تعرّفوا على العادات اليومية للعباقرة

6 دقائق
العادات اليومية للعباقرة
shutterstock.com/delcarmat

إليكم هذه القصة التي تتحدث عن موضوع العادات اليومية للعباقرة العظماء. قضى خوان بونثي دي ليون حياته بحثاً عن ينبوع الشباب، بينما قضيت حياتي بحثاً عن الروتين اليومي المثالي. ولكن مع حلول تطبيقات تنظيم البرامج والمواعيد السحابية محل سنوات من المفكرات الورقية المقسمة إلى مقاطع مختلفة  الألوان، ما زالت حياتي بعيدة عن الروتين اليومي المتكرر. فكل يوم بالنسبة لي هو يوم جديد لا يمكن التنبؤ بما يحمله في مكنونه كما أنه يمضي بسرعة، تماماً مثل ركوب رعاة البقر ثوراً حروناً. لذلك، أدهشني كتاب ماسون كيري الجديد بعنوان "الطقوس اليومية: كيف يعمل الفنانون" (Daily Rituals: How Artists Work). في هذا الكتاب، يراجع كيري الجدول اليومي لحياة 161 رساماً وكاتباً ومؤلفاً موسيقياً، إضافة إلى فلاسفة وعلماء وغيرهم من المفكرين الاستثنائيين.

العادات اليومية للعباقرة

بعد أن قرأت الكتاب، أصبحت مقتنعة بأنّ الروتين بالنسبة لهؤلاء العباقرة كان أكثر من ترف. لقد كان أساسياً بالنسبة لعملهم. ومثلما يقول كيري: "الروتين الثابت يحفر أخدوداً مطروقاً لطاقات الفرد العقلية ويساعد في درء طغيان أهواء المزاج". وعلى الرغم من أنّ الكتاب بحد ذاته هو مجموعة من القصص المسلية، ولا يُعتبر دليلاً مرشداً إلى كيفية تنظيم الوقت، إلا أنني بدأت ألحظ عدداً من العناصر المشتركة في حياة العباقرة الذين يعيشون حياة مفعمة بالصحة (أولئك الذين كانوا أكثر اعتماداً على الانضباط بدلاً من تناول المشروبات والعقاقير)، والذي سمح لهم باتباع ترف الروتين الذي يعزّز الإنتاجية.

اقرأ أيضاً: الطريقة المثلى لاكتساب عادات جديدة

مكان العمل الذي يحوي الحد الأدنى من الأشياء التي تشوش الانتباه

إذ طلبت الكاتبة جين أوستن بألا يُزيّت مفصل الباب أبداً، بحيث يكون هناك دائماً ما يُنذرها إلى أنّ شخصاً ما يقترب من الغرفة التي كانت تكتب فيها. بينما أزال الأديب ويليام فوكنر، والذي لم يكن لديه قفل على باب مكتبه، مقبض الباب وأدخله معه إلى الغرفة، وهو ما يحلم به من يعمل ضمن المكاتب المفتوحة. لم يكن أفراد عائلة مارك توين يجرؤون على دخول باب مكتبه. فإذا احتاجوا إليه، نفخوا في بوق ليخرج إليهم. وذهب غراهام غرين إلى أبعد من ذلك، إذ استأجر مكتباً سرياً عرفت زوجته فقط عنوانه ورقم هاتفه. أما نويل كنفرز وايث (إن سي وايث)، فكان المنظر الذي يراه من نافذته يصرف انتباهه أكثر من مقاطعة الآخرين له، وإذا واجه مشكلة في التركيز، كان يضع قطعة من الورق المقوى على زجاج نظارتيه كنوع من الغمامة.

المشي اليومي هو أحد العادات اليومية للعباقرة

بالنسبة للعديد من الأشخاص، كان المشي اليومي أمراً أساسياً لعمل أدمغتهم. فالفيلسوف الدنماركي سورين كيركغارد كان يجد في التنزه مصدر وحي وإلهام له إلى درجة أنه كان غالباً ما يعود مندفعاً إلى منضدته ليستأنف الكتابة، وهو لا يزال يعتمر قبعته ويحمل عصاه أو مظلته. أما تشارلز ديكنز، فقد اشتهر بمسيره اليومي المسائي على الأقدام لمدة ثلاث إلى أربع ساعات، وكانت ملاحظاته خلال هذا المسير تشكل المادة الأساسية لكتاباته. من جهة أخرى، كان تشايكوفسكي يكتفي بالمشي لمدة ساعتين، لكنه لم يكن ليعود مبكراً، مقتنعاً بأنه إذا ما غش نفسه ولم يقض 120 دقيقة كاملة، فإنه سيُصاب بالمرض. كان بيتهوفن يتنزه لمسافة طويلة بعد الغداء حاملاً معه قلم رصاص وورقة في حال جاءه الإلهام خلال نزهته. وقد فعل إريك ساتي الشيء نفسه في نزهاته الطويلة من باريس إلى ضاحية الطبقة العاملة حيث عاش، وكان يتوقف تحت مصابيح الشوارع لتدوين الأفكار التي تخطر في باله خلال رحلته؛ ويشاع أنه عندما أُطفئت هذه المصابيح خلال سنوات الحرب، تراجع إنتاجه كذلك.

مقاييس المحاسبة والمساءلة

لم يكن أنطوني ترولوب يكتب لأكثر من ثلاث ساعات يومياً، لكنه كان يصر على كتابة 250 كلمة كل 15 دقيقة، وحين كان ينتهي من كتابة الرواية التي كان يعمل عليها قبل نهاية الساعات الثلاث، كان يبدأ مباشرة بكتاب جديد حالما يكون انتهى من الكتاب السابق. كان إرنست همنغواي مثله يسجل عدد الكلمات التي يكتبها كل يوم على رسم بياني "حتى لا أغش نفسي"، حسب قوله. أما فوريس فريدريك إسكنر (ب. ف. إسكنر) فكان يستخدم منبهاً لتحديد مواعيد بدء وانتهاء جلسات الكتابة و"سجل بعناية عدد الساعات التي أمضاها في الكتابة وعدد الكلمات التي أنتجها على رسم بياني".

رسم حد فاصل واضح بين العمل الهام والمشاغل

قبل أن يكون هناك بريد إلكتروني، كانت الناس تستعمل الرسائل. ولقد ذهلت عندما علمت حجم الوقت الذي كان كل شخص يخصصه ببساطة للرد على الرسائل. فقد كان العديد منهم يقسمون نهارهم ما بين العمل الحقيقي (مثل التأليف الموسيقي أو الرسم في الصباح) والمشاغل (الرد على الرسائل بعد الظهر). في حين أنّ آخرين كانوا يلجؤون إلى المشاغل عندما يكون العمل الحقيقي لا يسير على ما يرام. ولكن لو كان حجم المراسلات مماثلاً لما هو عليه اليوم، فلا شك أن هؤلاء العباقرة التاريخيين حظوا بميزة واحدة: كان البريد يصل في مواعيد منتظمة، ولا يتدفق على مدى 24 ساعة كما هو حال البريد الإلكتروني اليوم.

عادة التوقف عندما يكون المرء منطلقاً، وليس عندما يكون غير قادر على الاستمرار

شرح همنغواي الأمر على هذا النحو: "تكتب حتى تصل إلى مكان، حيث لا يزال لديك المزيد من الأفكار لتضعها على الورق وتعرف ماذا سيحدث بعد ذلك وتتوقف وتحاول أن تعيش حتى اليوم التالي عندما تبدأ من جديد". وقال آرثر ميلر: "أنا لا أؤمن باستنزاف المخزون. بل أؤمن بالنهوض عن الكتابة والابتعاد عنها، وأنا لا أزال لدي أشياء أقولها". باستثناء فولفغانغ أماديوس موتسارت الذي كان ينهض في السادسة صباحاً ويمضي يومه بين الدروس الموسيقية والحفلات الموسيقية والالتزامات الاجتماعية ولم يكن في أكثر الأحيان يأوي إلى الفراش حتى الواحدة فجراً، فضل كثيرون الكتابة في الصباح والتوقف لتناول طعام الغداء والقيام بنزهة قصيرة، ثم قضاء ساعة أو ساعتين في الرد على الرسائل، والتوقف عن العمل في الثانية أو الثالثة بعد الظهر. كتب كارل يونغ: "لقد أدركت أن الأحمق هو الذي يواصل العمل على الرغم من شعوره بالتعب وحاجته للراحة". أو بعبارة أخرى، لا بد أن يكون بمثل عبقرية موتسارت.

اقرأ أيضاً: طريقتان لمساعدة الموظفين على تغيير العادات الراسخة

الشريك الداعم

يقول كيري في حديثه عن العادات اليومية للعباقرة أنّ مارتا فرويد، زوجة عالم النفس الشهير سيغموند فرويد، كانت "تفرد له ملابسه، وتختار له مناديله، وتضع له معجون الأسنان على الفرشاة". كانت جيرترود ستاين تفضل الكتابة في الهواء الطلق وتأمل الصخور والأبقار، وهكذا في رحلاتهما إلى الريف الفرنسي، كانت جيرترود تختار مكاناً للجلوس بينما تطارد أليس توكلاس بضع بقرات لدفعهما للمرور في مجال رؤية الكاتبة. أما زوجة غوستاف ماهلر فقد كانت ترشو الجيران ببطاقات حفلات الأوبرا كي يبقوا كلابهم في حال من الهدوء عندما يعزف، على الرغم من خيبة الأمل المريرة التي شعرت بها عندما أجبرها على التخلي عن مهنتها الموسيقية الواعدة. والفنانون غير المتزوجين كانوا يجدون من يقدم لهم يد العون أيضاً. فشقيقة جين أوستن، والتي تدعى كاساندرا، كانت تتولى معظم الأعمال المنزلية إفساحاً في المجال أمام جين كي تتفرغ للكتابة. كتبت جين مرة: "يبدو التأليف مستحيلاً بالنسبة لي برأس مليء بمفاصل الضأن وأوراق الراوند". أما آندي وورهول فكان يتصل بصديقه ومعاونه بات هاكيت كل صباح ليقص عليه تفاصيل ما فعله في اليوم السابق. وكان "تدوين الملاحظات اليومية"، كما سموا ذلك، يمكن أن يستمر ساعتين كاملتين، فهاكيت على سبيل المثال دوَّن الملاحظات وطبعها كل صباح طيلة أيام الأسبوع من عام 1976 حتى وفاة وارهول في عام 1987.

الحياة الاجتماعية المحدودة

عبّر أحد المعجبين بسيمون دي بوفوار عن هذا الأمر بالطريقة التالية: "لم تكن هناك حفلات، أو استقبالات، أو قيم برجوازية. كان هناك نوع من الحياة غير المليئة بالضوضاء، وكانت هناك بساطة متعمدة لجأت إليها الكاتبة ليتسنّى لها الانكباب على عملها". أما مارسيل بروست، وبحسب كيري، "فقد اتخذ قراراً واعياً عام 1910 بالانسحاب من المجتمع". أخذ بابلو بيكاسو وصديقته فرناندي أوليفييه فكرة تخصيص يوم الأحد "للاستقبال في المنزل" من ستاين وتوكلاس حتى يتمكنا من "الإيفاء بالتزاماتهما تجاه أصدقائهما في عصر يوم واحد". هذه العادة الأخيرة، ألا وهي العيش في عزلة نسبية، تبدو أقل جاذبية بكثير من بعض الأفكار الأخرى. ومع ذلك، ما زلت أجد العادات الروتينية لهؤلاء المفكرين مقنعة بصورة تثير الاستغراب؛ ربما لأنه يستحيل تحقيقها أو لأنها متطرفة. حتى فكرة أن بإمكانك تنظيم وقتك كما تشاء هي في حد ذاتها بعيدة المنال بالنسبة لمعظمنا، لذلك سأختتم بأن أوجه التحية إلى جميع أولئك الذين قاموا بعملهم على أفضل وجه في إطار ظروف مقيدة متصلة بالسلوك الروتيني لأشخاص آخرين: مثل فرانسين بروز التي كانت تبدأ الكتابة عندما يغادر أطفالها في حافلة المدرسة وتتوقف عندما يعودون؛ أو توماس ستيرنز إليوت (تي إس)، الذي وجد أن الكتابة أسهل بكثير بالنسبة له بعد أن حصل على وظيفة يومية في بنك بدلاً من أن يكتب الشعر وهو يتضور جوعاً؛ وحتى فرانسيس سكوت فيتزجيرالد الذي انحصرت كتاباته الأولى ضمن جدول صارم اتبعه كضابط عسكري شاب.

اقرأ أيضاً: تغيير العادات يستدعي تغيير السلوكيات

لم تكن تلك الأيام رائعة مثل ليالي باريس الصاخبة التي تلتها، لكنها كانت أكثر إنتاجية ولا شك أقل وطأة على كبد فيتزجيرالد. قد يشعر المرء بانزعاج لاضطراره لتنظيم حياته على وقع المسار الروتيني لشخص آخر، ولكن هذا يسهِّل عليه البقاء على الطريق.

وهذا بالطبع ما هو عليه الروتين حقاً، إنه المسار الذي نسلكه خلال يومنا من أجل اكتساب العادات اليومية للعباقرة بشكل صحيح. وسواء شققنا ذاك الدرب بأنفسنا أو سرنا على الطريق الذي اضطرتنا ظروفنا أن نسلكه، فالأكثر أهمية ربما هو أن نواصل حث الخطى.

اقرأ أيضاً: طبّق هذه الخطة للتوقف عن عاداتك السيئة

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي