لا شك في أن الشعور بالامتنان له فوائد عدة تنعكس إيجاباً على الأداء الفردي والمؤسسي؛ فقد أثبتت الأبحاث أنه يؤدي إلى زيادة اندماج الموظف في بيئة العمل ورفع إنتاجيته وتحسين معدلات استبقائه، كما يمثل الامتنان أداة للنجاح على المدى البعيد، حيث يعزز العقلية الإيجابية ويؤدي إلى زيادة الرضا الوظيفي.
ولكن ماذا لو قلنا إن للامتنان عيوباً أيضاً؟
قد لا نبدو ثنائياً متوقعاً؛ إذ تعمل إحدانا (لان) باحثة في مجال الامتنان والرفاهة، بينما يعمل الآخر (مايك) رئيساً تنفيذياً ومستشاراً للمسؤولين التنفيذيين، لكننا تعارفنا عبر لينكد إن وأبدى كلٌّ منا الاهتمام بمحتوى الآخر. خلال نقاشاتنا، تأمّل كل منا مسيرته المهنية، فاكتشفنا أن كلاً منا يندم على الأمر ذاته: عدم المبادرة بالدفاع عن حقوقنا طيلة حياتنا المهنية. ينبع هذا القاسم المشترك من بداياتنا المتواضعة التي غرست فينا شعوراً عميقاً بالامتنان لكل فرصة أو إشادة، مهما كانت بساطتها، لكن ذلك غالباً ما جاء على حساب إعلاء قيمتنا وإبراز إمكاناتنا. وكلما تعمقنا أكثر في هذا الموضوع، أدركنا أن النهج غير المتوازن في التعامل مع الامتنان يؤثر سلباً في قدرتنا على التفكير وصناعة القرار.
إذا سبق لك أن قبلت بزيادة طفيفة في الراتب أو انتقلت إلى منصب في المستوى الإداري نفسه دون ترقية حقيقية أو وافقت على العمل في مشروع إضافي على الرغم من اكتظاظ جدول أعمالك بالمهام، وذلك كله وأنت تشعر بالامتنان لتقدير مديرك لجهودك، لكنك في الوقت نفسه تكبت طموحاتك الحقيقية خشية أن تبدو جاحداً، فهذا يعني أنك وقعت في إحدى سلبيات المبالغة في الامتنان دون وعي منك.
لكن هذا ليس نادراً كما قد تظن.
3 مزالق للمبالغة في الامتنان
يولِّد لديك الوقوع في مزلق الامتنان شعوراً بالرضا عن الوضع الراهن ويعرقل تقدمك المهني نتيجة إضعاف قدرتك على الدفاع عن حقوقك بفعالية؛ إذ يؤدي غياب التوازن بين الشعور بالامتنان لوضعك الحالي والسعي لتحسينه إلى مسيرة مهنية تحظى فيها إسهاماتك بالتقدير، لكن مع إهدار فرص النمو المهني. وسواء كنت في بداية رحلتك مع الامتنان أو تعتزم مواصلتها، احرص على الانتباه للمزالق الثلاثة وتعلّم كيفية تفاديها:
المزلق الأول: القناعة بالوضع الراهن أو الرضا بالقليل
لنفترض أنك حصلت على فرصة للإسهام في مشروع مهم. وعلى الرغم من جاذبيتها، فإنها لا ترقى إلى مستوى تطلعاتك؛ إذ كنت تطمح في الحقيقة إلى قيادة هذا المشروع. قد تقول لنفسك: "عليّ أن أشعر بالامتنان للمشاركة في المشروع، فوضعي أفضل ممّن لم يحصلوا على هذه الفرصة إطلاقاً". يُعد هذا مثالاً تقليدياً على المقارنات الاجتماعية مع أطراف أضعف، حيث يدفعك الشعور بالامتنان إلى مقارنة وضعك بأشخاص أسوأ منك حظاً. ربما يكون هذا المنظور مفيداً في بعض الأحيان، لكنه يكبّل قدرتك أيضاً على تحسين أوضاعك والدفاع عن حقوقك.
كيف تتجنب الوقوع في هذا المزلق؟
لتفادي القناعة بالوضع الراهن وإهدار الفرص، عليك أن تدرك أن الترويج لنفسك عنصرٌ أساسي للنمو المهني وأن السعي لتحسين أوضاعك لا يتعارض مع الشعور بالامتنان لوضعك الحالي، بل إن هذا السلوك يدل في واقع الأمر على الطموح الإيجابي والرغبة في مواصلة التحسُّن.
في مثل هذه الحالة، عليك أن تتواصل مع مديرك لمناقشة مسيرتك المهنية من خلال تسليط الضوء على قدراتك. أكد التزامك بنجاح المشروع الذي تعمل عليه حالياً، ثم عبّر بوضوح عن طموحاتك باستخدام عبارات تبدأ بضمير المتكلم، مثل: "أنا مستعد لتولي دور قيادي".
تسمح لك العبارات التي تبدأ بضمير المتكلم بالتعبير عن وجهة نظرك بحزم وتساعد الطرف الآخر على فهم موقفك دون أن يبدو الأمر وكأنه انتقاد شخصي له، ما يسهم في جعل التواصل مباشراً، كما أنها تعزز الذكاء العاطفي من خلال زيادة وعيك بمشاعرك. على سبيل المثال، بدلاً من قول: "أنت لا تمنحني فرصاً كافية للمشاركة في مشاريع إنمائية تتيح لي صقل مهاراتي وإثبات قدراتي"، أعد صياغة هذه العبارة لتكون: "أشعر بأنني مستعد لتولي مهام بها تحديات أكبر تتيح لي تعزيز مهاراتي، وأود أن أناقش كيفية إسهامي في الفريق بفعالية أكبر".
يساعد هذا التعديل على تجنُّب إلقاء اللوم وتعزيز التفكير المبادر، ويفتح المجال أمام نقاش بنّاء حول فرص النمو.
المزلق الثاني: تجنُّب المحادثات النقدية
يؤدي التركيز المفرط على الامتنان إلى التردد في التعبير عن المخاوف المشروعة، ما قد يحرمك فرص تحسين وضعك. على سبيل المثال، قد تشعر بالتردد في طرح قضايا، مثل العنصرية أو التحيز ضد المرأة أو السلوكيات التمييزية، على الشخصيات النافذة أو صنّاع القرار، مثل المدراء أو المانحين أو المؤسسين أو أعضاء مجلس الإدارة؛ لأنك تشعر بأنهم يتوقعون منك الامتنان للدعم الذي قدّموه لك، أو قد تتردد في إخبار مديرك بأنك تعاني الاحتراق الوظيفي، خشية أن تبدو جاحداً وغير ممتن للفرصة التي أُتيحت لك للمشاركة في مشاريع مهمة.
قد تخشى أن تبدو في نظر الآخرين شخصاً جاحداً وغير ممتن للفرص "الممنوحة" لك، ما يشكّل عائقاً أمام التواصل الصريح وكبت المخاوف المشروعة والسكوت على قضايا جوهرية تستدعي الاهتمام.
كيف تتجنب الوقوع في هذا المزلق؟
لا يتعارض إظهار التقدير للفرص أو المساندة مع مناقشة الموضوعات الحساسة، ومنها القضايا المنهجية. وتتمثل إحدى طرق تجنُّب هذا المزلق في تغيير طريقة تفكيرك للتركيز على المكتسبات التي نلتها بجهدك ("أشعر بالامتنان لأن مديري قدّر أدائي المتميز وأسند إليّ هذا المشروع") بدلاً من التركيز على العطايا الممنوحة لك ("أشعر بالامتنان لأن مديري منحني فرصة العمل في هذا المشروع"). قد يساعدك هذا التغيير في طريقة التفكير على الشعور بالقدرة على مناقشة الموضوعات الحساسة مع مديرك.
على سبيل المثال، إذا أردت مناقشة المخاوف المتعلقة بالمساواة، فيمكنك محاولة صياغة الإصلاحات الضرورية على أنها التزام بالقيم المشتركة، بدلاً من اعتبارها انتقاداً شخصياً لأي فرد أو فريق القيادة. يمكنك أن تقول مثلاً: "أقدر جهودك في تعزيز ثقافة تحترم الرأي والرأي الآخر ويشعر فيها الجميع بأن رؤاهم موضع تقدير. وانطلاقاً من التزامنا بالشمول، أود العمل معك لمعالجة أثر سياسات الترقية غير المتكافئة على الموظفين الذين يتحملون مسؤولية رعاية ذويهم". يساعد هذا الأسلوب على إرساء أُسس بيئة إيجابية تتيح مناقشة القضايا الحساسة بسهولة، مع ربط مخاوفك برسالة الشركة الأشمل، ما يعزز فرص تبنّي مقترحاتك والعمل بها.
