قامت السلطات الكندية باعتقال رئيسة الشؤون المالية لشركة هواوي، مينغ وانزو، بطلب من واشنطن، فأتى رد فعل الصين الغاضب ليزيد بصورة فورية احتمال قيامها بإجراء انتقامي مماثل تجاه مدراء من شركات أميركية شمالية. وتعززت هذه المخاوف باعتقال دبلوماسي كندي سابق وباحث في مؤسسة غير ربحية، بالإضافة إلى رجل أعمال كندي.
يجد رجال الأعمال الغربيون اليوم أنفسهم عالقين في إجراءات قضائية منخفضة المستوى في الصين بصورة دورية أكثر بكثير من دول الغرب. وتبقى الخطورة متدنية لاتخاذ إجراء انتقامي ضد أحد الشخصيات الإدارية الغربية من مستوى مواز لمينغ، لأنه سيقوّض المكانة الكبيرة التي احتلتها الصين عندما نصبت نفسها كمدافع عن "النظام الدولي القائم على القانون".
إلا أنّ هناك طرقاً أخرى، حيث تمكن السلطات الصينية من القيام بأعمال انتقامية ضد من تختاره من الشركات الغربية متعددة الجنسيات التي تعمل في الصين. إذ يمكن فعلياً تعطيل العمليات التجارية اليومية عن طريق التفتيش والتدقيق وقيود الأعمال الروتينية والتطبيق الحرفي الانتقائي للقوانين الصينية المدنية والإدارية والجنائية. كما أن هناك إمكانية حظر السفر على المدراء (بمن فيهم الذين ما زالوا يخضعون لإجراءات قضائية معلقة)، بالإضافة إلى أساليب التهديد التقليدية القديمة.
أضف إلى ذلك أن هناك نقطة ضعف إضافية للتوترات الحالية في التجارة بين الولايات المتحدة والصين والشركات الغربية متعددة الجنسيات، كشركات التقنية الكبيرة في الولايات المتحدة التي تستعين بالصين كمصدر للتجميع والمنتجات نصف المصنعة والمكونات، وهي متمثلة بسلاسل القيمة لديها.
تتعرض سلاسل القيمة لهذه الشركات اليوم لخطورة سياسية كبيرة، وبالأخص الشركات التي تعتمد كثيراً على روّاد الأعمال الفرعيين الصينيين، حيث يتعرض الموردون المحليون وروّاد أعمالهم الفرعيين لضغوط من أجل التصرف "بصورة وطنية" عندما تخبرهم السلطات ولو ضمنياً أن الاهتمام الوطني يتجه إلى عدم التعاون مع الشركات الأجنبية متعددة الجنسيات. وقد حدث أمر مماثل في السابق عندما تلقى المستهلكون الصينيون إشارات من الحكومة من أجل مقاطعة المنتجات اليابانية والكورية الجنوبية.
كما أنّ هناك طرقاً كثيرة لتطبيق ضغوط غير رسمية على طول سلسلة القيمة، بدءاً من تأخير التسليم وصولاً إلى التراخي في معايير الجودة. ويمكن أن يجد الموردون وروّاد الأعمال الفرعيون أنفسهم يعانون من نقص مفاجئ وغير متوقع في مستلزمات الإنتاج وعراقيل من العمالة.
ولذلك، يجب على الشركات اتخاذ خطوات عاجلة من أجل قياس ما يتعرضون له من خطورة محتملة. وقد تساعد مضاعفة سلاسل القيمة بما فيها البدائل خارج الصين في تخفيف خطورة الاضطرابات السياسية والتنظيمية، (كما يمكنها أن تشمل الفائدة المضافة لتقديم تأمين ضد الكوارث الطبيعية المتكررة باستمرار). وفي عملنا في التحليل والاستشارات، صادفنا بعض الشركات التي تملك نظرة مستقبلية وقد بدأت بإعادة تشكيل سلاسل القيمة لديها في المواضع الممكنة، وبالأخص الشركات الحساسة تجاه المخاوف الأمنية الوطنية في الولايات المتحدة لأنها تستخدم تقنيات صينية في منتجاتها.
ولكن القيام بذلك ليس سهلاً ولا يسير التكلفة. وذلك لأن الصين اكتسبت نظاماً بيئياً واسعاً للتصنيع يخدم الشركات الأجنبية ويشتمل كل شيء بدءاً من البنية التحتية الصلبة وصولاً إلى المهارات الشخصية. كما أنّ نموها تسارع في الأعوام الأخيرة مع تبنيها للتشغيل الآلي من أجل تعويض الأجور الآخذة بالارتفاع والتي تقلل من تنافسية البلاد على اعتبارها مركزاً للمصادر الخارجية.
ولهذا السبب، لن يكون بناء سلسلة قيمة موازية مجرد انتقال إلى بلد آخر منخفض الأجور. فجودة مهارات التصنيع الصينية وكمياتها تمنع الشركات من الانتقال منها إلى مكان آخر في جنوب آسيا أو جنوب شرقها، وبالأخص الشركات التي تعمل في مجالات التشغيل الآلي والروبوت. كما أن البلدان ذات الأجور الأقل كالفيتنام وكمبوديا لم يعد لديها الكثير من إمكانات الإنتاج أو القدرة الإنسانية الخبيرة في القطاعات الأقل كفاءة نسبياً كالمنسوجات والألبسة، ناهيك عما تحتاجه الشركات الأميركية من أجهزة قياس متقدمة ومناولة المواد وهندسة العمليات ومهارات التطوير، بالإضافة إلى عدم امتلاك هذه الدول للموارد اللازمة لتطوير هذه المستلزمات بسرعة.
خذ مثلاً شركة آبل التي تلتزم بشدة بتصنيع منتجاتها في الصين وتصرح بذلك في عبارة موسومة على كل منتج تقول: "صمم في كاليفورنيا وتم تجميعه في الصين". ومؤخراً، قال رئيسها التنفيذي تيم كوك أنه إذا دعا جميع مهندسي الأدوات في الولايات المتحدة إلى اجتماع لن يملؤوا غرفة واحدة، بينما سيملؤون عدة ملاعب كرة قدم في الصين.
وبغض النظر عن هذه العقبات، وقبل أن ينشأ هذا التوتر التجاري المتزايد بين الصين والولايات المتحدة، كان هناك منطق تجاري بالنسبة للتنويع في سلاسل القيمة والعملية الموازية لإعادة تشكيل سلسلة القيمة الجارية فعلياً في بعض القطاعات ذات التركيز الإقليمي. وقد بدأ تغيير مواقع إنتاج المنتجات النهائية والمكونات، التي تتراوح بين أجزاء الدراجات الهوائية والأقراص الصلبة الخاصة بأجهزة الكمبيوتر، حيث انتقل الإنتاج الذي يعتمد على التقنيات البسيطة من الصين إلى اندونيسيا وكمبوديا وبنغلادش والهند، وانتقل الإنتاج الذي يعتمد على التقنيات العالية إلى كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وماليزيا.
تشكل الطبقات المتوسطة الآخذة بالازدهار في جنوب آسيا وجنوب شرقها سوقاً متنامياً للبضائع الاستهلاكية والصناعية الصينية، وبالأخص البضائع غير الكمالية التي لا تحتاج إلى الاختباء وراء إحدى العلامات التجارية الأميركية أو الأوربية. ويتوقع أن تصبح بلاد مثل الهند وإندونيسيا وماليزيا والفليبين وتايلند من بين أكبر 20 - 25 نظام اقتصادي خلال الربع الثاني من هذا القرن. ولذلك سيكون نقل الإنتاج إلى هذه البلدان أمراً منطقياً.
وفي الوقت ذاته، بدأت الصين بالظهور كسوق الملاذ الأخير لبيع منتجات البلدان الآسيوية الأخرى بعد أن كانت الولايات المتحدة هي سوق الملاذ الأخير لها منذ الحرب العالمية الثانية، ولكن يبدو أن سياسة إدارة ترامب "أميركا أولاً" وتركيزها على البضائع المصنعة محلياً قد غيرت ذلك.
كما ستضطر الشركات الصينية للبحث عن بدائل للولايات المتحدة، وبالأخص الشركات التي أصبحت تعتمد عليها تماماً، رداً على الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس ترامب، من خلال تسريع الانتقال إلى التجارة الإقليمية وسلاسل القيمة التي تدعمها.
سيكون الأثر الإجمالي هو أن تصبح بداية عدد أكبر من سلاسل القيمة ونهايتها في الصين بدلاً من أن تكون البداية في الصين والنهاية في الولايات المتحدة. وستصبح سلاسل القيمة العالمية أقلّ بينما تزداد سلاسل القيمة الإقليمية.
تتمتع سلاسل القيمة الإقليمية بميزة تتمثل في كونها أقصر من السلاسل العالمية. لأن ازدياد طول السلاسل العالمية ترافق مع تزايد هشاشتها وضعفها مع تنامي الضغط عليها بسبب التغيرات التقنية، وتحديداً الذكاء الاصطناعي والروبوت والبيانات الضخمة، ما أدى إلى تغير تكاليف العمالة والمخاوف البيئية كالبصمة الكربونية والمخاطر التي تتعرض لها السمعة.
ستقدم سياسات إدارة ترامب في التجارة زخماً جديداً للأنماط الناشئة لسلاسل القيمة الإقليمية الأقصر، ولكن لن يحدث هذا التغيير بين ليلة وضحاها. إذ تستغرق إعادة تشكيلها وقتاً مماثلاً لما تحتاجه إعادة بناء مصنع كامل. وستتردد الشركات في القفز إلى أسواق جديدة ناشئة قد تكون قوانين الاستثمار فيها حديثة النشأة أو غامضة ومعايير العمالة والبيئة متساهلة، مثل ميانمار وكمبوديا أو الفيتنام. كما أنه لن يكون من السهل استنساخ العلاقات الراسخة مع المصانع والموردين والحكومات.
إنّ سلاسل القيمة للإلكترونيات المعقدة تحديداً متجذرة بعمق في الصين، ومن غير المرجح أن تنتقل جميع الشركات من الصين نتيجة للرسوم الجمركية الجديدة وحدها. وما زالت الصين من جانبها تعتمد على تقنيات مستوردة معينة كالشرائح الإلكترونية والحساسات. وستصبح هذه القيود أقل صرامة مع تعجل الصين في تطوير قدرتها المحلية في هذه التقنيات، لأن الولايات المتحدة مصرة على منع تصدير التقنيات الأميركية الحساسة ومنع الشركات الصينية من اكتساب الحق في الحصول عليها من الاستثمارات الأجنبية المباشرة الوافدة.
أحد الاحتمالات هو أن يتسبب تصدي الولايات المتحدة الحالي لمنافسة الصين الاستراتيجية، من خلال الرسوم الجمركية وضوابط تصدير التقنية والاستثمارات، بتحطيم سلاسل القيمة أكثر. إذ إنه سيؤدي إلى نشوء عالم مزدوج للتقنية العالمية، يشغّل قسم منه التقنيات الأميركية بحسب المعايير التقنية الأميركية في حين يشغّل القسم الآخر التقنية الصينية وفقاً للمعايير الصينية.
ليس من المؤكد أن تكون الأجهزة والبرامج والخدمات في هذين العالمين قابلة للتشغيل المتبادل، وما أن يتقيد السوق بأحد هذين النظامين سيكون من الصعب على المستخدمين الانتقال إلى النظام الآخر. وهذا ما سيضيف تعقيداً لسلاسل القيمة ويزيد من احتمالات أن تكون متأخرة في التخصص إقليمياً.