السمعة واحدة من الأصول ذات القيمة الأكبر لدى الشركات. ولهذا، يهتم القادة والمدراء والموظفون بسمعتهم الاجتماعية، ويرغبون في الظهور بشكل أخلاقي في العمل وأن يُنظر إليهم باعتبارهم يتميزون بالكفاءة والكرم والفعالية والنزاهة والإنصاف. ولكن، يشير عدد من الأبحاث الجديدة إلى أنّ التركيز أكثر مما ينبغي على السمعة يعود في بعض الأحيان بأثر سلبي، فمحاولة الحفاظ على مظهر من يقوم بالأمور الصحيحة أخلاقياً قد تدفع صنّاع القرار لارتكاب أخطاء عدّة.
خذ مثلاً، حادثة قناة "هولمارك" (Hallmark Channel) المتعلقة بإعلان أذاعته مؤخراً تُظهر فيه تأييداً لطريقة جديدة للزواج. وبعد أن واجهتْ ضغطاً عاماً من إحدى المجموعات، قررتْ القناة إيقاف الإعلان، لأنّ الشركة لا ترغب في التسبب بتوليد "خلاف" أو "نزاع". إلا أنّ رغبتها هذه، في الظهور على أنها نزيهة وبعيدة عن النزاع، كانت تتعارض مع القيمة المعلنة للمؤسسة، المتمثلة في "مساعدة الجميع على التواصل". وبذلك، تسببت قناة "هولمارك" في خلق الانقسام بمحاولتها الحفاظ على سمعتها بأنها تُطبق مبادئ الشمولية.
عواقب محاولة الظهور بشكل أخلاقي في العمل بشكل مستمر
توصل بحثنا إلى ثلاث طرق يؤدي الانشغال بالسمعة من خلالها فعلياً إلى مخالفة القادة والموظفين للمعايير الأخلاقية التي كانوا سوف يلتزمون بها في أحوال أخرى. ومن خلال فهمنا للرغبة في تفادي الظهور بمظهر المخالِف للمعايير الأخلاقية، أصبح بإمكاننا اقتراح بعض الخطوات العملية التي يُمكن للقائد اتباعها ليبدو، بل ليكون فعلاً، قائداً منصفاً ملتزماً بالمعايير الأخلاقية.
يؤدي الانشغال بالسمعة النزيهة إلى زيادة الكذب
عادة، تؤدي رغبة الإنسان في أن يبدو نزيهاً إلى منعه عن الكذب، ولكنها في بعض الأحيان تؤدي إلى العكس. ويزخر عالم الأعمال بحوادث يجعل الصدق فيها صاحبه يبدو كاذباً. خذ مثلاً مديراً في شركة استشارات، ولديه عقد مع عميل للعمل ما لا يزيد عن 500 ساعة بأجر، يعمل فريقه بدأب وكفاءة قدر الإمكان من أجل تحقيق النتائج المرغوبة في الوقت المحدد، وللعجب، بلغ عدد ساعات عملهم 500 ساعة بالتمام والكمال. هل سيكون صادقاً مع العميل بهذا الشأن؟ سيكون بعض المدراء صادقين بلا شك، ولكن ضمن سلسلة من 7 دراسات شملت 1,167 مشاركاً، وجدنا أن حوالي 35% من الناس يُفصحون عن قيمة أقل من القيمة الحقيقية لنتائج من هذا النوع. وتوصلنا إلى أنه في الحالات التي تكون فيها النتائج الحقيقية إيجابية بدرجة كبيرة، يتعمد المحامون في بعض البلدان الإبلاغ عن عدد ساعات عمل أقل من العدد الحقيقي، ويتعمد الطلاب التقليل من قيمة نتائجهم في الاختبارات الأكاديمية، ويتعمد الموظفون الأميركيون والبريطانيون التقليل من قيمة المبالغ المستردة التي تدين لهم الشركات بها. وفي هذه الحالات، يختار الموظفون الكذب وتلقي أجر مادي أقل في سبيل حماية سمعتهم النزيهة.
اقرأ أيضاً: بناء ذكاء اصطناعي أخلاقي لإدارة المواهب
يؤدي الانشغال بموضوع الظهور بشكل أخلاقي في العمل إلى التحيز ضد الأصدقاء
تخيل أنك قائد يحاول تحديد الموظف الأجدر، ومنحه مكافأة رفيعة المستوى في اجتماع الشركة السنوي. حسب التقاليد، يسمي الموظفون المرشحين بصورة سرية، ثم يتمتع القائد بحرية اختيار الفائز النهائي حسب تقديره. وهذا العام، تلقى كلٌ من جين ونوح أكبر عدد من الأصوات، مع فارق بسيط لصالح جين، ويعرف الجميع في المكتب أنها صديقة مقربة من القائد، على عكس نوح الذي لا يكاد يعرفه. من سيختار القائد للمكافأة إذاً؟ صديقته التي تستحق المكافأة بفارق بسيط عن منافسها، أم هذا المنافس الغريب الأقل جدارة منها بقليل؟
يسلط هذا النوع من القرارات الضوء على صراع شائع بين انشغال القائد بأن يكون حكمه عادلاً (عن طريق مكافأة الموظف الأجدر) وانشغاله بأن يبدو عادلاً في نظر الآخرين (عن طريق تفادي ما يبدو أنه تفضيل لأصدقائه وحلفائه). وفي سلسلة من ثماني تجارب صُممِّت بناء على قرارات من هذا النوع، أوضحنا أن المدير عادة ما يمنح المكافأة للأجدر عندما لا يكون أي من المرشحين صديقاً له. ولكنه بصورة روتينية، يتراجع عن منح المكافأة للموظف الأجدر إذا كان صديقاً له في المكتب. في دراسة أُجريت على 216 مشاركاً، منح 27% فقط منهم المكافأة للصديق الأجدر بنسبة ضئيلة، في حين منح 61% المكافأة للغريب الأجدر بنسبة ضئيلة. ومن خلال محاولة الظهور بمظهر حيادي على أحد الأبعاد (العدل)، يُبدي الإنسان تحيزاً على بُعد آخر (توزيع الموارد بصورة غير عادلة). نعلم أن أحد أسباب هذا الخيار هو محاولة المدير لأن يُظهر عدالته تجاه المكتب بأكمله، وعندما غيرنا الوضع شيئاً بسيطاً من أجل ضمان ألا يعرف أحد في المكتب شيئاً عن قرار القائد، أبدى الموظفون تفضيلاً شديداً لمكافأة المرشح الأجدر حتى وإن كان صديقاً للقائد.
يؤدي الخوف من الظهور كقائد غير عادل إلى هدر الموارد
في مجموعة تحقيقات ذات صلة، أجرينا ست تجارب، بمشاركة 2,506 مشاركين، لاستكشاف كيف يؤدي خوف القائد من ظهوره بمظهر القائد المجحِف أو غير العادل إلى هدر الموارد. في إحدى هذه التجارب، لعب 69 مشاركاً دور مدير يواجه قراراً يتعلق بتخصيص جهاز كمبيوتر جديد لواحد من موظفين اثنين يستحقانه بالتساوي. اختار قرابة نصف المشاركين (45%) وضع الجهاز جانباً بدلاً من تخصيصه لأحد الموظفين دون الآخر. ورغم أن المشاركين قالوا إن هذا الخيار كان يشكل خسارة كبيرة، وبالتالي فهو يخالف قاعدة "لا للهدر"، إلا أنهم مستعدون لهدر هذا المورد ليحافظوا على مظهر المدير العادل في نظر موظفيهم.
التغلب على الانحياز
بالنظر إلى ما سبق، سلطت هذه النتائج الضوء على انحراف بسيط يضطر له صُناع القرار في المؤسسات في تعاملهم مع القضايا التي تبرز فيها جوانب العدل والولاء والأخلاقيات. وقد يتخذ المدراء قرارات لا أخلاقية تنطوي على الظلم والغدر باسم السمعة. ووجدنا أنهم يفعلون ذلك خصوصاً عندما يشعرون بوجود مقايضة بين التصرف على نحو أخلاقي والظهور على أنهم ملتزمون بالمعايير الأخلاقية في نظر الآخرين. ومن أجل تعقيد الأمور، يمكن أن تكون بعض الاستراتيجيات غير فعالة في أفضل الأحوال، أو قد تعود بنتائج عكسية في أسوئها. إذاً، ماذا يمكن أن يفعل المدراء أصحاب النوايا الحسنة من أجل التغلب على هذه العوائق في صنع القرار؟
يكشف بحثنا عن إجراء يُمكن أن يكون مساعداً، وهو تسليم هذه القرارات الصعبة لشخص حيادي. مثلاً، عندما يواجه مدير قراراً حول منح علاوة للموظفين (وأحدهم صديقه)، يمكنه محاولة ترشيح مدير آخر (ليس صديقاً لأي من المرشحين) لتقديم هذه المكافأة. أو إذا كانتْ العلاوة غير قابلة للتقسيم، يُمكن للمدير تسليم الموظفين أنفسهم مهمة اتخاذ القرار النهائي بدلاً عنه. في الحقيقة، اتبعتْ شركة الواقع الافتراضي "سكند لايف" (Second Life)، استراتيجية مماثلة من خلال تطوير برنامج لتخصيص المكافآت، فيتيح للموظفين اتخاذ قرارات تخصيص المكافآت من دون تدخل الإدارة. ويتلقى الموظفون حصصاً متساوية من المكافآت التي يُمكنهم تقسيمها على الموظفين الآخرين في الشركة على نحو سري، بالطريقة التي يختارون دون أخذ شيء منها لأنفسهم. وقد أبلغت الشركة عن عدالة القرارات الناتجة مع ازدياد رضا الموظفين، وهذا أيضاً ما توصلنا إليه في بحثنا.
وفي هذا الصدد، اكتشفنا في سلسلة من ثماني تجارب حول الظهور بشكل أخلاقي في العمل أنه عندما تكون في موقع تخصيص مكافآت مرغوبة لنفسك ولغيرك، وتتخلى عن هذا الموقع، أي تعطي شخصاً آخر صلاحية اتخاذ القرار بدلاً عنك، غالباً ما يكافئك الشخص الآخر بأفضل نتيجة. يتوق الموظفون لمنح هذه المكافآت، لأنهم يرون أن التنازل بحد ذاته سخاء. وبالنتيجة، يحصل المتنازل على مكافآت مادية وفوائد تتعلق بالسمعة، لأن الآخرين يعتبرونه عادلاً وكريماً. باتباع هذه الاستراتيجية، سوف نجني الفوائد المتعلقة بالسمعة نتيجة للسلوك الأخلاقي من دون الاضطرار لاتخاذ إجراءات غير أخلاقية.