.

وهنالك مجموعة ثالثة تنتهج نهجاً أقرب إلى الإدارة، وعلى هذا النهج سنركز اهتمامنا هنا. وعندما ناقش إريك باينهوكر ونيك هاناور هذا النهج وصفاه على النحو التالي: "إن الرخاء في مجتمع ما هو مجموع الحلول المتراكمة للمشاكل الإنسانية". ومن خلال التركيز على الحلول بوصفها المحرك للنمو، أراد باينهوكر وهاناور اختيار النظام الرأسمالي بوصفه قوة تدفع نحو الرخاء والازدهار (وهو النظام الذي يولد أكبر دفق ثابت من المتفوقين). غير أن أسلوبهما في فهم الرخاء يوفر أيضاً توجهات ممكنة للمدراء الذين يرغبون في العمل بجهد أكبر لجعل العالم أفضل: مهمتك هي أن تتخيل وتطور تطلق المزيد من الحلول لتحسين الحياة، وبخاصة ذلك النوع من البضائع والخدمات التي تحسن حياة الناس العاديين البسطاء. فأصحاب الشركات يتحملون طيفاً متنوعاً من المسؤوليات، غير أن المسؤولية الأساسية – والتي تشكل السبب الرئيسي الذي من أجله تمنح الشركات رخصة العمل – هي الابتكار.

ونحن نود أن نضيف فكرة جديدة إلى منهج باينهوكر وهاناور. فإذا كنا ننظر إلى الرفاه من منظور واسع، يتعين علينا أن ندرك أن ما يحسن سوية الحياة لا يقتصر على توفر الحلول بحد ذاتها، بل يتعداها إلى المشاركة والإسهام في صنع تلك الحلول. إن الاشتراك في أعمال الابتكار المجدية والتي تُشعر صاحبها بالرضا، يغني الحياة من خلال إعطائها معنى وهدفاً سامياً وشرفاً والفرح الذي يأتي من تحقيق المساعي والتقدم في مواجهة التحديات. وبما أن إيجاد الحلول الخلاقة للمشاكل يعد من الأمور الجوهرية التي تسعى إليها الطبيعة الإنسانية، فإن المشاركة في ذلك النشاط الخلاق تشكل جانباً أساسياً من جوانب الحياة الجيدة – وليس من حق النخبة الأقلية الاستئثار بتلك المشاركة.

وهذا يثير التساؤل التالي: كيف باستطاعتنا تمكين المزيد من الناس لكي يشاركوا في حل المشاكل ويشعروا بقيمة عملهم؟ فكل شخص يمتلك إمكانات التفكير الخلاق والعمل الإبداعي، ومن صفات المدراء العظام أنهم يعرفون كيف يستفيدون من الموارد الوفيرة التي يختزنها فريقهم ويدركون أن تجميع الطاقات الخلاقة من شأنه أن يسرع التقدم المحرز. فالتعاون والعمل الجماعي يسهّل إنجاز المهام ويجعلها ميسرة.

ولكن كي يحدث ذلك على نطاق واسع، يجب على المزيد من الشركات والمؤسسات أن تدرك أن مهمتها الإبداعية لا تقتصر على تصميم المنتجات والخدمات الجديدة، بل تتعدى ذلك إلى تصميم أساليب مبدعة لإنجاز الأعمال. ولعل العصر الرقمي يقدم لنا فرصة عظيمة للقيام بذلك – إلا أنه يخلق أيضاً تحدياته وأخطاره الخاصة. فكيفية استمرار الشركات في الاستفادة من تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، هو ما سيحدد ما إذا كان الرخاء المحقق سيعم على الجميع أم سيبقى محصوراً بنخبة صغيرة. فالآلات المؤتمتة ذات الإمكانات المتزايدة قادرة في أحسن الأحوال على تمكين الناس من التعاون والعمل معاً بشكل أكثر فاعلية، وعلى جعل عملية التعلم قابلة للتوسيع والتعميم. وتسمح منصات العمل الجماعي للناس بمشاركة وتجميع قياساتهم وملاحظاتهم حول الظواهر ذات الأثر الجماعي والواسع (مثل جودة المياه)، في حين توسع الاكتشافات الحديثة في مجال تعلم الآلة والذكاء الاصطناعي والقدرات الحاسوبية طاقات العقل البشري تماماً كما عملت التكنولوجيات السابقة على مضاعفة القوة البشرية.

ولكن الآلات المؤتمتة والذكية، في أسوأ الحالات، قد تهمش الإسهامات البشرية وتؤتمت العمل الفكري والمعرفي وتحول المجتمع إلى" قطعان من المواطنين عديمي القيمة الاقتصادية" وفق التعبير الإنشائي الجلي للباحثين بيل دافيدو ومايكل مالون. ولعل هذه الحالة ترتب على السياسيين والمربين والمدراء التنفيذيين وغيرهم مسؤوليات جمة لإدارة عملية التحول وما قد يصاحبها من مصاعب ومشاكل.

ولذلك نجد أنفسنا على مفترق طرق مهم وحاسم. فالتكنولوجيات التي يطورها جنسنا البشري إما أن توفر لنا المفتاح القادر على تحرير طاقاتنا البشرية الكامنة، وإما أن تحكم الحجز على تلك الطاقات أكثر من أي وقت مضى. بل إنّ تلك التكنولوجيات قد تحدث تحولاً في رؤيتنا لما نسميه الإمكانات البشرية، وذلك إذا ما نظرنا إلى التركيبات الجديدة من المقدرات التكنولوجية والمقدرات البشرية التي يجري ابتكارها واستنباطها. (ولا حاجة لانتظار ما تعمل عليه شركة "نيورالينك" (Neuralink) لصاحبها إيلون ماسك من واجهات حاسوبية عصبية يمكن زرعها في جسم الإنسان؛ فكما يقول آراتي براباكار من شركة "داربا" للأبحاث العسكرية: إن الدمج بين البشر والآلات بات أمراً يحدث الآن).

ويطيب لكلايتون كريستنسن أن تذكّر مبدعي المنتجات والخدمات الجديدة بضرورة الانتباه إلى "الهدف الأساسي" لتلك المنتجات والخدمات – ألا وهو ما يشتريها الزبائن من أجل أن تحققه لهم. وبهذا السياق نطرح السؤال التالي: ما هو الهدف الأساسي للإدارة بحد ذاتها؟ وما هو الإنجاز الذي يتوقعه المجتمع من الكفاءات الإدارية المميزة؟ وفي الواقع فإن ما هو مطلوب بات وعلى نحو متزايد يتجاوز مجرد إنتاج البضائع والخدمات الأفضل بكفاءة أعلى، ليشمل تنظيم عمل الأفراد لكي يتعاونوا ويتعاضدوا ويبدعوا معاً بأساليب جديدة وغير مسبوقة. ولعل قادة الأعمال القادرين على تحقيق ما يطلبه المجتمع منهم، هم أولئك الذين ينجحون في استثمار أكبر قدر ممكن من قدرات وإمكانات مواردهم البشرية وجعل الرفاه يعم الجميع.

هذه المقالة واحدة من سلسلة مقالات جرى إعدادها تحضيراً لعقد "منتدى دراكر العالمي 2017" في فيينا، النمسا – والذي يتمحور حول موضوع النمو والرفاه الشامل.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي