ماذا تفعل عندما تشعر أنك ستخسر نفسك بعد أن خسرت وظيفتك؟

5 دقائق

تامر* هو رجل أنيق يبلغ من العمر 45 عاماً، ولكن عندما دخل إلى المطعم الراقي الذي نجتمع فيه، كانت أكتافه منحنية، وكان يحرك أصابعه بتوتر ما بعث طاقة عصبية في المكان. حينها، كان قد فقد وظيفته منذ عشرة أشهر، وكانت عائلته تعاني من عواقب مالية شديدة منذ ذاك الوقت. بيد أنه قال بصوت خافت: "أعتقد أن الأصعب هو شعوري ألا أحد يعتبرني ذا قيمة".

أجريت هذه المقابلة مع تامر عام 2014، وهو أخصائي في التسويق، من أجل كتابي المقبل "زمن الأزمة: كيف يواجه الأزواج البطالة" (Crunch Time: How Married Couples Confront Unemployment)، الذي يركز على تجربة البطالة بالنسبة للمهنيين ذوي المؤهلات التعليمية العالية، المتزوجين ولديهم أطفال في الولايات المتحدة. كانت الوظيفة بالنسبة لتامر، كما هي بالنسبة لعشرات المهنيين الآخرين، أساسية من أجل شعوره بذاته ومعرفة مركزه الاجتماعي وتقدير قيمته الذاتية. إلا أن هذه القيمة الذاتية مهددة دائماً، لأن المهنيين مثل تامر أصبحوا من الضحايا الجدد لحالة القلق التي تسود سوق العمل والتي بدأت قبل جائحة كورونا بزمن طويل.

ومع وصول البطالة إلى مستويات تاريخية، أصبح الوقت مناسباً لإعادة النظر في هذا الرابط بين هوياتنا ووظائفنا.

حالة القلق التي تسود سوق العمل تتنامى منذ عقود

على مدى عقود من الزمن، كانت المؤسسات في الولايات المتحدة تتنقل ما بين عقلية "الأكبر أفضل" وعقلية "الأصغر أجمل". وأصبحت عمليات تسريح العاملين وتخفيض حجم العمالة والوصول للعدد الصحيح مدمجة بالمنطق البنيوي لكثير من الشركات. كان الركود الاقتصادي الكبير الذي شهدناه بين عامي 2007 و2009 منعطفاً أدى إلى بلورة التوجه نحو حالة القلق في سوق العمل، حتى بالنسبة للموظفين ذوي المؤهلات التعليمية العالية. واليوم، تهدد العواقب الاقتصادية المترتبة على التباعد الاجتماعي بإنهاء الحياة المهنية لمجموعة أكبر من المهنيين في الولايات المتحدة.

وبالطبع، ستكون التكاليف الاقتصادية بالنسبة للأفراد والأسر هائلة، ولكن كيف سيكون الأثر الإنساني؟ فبالإضافة إلى خسارة مصدر الرزق، عانى تامر من خسارة مركزه الاجتماعي وشعوره العميق بالعار. ومع صراعه مع شعوره بالرفض في سوق العمل والخجل من بطالته، فقد ثقته بنفسه. لم يعرف كيف يتعامل مع الآخرين، أو كيف يستثمر وقته بشيء مفيد.

تسلط تجربة تامر الضوء على حقيقة معاصرة: أصبحت حيازة الوظيفة أو فقدانها مؤشراً جوهرياً لقيمة الإنسان المعنوية. منذ عدة عقود مضت، عرّف عالم النفس إيرفينغ غوفمان البطالة على أنها "إفساد الهوية". وما يقصده هو أن الشخص العاطل عن العمل يحرم من المشاركة في الحياة الاجتماعية بسبب نظرة الآخرين له بارتياب. ومن خلال بحثي، سمعت عن كثب عن هذه الوصمة. خذ سامر مثلاً، وهو رجل آخر في بحثي كان قد فقد وظيفته، وشرح لي كيف أصبح جيرانه وأصدقاؤه يتعاملون معه بحذر شديد، وكأنهم يخشون أن تصيبهم عدوى البطالة إذا ما خالطوه بحرية.

كما أن الباحثين الآخرين الذين يعملون استناداً إلى فترات الانكماش مثل الركود الكبير وأزمة مزارع ولاية أيوا في الثمانينيات من القرن الماضي، قد توصلوا إلى أن البطالة لها آثار مهمة على جوانب أخرى غير الدخل. فبالإضافة إلى أن الوظيفة تشكل أساساً لهويتنا ومركزنا الاجتماعيين، هي وسيلة لتنظيم أوقاتنا وتحديد هدف لنا وتوسيع دائرة معارفنا في المجتمع. ومن هذا المنطلق، لن تحرمنا البطالة من الدخل فحسب، بل ستدمر عنصراً تنظيمياً أساسياً في حياتنا.    

تختلف تجربة البطالة ما بين الآباء والأمهات

في حين كانت قيمة الذات المجروحة لدى تامر وسامر أمراً مشتركاً لدى معظم الرجال الذين تحدثت إليهم، كان الوضع مختلفاً قليلاً بالنسبة للنساء العاطلات عن العمل، على الأقل في الأشهر الأولى بعد خسارة وظائفهن. خذ ديمة على سبيل المثال، وهي محامية عاطلة عن العمل، قالت لي: "أحظى بكثير من التأييد لأني أم". وربطت ذلك بالمتطلبات الكبيرة لوظيفتها السابقة، والتي قالت إنها كانت تشغلها عن قضاء الوقت مع طفليها كما تحب.

تحدثت النساء العاطلات عن العمل عن اكتساب فرصة للدخول إلى العالم الاجتماعي الجديد، عالم الأمهات اللواتي يبقين في المنزل. ريم هي امرأة أخرى فقدت وظيفتها، عندما حضرت إلى مدرسة ابنها في صباح أحد أيام الأسبوع رحبت بها الأمهات الأخريات المشاركات في رابطة المدرسين وأولياء الأمور في المدرسة. قالت موضحة: "لم يسألنني عما أفعله في المدرسة يوم الثلاثاء في العاشرة صباحاً"، وبدلاً من الحاجة إلى تبرير عدم ذهابها إلى العمل، شعرت بترحيب الأمهات الأخريات لها وحماسهن لحضورها، تقول: "شعرت وكأنهن يقلن لي: تعالي، نحن بحاجة إلى مساعدتك!"

في حين كانت تجربة الرجال الذين خسروا وظائفهم في ممارسة دورهم كآباء مختلفة. إذ وصف أحد الآباء، وهو أيمن، صعوبة الاعتناء بابنه ذي الأربعة أعوام أثناء الأسبوع. إذ أخذه مرة إلى مسبح الجيران، فوجد نفسه على حد تعبيره "الرجل الوحيد بين عشرين أماً" وأضاف قائلاً: "لم أعرف كيف سأندمج معهن، ولم أكن أرغب بذلك، أتفهمينني؟ شعرت بالإحراج. وشعرت أنه ليس من الطبيعي أن أكون بينهنّ". يتعاكس شعور أيمن بعدم الراحة مع شعور ريم.

لكن، وجدت أنه مع مرور الوقت، حتى المرأة التي أنجتها خسارة وظيفتها من المهمة المستحيلة، المتمثلة في محاولة أن تكون موظفة مثالية وأماً مثالية، أصبحت تتوق للانخراط في نشاط مهني. وعلى الرغم من أن وجود الأطفال يساعد الأم العاطلة عن العمل على تنظيم وقتها وامتلاك روح الهدف وتوسيع دائرة معارفها في المجتمع، فإن السبب الرئيسي في ذلك بالطبع هو أن عمل المرأة مدفوع الأجر ببساطة لا يحظى بالتقدير كعمل الرجل. وحتى عندما تجني المرأة أكثر مما يجنيه زوجها، فإن مسؤولية العمل العائلي الخفي وغير المدفوع الأجر تُلقى على عاتقها دائماً. لا تعتبر الأبوة من الناحية الثقافية سبباً مشروعاً لمساهمة الأب في أعمال العائلة في الولايات المتحدة، لذلك لا يمكن أن يحل عمل الرجل كأب محل عمله في الوظيفة التي خسرها. يصعّب هذا النموذج على المرأة مشاركتها بدرجة متساوية في عالم العمل مدفوع الأجر، كما يصعب على الرجل مشاركته بدرجة متساوية في عالم العمل غير مدفوع الأجر وتقديم الرعاية.  

آن الأوان لإعادة النظر في ذلك. يمكن للحكومات وأصحاب العمل المساعدة.

