يعتبر الانتماء الاجتماعي حاجة إنسانية أساسية، متأصلة في حمضنا النووي. ومع ذلك، يقول 40% من الأشخاص إنهم يشعرون بالعزلة في العمل، وهو ما أسفر عن انخفاض الالتزام المؤسسي ومعدلات المشاركة لديهم. وبإيجاز، فإن الشركات تخفق حيال هذا الأمر. إذ تنفق الشركات في الولايات المتحدة حوالي 8 مليارات دولار سنوياً على الدورات التدريبية لتعزيز التنوع والإدماج التي تخطئ هدفها لأنها تتجاهل حاجتنا نحن البشر إلى الشعور بالانتماء.
ومن هذا المنظور العام للغاية، فإن التكاليف التي ينطوي عليها انعدام الشعور بالانتماء في مكان العمل تعتبر لافتة للنظر. ومن شأن إلقاء نظرة تفصيلية قليلاً المساعدة في التركيز على حقيقة المشكلة. إذ يُلحق الإقصاء الضرر بالأشخاص لأنه، في واقع الأمر، مؤلم لهم، حيث إن الإحساس شبيه بالألم البدني. وهو ألم لاذع تجرعنا مرارته جميعاً في وقت ما. ويعتبر الشعور بالاستبعاد مشكلة إنسانية متأصلة، وهذا هو السبب في أن النتائج المترتبة عليه تتسم بمثل هذا الثقل، كما أنه السبب في أن مسبباته من الصعوبة بمكان استئصالها من جذورها.
ومن طبيعة البشر الجوهرية أنهم اجتماعيون، بحيث إننا يمكن أن نتآلف مع الغرباء في حالة عدم وجود شخص نعرفه للتواصل معه. ولننظر إلى القصة التي نشرتها مؤخراً صحيفة "غارديان"، والتي حثت فيها الأشخاص على مشاركة الآخرين تجاربهم التي شعروا فيها بالاستبعاد في العمل، حيث كتب أكثر من 800 شخص إلى الصحيفة عن تجاربهم في هذا الصدد. وعبر موظف في المملكة المتحدة لم يذكر اسمه عن أسفه قائلاً: "أتلقى راتباً مجزياً للقيام بعمل أستمتع به، ... كما أن زملائي أشخاص أذكياء وهزليون ويشابهونني في التفكير. لكنني أشعر بالعزلة طوال أيام العمل".
ولفهم الحاجة الأساسية إلى الانتماء بشكل أفضل - وهو المكون غير الموجود في نموذج التنوع والإدماج - أجرت شركة "بتر أب" (BetterUp) بحثاً لاستقصاء دور الانتماء في العمل وبيان الآثار الهائلة المترتبة على عدم وجوده. ولأغراض هذا المشروع، فقد أصبح تعريفنا للانتماء هو مهمتنا الأولى، وفي بعض النواحي، مهمتنا الأصعب. إذ أوضحت بياناتنا أن الانتماء وثيق الصلة بالعديد من التجارب ذات الصلة مثل: الشعور بالأهمية، والهوية، والروابط الاجتماعية. ويتمثل القاسم المشترك بين هذه المواضيع في أنها جميعها تدور حول الإحساس بالقبول لدى الأشخاص من حولك والشعور بالانتماء إليهم. وقد كنا نصبو إلى دراسة كيفية نشأة الانتماء - أو عدم نشوئه - في أماكن العمل، وما يعنيه لكل من الموظفين والمؤسسات، وما إذا كان من الممكن تغيير الوضع السيئ في هذا الصدد.
ويعد البحث جديداً من ناحيتين: أولاً، أنه يحدد القيمة الكمية للانتماء في مكان العمل، مع تقديم نتائج ارتباطية وتجريبية على حد سواء. ثانياً، يقدم البحث تدخلات جديدة قائمة على الأدلة لتعزيز الإدماج. وبعد الدراسات السابقة التي قامت بها شركة "بتر أب" حول الوحدة والغرض منها، قمنا أولاً باستطلاع 1,789 موظفاً أميركياً يعملون بدوام كامل في العديد من القطاعات، ثم أجرينا سلسلة من التجارب مع أكثر من 2,000 مشارك مباشر لرصد وقياس التكاليف الناجمة عن الإقصاء. وفيما يلي النتائج التي توصلنا إليها:
الانتماء مفيد للأعمال
إذا كان الموظفون يشعرون بالانتماء، فإن الشركات تجني فوائد هائلة فيما يتعلق بنتائجها المالية، حيث يرتبط المستوى العالي من الانتماء بزيادة هائلة في الأداء الوظيفي تصل نسبتها إلى 56%، وانخفاض كبير في مخاطر دوران الموظفين تبلغ نسبته 50%، وتقليل الغياب بسبب المرض بنسبة 75%. ويمكن أن تسفر هذه النتائج، بالنسبة إلى شركة يبلغ عدد الموظفين فيها ألف موظف، عن وفورات سنوية تزيد عن 52 مليون دولار.
كما أظهر الموظفون الذين يتمتعون بمستوى عالٍ من الانتماء في مكان العمل أيضاً زيادة بنسبة 167% في مؤشر صافي نقاط الترويج الخاص بالموظفين (رغبتهم في توصية الآخرين بالتعامل مع شركتهم). كما أنهم حصلوا أيضاً على ضعف الزيادات في الرواتب، وحصلوا على ترقيات أكثر بـ 18 ضعفاً.
الإقصاء يؤدي إلى إلحاق الضرر بالفريق والتسبب بإيذاء الذات
إذ كشفت نتائج الدراسة الاستقصائية التي أجريناها أن الإقصاء في مكان العمل يعتبر مشكلة منهجية تنجم عنها خسائر مالية باهظة. لكن السؤال هنا هو: هل يتسبب الإقصاء بالفعل في أضرار يمكن قياسها بأداء الفريق؟
أجرينا، بغية الإجابة عن هذا السؤال، مجموعة من التجارب. وفي بادئ الأمر، جرى توزيع الموظفين ضمن فريق يتكون أيضاً من عضوين آخرين من "المشاركين" (وهما روبوتان بُرمجا للعمل باعتبارهما عضوين في الفريق)، باستخدام لعبة رمي الكرة الافتراضية القائمة على التعاون بين أعضاء الفريق، حيث تم الترتيب للتجربة بحيث كان لدى الموظفين الذين يتمتعون بالانتماء زملاء يقذفون لهم الكرة باستمرار، في حين أن الموظفين الذين تقرر إقصاؤهم لا يحصلون على الكرة إلا في مرات قليلة. وبعد ذلك، أكمل المشاركون في التجربة مهمة بسيطة كان بوسعهم فيها كسب المال إما لأنفسهم أو للفريق برمته. وكلما استمر المشاركون فترة أطول في المهمة، كسبوا قدراً أكبر من المال.
فما الفرق الذي وجدناه بين المشاركين الذين كانوا يتمتعون بالانتماء وبين الآخرين الذين تقرر إقصاؤهم؟ الإجابة هي أنه عندما أخبرنا المشاركين بأن المكاسب المالية سيتم اقتسامها مع بقية أعضاء الفريق، فإن المشاركين الذين تقرر أقصاؤهم بذلوا جهداً أقل مقارنة بالمشاركين الذين كانوا يتمتعون بالانتماء على الرغم من أن ذلك كان يعني التضحية بالمكاسب المالية. وعندما أخبرنا المشاركين بأن المكاسب المالية ستكون من نصيبهم وحدهم، فإن المشاركين الذين تقرر إقصاؤهم بذلوا القدر نفسه من الجهد الذي بذله المشاركون الذين يتمتعون بالانتماء. وقد قمنا بتكرار هذا التأثير مراراً وتكراراً عبر أربع دراسات منفصلة. ويمكننا الآن القول إن الشعور بالإقصاء يتسبب في بذلنا جهداً أقل في منظومة الفريق.
الآثار الضارة للإقصاء يمكن إبطالها
تثير هذه النتائج السؤال التالي: هل يمكن معالجة الإقصاء؟ والإجابة هي أنه قد جرى اقتراح العديد من الحلول لهذه المشكلة، لكن القليل منها فقط يستند إلى أدلة تجريبية.
ومن هذا المنطلق، فقد اختبرت جولة جديدة من التجارب التي قمنا بها ثلاثة إجراءات، صمم كل منها لتقليل التكاليف الناجمة عن الإقصاء. (1) اكتساب منظور عن المشكلة: تبادل المشاركون في تجارب سابقة عن هذه القضية أفكارهم مع المشاركين الحاليين بشأن تجاربهم مع الإقصاء والكيفية التي تعايشوا بها معه، (2) تشجيع الرعاية والمشورة: بحث المشاركون كيفية قيامهم بتقديم الرعاية والمشورة للأشخاص الذين يتعرضون للإقصاء في العمل، و(3) التماس التمكين: خطط المشاركون لكيفية إعادة تشكيل تجربة هذا الفريق لجعلها أكثر شمولية وإمتاعاً.
وقد نجحت الإجراءات الثلاثة جميعها في حمل أعضاء الفريق الذين كانوا يتعرضون للإقصاء في التجربة على التصرف بدرجة أكبر مثل الأعضاء الذين يتمتعون بالانتماء. وكان من الملاحظ أن وسائل الرعاية والمشورة والتمكين قد كانت قوية التأثير لدرجة أن المشاركين الذين يتعرضون للإقصاء قد بذلوا جهداً من أجل فريقهم أكبر حتى من الجهد الذي بذله زملاؤهم الذين يشعرون بالانتماء.
من شأن إيجاد حليف يحمي الموظف من الشعور بالإقصاء
ربما يكون من الصعب تحديد الإقصاء في الحال عند حدوثه، ولذا فثمة استراتيجية تدخل قيمة أخرى يمكنها وقاية الموظفين ضد التأثيرات السلبية للإقصاء في المقام الأول. ويتمثل أحد الخيارات في أن إيجاد حليف يمكن أن يخفف من وطأة الشعور بالإقصاء من جانب أعضاء الفريق الآخرين.
وقد اختبرنا هذا التدخل في تجربة أخرى، حيث تمت برمجة روبوت حليف على إظهار دلالات الانتماء عن طريق رمي الكرة إلى المشارك الذي تقرر إقصاؤه في التجربة، في حين تجاهلته الروبوتات الأخرى. ومن المهم الإشارة إلى أن الروبوت الحليف كان يرمي الكرة إلى المشاركين الآخرين مثلما يفعل أي أحد آخر، أي أنه كان يوفر معاملة متساوية بين جميع المشاركين وليس معاملة خاصة للمشارك المستهدف. وتبين لنا أن وجود حليف يتسم بالإنصاف في أفعاله قد جعل الأشخاص أكثر رغبة في العمل من أجل الفريق بأكمله، وهو ما يحمي الأداء الجماعي من التأثيرات السلبية للإقصاء.
كيف نخلق مكان عمل يقوم على الانتماء؟
يوضح البحث الذي أجريناه مسارات واضحة وذات منحى عملي للمضي قدماً في المساعدة على التصدي لوباء الإقصاء في مكان العمل، حيث إن أكثر استراتيجيات التوظيف الرامية إلى تعزيز التنوع فعالية لن تؤدي إلى إحداث تغيير طويل الأجل ما لم تتلقَ الكفاءات الجديدة الدعم لكي يتسنى لها تحقيق النجاح. ومن حسن الحظ أن نتائجنا تبين أننا لا نقف عاجزين في وجه الإقصاء.
إذ يمكن للأشخاص الذين يعايشون مشاعر الإقصاء أن يستخدموا هذه الوسائل المستندة إلى الأدلة والمتمثلة في اكتساب منظور عن المشكلة من الآخرين، ورعاية الأشخاص الذين يواجهون وضعاً مشابها وتقديم المشورة لهم، والتفكير في وضع استراتيجيات لتحسين الوضع القائم. وبالنسبة إلى قادة الفرق والزملاء الذين يودون مساعدة الآخرين على الشعور بالانتماء، يشير بحثنا إلى أن العمل كحليف يتسم بالإنصاف - أي كشخص يعامل الجميع بقدر متساوٍ - يمكن أن يوفر الحماية للوقاية ضد السلوك الإقصائي الذي يُبديه الآخرون. كما يمكنهم أيضاً سرد قصص تحكي عن الكيفية التي تعاملوا بها مع تحديات مماثلة ومعرفة الاقتراحات التي يطرحها الزملاء لتحسين الوضع القائم. ومن شأن هذه الاستراتيجيات مساعدة الموظفين ليس فحسب في تجاوز الديناميات الصعبة في مكان العمل، بل أيضاً في دفع عجلة التغيير وفق مفهومهم له، لاسيما عندما يكون النظام القائم لا يناسب الجميع. وينبغي للقادة والمؤسسات الترحيب بالملاحظات من جانب الموظفين، وأخذها على محمل الجد، إذ يمثل هذا السلوك ركناً أساسياً من أركان الشركات التي تحرص على تعزيز الانتماء. ويجب على الموظفين أن يشعروا بأنهم ينتمون إلى كيان يقدّرونه، وأنهم يتمتعون بالقدرة على إحداث التغيير عند الحاجة إليه.