عند مناقشة مخاوفك بشأن أعباء العمل مع مشرفك، احرص على تقديم بيانات ملموسة توضح أن مهامك الحالية تتجاوز حدود طاقتك الاستيعابية. على سبيل المثال، إذا كنت تواجه خطر الإصابة بالاحتراق الوظيفي بسبب تضارب الأولويات، يمكنك أن تقول: "أسعى للحفاظ على تنفيذ مشاريعنا الرئيسية بأعلى مستويات الجودة، لكن عبء العمل الحالي يضعني أمام التزامات متضاربة؛ فلديّ 3 مشاريع ستبدأ خلال الأيام العشرة المقبلة، ويتطلب كل منها التحضير لما لا يقل عن 3 أيام. ربما يمكننا مراجعة أولويات المؤسسة لتحديد المهام التي يمكن تأجيلها مؤقتاً أو إسنادها إلى شخص آخر، ما يضمن تركيزي على أهم الجوانب والحفاظ على جودة معايير الأداء دون الإصابة بالاحتراق الوظيفي".
المزلق الثالث: كبت المشاعر السلبية
قد يكون الامتنان أداة قوية لتحقيق الرفاهة، لكن المبالغة في التركيز على الإيجابية تؤدي في بعض الأحيان إلى كبت المشاعر. غالباً ما يُطلق على هذه الظاهرة "الإيجابية السامة"، وتحدث عند استخدام الشعور بالامتنان لتجاوز المخاوف المشروعة والتجارب السلبية أو التقليل من شأنها، كما أثبتت الأبحاث أن الإنسان قد يعاني التنافر المعرفي عند الشعور بأنه مضطر لإظهار الإيجابية، على الرغم من معاناته مشاعر سلبية. وحين تسعى باستمرار لرؤية الجانب المشرق، قد تتجنب دون قصد مواجهة المشاعر السلبية أو معالجة أسبابها الجذرية.
لنفترض أن إدارة الشركة تُكلّفك دائماً بأهم المشاريع في الفريق، ما يمنحك الشعور بالفخر والإحساس بالإنجاز والتقدير، لكنك تشعر أيضاً بالإحباط والإعياء بسبب هذا الكم الهائل من العمل؛ إذ تضطر إلى العمل في عطلات نهاية الأسبوع وطيلة الليل لإنجاز مهامك. ومع ذلك، تفضِّل عدم التعبير عن ذلك لأنك تشعر بالامتنان الشديد للمرونة الكبيرة التي وفرها لك مديرك والتي سهّلت عليك التوفيق بين حياتك العملية والشخصية.
كيف تتجنب الوقوع في هذا المزلق؟
تذكَّر أن تعدُّد المشاعر أمرٌ طبيعي، وأن كل مشاعرك مشروعة، وأن كل شعور، مهما بدا صعباً، له أهميته وغايته. والتحلي بالشجاعة لمواجهة المشاعر السلبية يمثل مصدراً للقوة؛ لأنه يحفّزك على المضي قدماً نحو التغيير.
يشكّل وضع الحدود عنصراً أساسياً بهذه العملية، ويتطلب توضيح حدودك واحتياجاتك للآخرين. على سبيل المثال، يمكنك في الموقف السابق التعبير عن امتنانك للحصول على فرصة جديدة، مع توضيح رأيك بشأن عبء العمل الحالي بصراحة. يمكنك أن تقول: "أشكرك على منحي فرصة أخرى مميزة. أتطلع لبدء العمل، لكنني في الوقت نفسه حريص على تقديم أداء مميَّز في مشاريعي الحالية. لقد كان من الصعب التوفيق بين المواعيد النهائية المتداخلة لهذه المشاريع الثلاثة، وأود معرفة إذا ما كان بإمكانك مساعدتي على تحديد كيفية ترتيب الأولويات في هذه المبادرة الجديدة".
عندما تعترف بمشاعرك كلها وتضع حدوداً واضحة، ستخلق بيئة أكثر توازناً تعزز قدرتك على الدفاع عن حقوقك ومصالحك.
لا شك في أن الامتنان عنصرٌ ضروري للصحة النفسية، لكن لا بد أيضاً من إدراك سلبياته. وفي ظل تعقيدات عالم الأعمال المعاصر، من الضروري أن تدرك أن الشعور بالامتنان والدفاع عن الحقوق والمصالح لا يتعارضان، بل على العكس، يمكن أن يشكلا قوتين متكاملتين تعززان الرضا الشخصي والنجاح المهني في آن معاً، شريطة التعامل معهما بوعي. وبتبنّي نهج الامتنان الواعي، يمكنك اكتساب الثقة بالنفس وامتلاك عقلية النمو اللازمة للدفاع عن حقوقك ومؤسستك بفعالية.