يتزايد عدم ثبات الوظائف في الولايات المتحدة، وحتى في العالم أجمع، ونحن نستعد لموجة من البطالة على إثر جائحة "كوفيد-19". لذا، يجب أن نعيد النظر في الأهمية الكبيرة التي نوليها للوظائف في تحديد قيمتنا ككائنات اجتماعية. 

سيتطلب فصل امتلاك وظيفة عن القيمة المعنوية تغييراً ثقافياً تحفزه السياسات الثقافية. مثلاً، كثيراً ما تشكل إعانات البطالة موضعاً رئيسياً للخلاف على مستوى السياسات، وكثيراً ما تعتبر وصمة عار للمستفيدين منها بناء على المساواة بين قيمة الشخص المعنوية وامتلاكه الوظيفة. لذا، قد يشكل الدخل الأساسي الشامل، الذي يؤمن المعيشة سواء كنت موظفاً أم لا، خطوة نحو تقليص هذا الرابط بين العمل والقيمة المعنوية.

كما يمكن للسياسات الحكومية معالجة عدم المساواة بناء على النوع، ومنح المرأة والرجل فرصاً متكافئة لشغل أدوار اجتماعية متنوعة، ليس كموظفين فحسب، بل كآباء وإخوة وأبناء وعمات وأعمام وأصدقاء ومرشدين أيضاً. ويمكن تحقيق ذلك جزئياً عن طريق الاعتراف بتقديم الرعاية على أنه عمل، كما هو الحال في كثير من بلدان الشمال. ففي السويد يحق للأب والأم الحصول على إجازة تصل إلى قرابة 15 شهراً، تدفع الحكومة أجرها بنسبة تصل إلى 80% (مع تحديد سقف للأجر). كما تؤمن الحكومة لهما مكاناً في نظام رعاية الأطفال العام ما أن يبلغ الطفل عامه الأول. يمكن أن يشكل الاستثمار في السياسات العامة التي تأخذ في حسبانها التزامات تقديم الرعاية عاملاً مشجعاً للرجال والنساء على حد سواء كي يفتخروا بأدوارهم خارج العمل المأجور ويشعروا بمعنى الهدف منه.   

وأصحاب العمل لهم دورهم أيضاً. مثلاً، يمكن أن تتراخى الشركات فيما يخص مطالبة الموظفين بالحضور المستمر والمقابلات الشخصية المباشرة والتفاني الشديد في العمل. ولكنها إذا تبنت سياسات مرونة حقيقية، كالعمل من المنزل أو الدوام المرن، فستشير إلى أن الاستفادة من هذه السياسات أمر ممكن ومقبول من دون تعريض حياة الموظف المهنية للخطر. يمكن لأصحاب العمل ممارسة دور مهم في إعادة صياغة ثقافة العمل بأكملها عن طريق الأخذ في حسبانهم التزامات الموظفين غير المتعلقة بالعمل.  

يمكن لهذه الخطوات مجتمعة أن تساعد جميع الآباء والأمهات على تطوير أدوار خارج العمل. وسيكون حضور أيمن إلى المسبح مع ابنه أمراً متوقعاً، ببساطة لأن اعتناء الأب بأبنائه لن يكون أمراً مستغرباً.

مع مرور السنين، حصل كل من تامر وأيمن وديمة وسامر وريم والمهنيين الآخرين الذين تحدثت معهم على وظائف جديدة، منهم من حصل على وظيفة بدوام كامل مع امتيازات رائعة، ومنهم من يعمل بدوام جزئي. وبعضهم سئموا من محاولة العثور على وظيفة، فقرروا فتح شركات استشارية. وخلال مراحل مسيرتهم المهنية، بحلوها ومرها، كانت لديهم حياة شخصية يعيشونها أيضاً. منهم من فقد والديه، ومنهم من مر بتجربة الطلاق، وأحدهم توفي، ومنهم من خسر وظيفته. إلا أن الدرس المهني كان واضحاً لهم، وهو أنه لم يعد ممكناً الاعتماد على الوظائف حتى وإن كانت مرموقة وذات راتب جيد. 

إذن، هل من المعقول أن نعلق رفاهتنا النفسية والعاطفية بأكملها على هذا الصديق المتقلب؟ 

*جميع الأسماء مستعارة. 

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي