الأثر الاقتصادي
أنا واحد من بين 582 مليون شخص، أي ما يقرب من 8% من سكان العالم، الذين كرسوا حياتهم لريادة الأعمال. هذا يعني أنني كنت بصدد البدء بمشروع تجاري خاص بي أو تشغيله بنفسي بالفعل خلال العقد الماضي. ولكن ما الآثار المترتبة على اكتساب تلك الهوية كرائد أعمال سواء على صحتي النفسية أو على رفاة المجتمع العالمي ككل؟
عندما يجري الحديث عن رائد أعمال، فإنه يوصف بأنه شخص يسعى بحماس وذهن متقد ومبدع وراء فكرة بداية من بلورتها من مجرد مفهوم وحتى وضعها موضع التنفيذ نتيجة لاكتشاف حاجة السوق لها أو حاجته لتقديم حل لأحد التحديات. أو بحسب ما قاله ستيف جوبز في عبارته الشهيرة حول رواد الأعمال:
"هم أولئك الذين يتحلون بقدر كاف من الجنون يدفعهم للاعتقاد بأنهم قادرون على تغيير العالم".
يدرك قادة الفكر حول العالم، بمن فيهم أولئك الذين اجتمعوا في دافوس في وقت سابق من هذا العام، القيمة الاستثنائية التي تضيفها ريادة الأعمال إلى خلق فرص العمل الجديدة وتحقيق النمو الاقتصادي وتسويق الابتكارات. وتُظهر أكبر مجموعة من البيانات العالمية التي أصدرها البنك الدولي حول ريادة الأعمال التأثير الكبير والإيجابي للغاية للشركات الناشئة على نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي وعلى زيادة نسبة الصادرات من إجمالي الناتج المحلي وكذلك براءات الاختراع نسبة إلى عدد السكان وتأثيرها الإيجابي على خلق فرص عمل جديدة.
كان جوزيف شومبيتر، وهو أحد أبرز المفكرين الاقتصاديين في القرن العشرين، أول من أدرك أهمية رواد الأعمال. لقد صاغ مصطلح "التدمير الخلاق" لوصف عملية التغيير الهيكلي والنمو الاقتصادي الذي يحدثونه. فالشركات الناشئة، بحكم تعريفها، أقل تجنباً للمخاطر وتتحلى بالمرونة ولا تتقيد بالتراتبية الهرمية الموجود في الشركات التقليدية. بالإضافة إلى أنها تطور منتجات وخدمات جديدة وعمليات مبتكرة في تنفيذ الأعمال التجارية. وفي كتابه "نظرية التنمية الاقتصادية" (The Theory of Economic Development)، يذهب شومبيتر إلى حد اعتبار رواد الأعمال السبب الرئيس للتنمية الاقتصادية، إذ يتحدى "رائد الأعمال المبتكر" وضعية الشركات القائمة من خلال الابتكارات.
في الولايات المتحدة وحدها، تخلق الشركات الحديثة الناشئة حوالي 43% من الوظائف الجديدة سنوياً استناداً إلى الإحصائيات الصادرة عن مكتب التعداد الأميركي حول المشاريع الريادية الناشئة (BDS). وقد أحصت "إدارة المشاريع الصغيرة" الحكومية الأميركية (Small Business Administration) نجاح الشركات الصغيرة بين عام 2000 إلى عام 2017 في استحداث 8,4 مليون فرصة عمل جديدة مقابل 4,4 مليون فرصة عمل استحدثتها الشركات الكبرى. وفي عام 2015، كان هناك ما مجموعه 30,2 مليون شركة صغيرة تمثل 99.9% من جميع الشركات في الولايات المتحدة.
ولكن في حين ركزت البيانات الإحصائية تاريخياً على الرفاه الكلي للاقتصادات المحلية والعالمية، فقد أخفقت في قياس التأثير الضار الذي تسببه الاضطرابات الصحية الذهنية على رفاه مؤسسي المشاريع وصحتهم النفسية. ولحسن الحظ، بدأ تركيز تحليل القيمة يشهد تغيراً.
أزمة صحية نفسية بالشركات الناشئة
يقول الدكتور بول هاكماير الخبير في تكوين هوية النخبة: "نظراً للتأثير الاستثنائي الذي يحدثه رواد الأعمال على اقتصادنا العالمي فإنه من الأهمية بمكان أن تكون صحتهم العاطفية وعلاقاتهم بالآخرين في أحسن حال أثناء عملهم. وللأسف، ليس هذا ما يحدث في ظل حالة الإرهاق والإنهاك التي يعانيها مؤسسو المشاريع كمعيار للتميز في ريادة الأعمال".
وركزت دراسة حديثة أجراها مايكل فريمان الباحث في جامعة سان فرانسيسكو على أزمة الصحة النفسية المستعرة والمعترف بها وإن لم تعالج بشكل فعال، بين الرجال والنساء الذين يشكلون مجتمع رواد المشاريع الريادية الناشئة.
وفقاً لهذه الدراسة، يعاني ما يقرب من نصف رواد الأعمال (49%) من نوع واحد على الأقل من أنواع المشكلات الصحية النفسية خلال حياتهم، ويشمل ذلك اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه (ADHD) والاضطراب ثنائي القطب ومجموعة من اضطرابات الإدمان.
وأظهرت أبحاث فريمان أن مؤسسي المشاريع الريادية الناشئة معرضون:
- أكثر بمرتين للإصابة بالاكتئاب.
- أكثر بست مرات للمعاناة من اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه.
- أكثر بثلاث مرات للمعاناة بسبب المواد المخدرة.
- أكثر بعشر مرات للإصابة بالاضطراب ثنائي القطب.
- أكثر بمرتين لدخول المستشفى للحصول على علاج نفسي.
- أكثر بمرتين للتفكير في الانتحار.
ويرى الدكتور هاكماير من واقع تجربته أن هذه النتائج متحفظة، ويضيف: "خلال ممارستي الإكلينيكية، أرى أن النسب قد تصل إلى 80% بين رواد الأعمال ممن يعانون من مجموعة من اضطرابات الشخصية مثل النرجسية ومتلازمة الثروة المفاجئة ومتلازمة المحتال".
ولا تؤدي هذه الظروف إلى تقويض فعالية مؤسسي المشاريع فحسب، بل إن لها تأثيراً سلبياً أيضاً على المساعي التي من أجل تحقيقها خاطر هؤلاء البشر الأذكياء برأسمالهم المالي والفكري والعاطفي ورصيدهم من العلاقات".
وعندما طُلب منه شرح سبب اعتقاده هذا، أوضح الدكتور هاكماير ذلك قائلاً: "يدرب رواد الأعمال أنفسهم على تجاهل الاحتياجات النوعية لرفاتهم والتي تقاس بمستوى العلاقات الأصيلة ذات المغزى التي يقيمونها مع الآخرين والرضا العام عن الحياة ومستوى السعادة. فالرسالة التي فهمها من أكثر رواد الأعمال شهرة في هذا المجال مثل إيلون ماسك وكيت سبيد هي الوصفة القديمة التي تقول إن "من طلب العلا سهر الليالي"، ورسالة أخرى خبيثة مفادها أن النجاح يقاس بالعائد المادي الكمي، أي العائد على الاستثمار والأرباح.
"يعطي هؤلاء الأفراد متقدو الذكاء أهمية كبيرة للعائد الكمي على حساب الاعتبارات النوعية. ولسوء الحظ، يؤدي نموذج العمل هذا إلى انهيار رواد الأعمال ويجعلهم يكافحون من أجل التوفيق بين التناقض القائم بين إدراكهم الداخلي بأن معاناتهم الجسدية والعاطفية تهدد أداءهم ومعيار قطاع الأعمال المتمثل في التنافسية الجامحة التي رسمت معالم القطاع الصناعي الذي يعملون فيه على امتداد قرون".
لحسن الحظ، هناك حل. في اجتماع المنتدى الاقتصادي العالمي هذا العام في دافوس، بدأ قادة الفكر وبعض المشاهير مثل الأمير وليام والرئيس التنفيذي لشركة كايزر برماننت (Kaiser Permanente) برنارد تايسون والرئيس التنفيذي لبنك "آتش إس بي سي" جون فلينت وغيرهم في مناقشة قضايا الصحة النفسية في ضوء البحث عن علاج ودون أحكام مسبقة. ولكن على الرغم من أهمية الوعي بالأمر، إلا أن اتخاذ خطوات ملموسة ضروري لتقليل مخاطر الصحة النفسية بموازاة تعظيم الفوائد الاجتماعية والثقافية للمساعي الريادية في عالم الأعمال.
خطة عملنا
للاستفادة من زخم منتدى دافوس 2019 والبناء عليه، توصلت أنا والدكتور هاكماير إلى خطوات ملموسة للتخفيف من الأضرار الناجمة عن الإرهاق الذي يصيب مؤسسي المشاريع الريادية الناشئة وغيرها من تحديات الصحة النفسية كما يلي.
- رفع الوصمة: يجب على المستثمرين أن يمثلوا قدوة للآخرين من خلال إظهارهم لمؤسسي المشاريع الريادية الناشئة أن الضعف أمر مقبول وأنه من المحبذ أن يتحدثوا عن المشكلات النفسية التي يواجهونها. ويمكن أن تبدأ عملية التواصل المنفتح مع هؤلاء المؤسسين وإظهار المؤازرة لهم في وقت مبكر تماماً مع ضرورة العناية بهم في بداية عملية إنشاء الشركة الناشئة. وهناك طريقة رائعة يمكن للمستثمرين من خلالها دعم هذه المبادرة من خلال أخذ "تعهد على المستثمرين" الذي صاغته إرين فراي وتي تشاو، وهو التزام علني بالقيام بدور نشط في العناية بالصحة النفسية.
- موارد الرفاه: يجب على مجتمع الاستثمار العالمي تغيير طريقة تفكيره من خلال توسيع الآفاق إلى ما هو أبعد من مؤشرات الأداء المالية وغيرها من مؤشرات الأداء الرئيسة مع الأخذ في الاعتبار أيضاً الرفاه الذهني والبدني لأهم أصولهم، وأعني مؤسسي المشاريع الريادية الناشئة. فمجرد جمع شركة ناشئة حديثاً لمليوني دولار أو أكثر لا يعني أن المؤسسين لديهم الوسائل لطلب الدعم والمساندة، حيث تقع على عاتق المستثمر مسؤولية السماح للمؤسسين بإنفاق جزء ضئيل من الاستثمار على رفاتهم الشخصي.
- دعم المستثمر: تحتاج صناديق الاستثمار إلى إشراك أخصائي الصحة النفسية في نظام بيئة الأعمال المتكاملة للعمل كنظم للدعم ولتنفيذ استراتيجيات مجرَّبة عملياً ومعزّزة وعلاجية لقيادة البشر الذين يديرون استثماراتهم.
بالنظر إلى الحالة المتقلبة للمناخ الجيوسياسي الذي يسعى رواد الأعمال من خلاله إلى خلق قيمة اجتماعية واقتصادية، من المهم للغاية أن تتضمن تقييمات نجاحهم مقاييس نوعية للصحة النفسية، بالإضافة إلى مقاييس كمية للعائد المالي على الاستثمار. للقيام بذلك، نحتاج إلى العمل كمجتمع عالمي لدمج الأدوات المعتمدة مثل تقييم نوعية الحياة الذي طورته منظمة الصحة العالمية "هوكول" (WHOQOL) لقياس الصحة النفسية والعلاقات الصحية بين الأفراد والمجتمعات.
لقد جرى تمهيد الطريق واتخذت الخطوة الأولى للانطلاق في دافوس ونحتاج الآن إلى حشد الناشطين الذين سيوسعون الحدود التقليدية لعمليات التقييم من مجرد قياس العائدات الكمية البحتة إلى مزيج من العائدات الكمية والنوعية.
هذه المقالة خاصة بالمنتدى الاقتصادي العالمي حول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 2019، المنعقد في الأردن من 6 إلى 7 أبريل/نيسان.