في أحد الاجتماعات بإحدى شركات النفط الكبرى في الخليج، تساءل المدير التنفيذي عن سبب استقالة ثلاثة من أفضل موظفيه خلال أشهر قليلة، رغم رواتبهم المجزية ومناصبهم المهمة. لم يكن الجواب في دفاتر الحوافز أو أنظمة الترقية... بل في شيء أعمق: غياب سعادة الموظف.
ومن الخليج إلي مصر، فقد تبين أن تراجع أداء موظفي شركات المحمول في مصر سببه تراجع سعادة الموظفين.
هذه الحالات ليست يعد فردية بل هي جزء من تراجع في اندماج الموظفين العرب مع مؤسساتهم وفقاً لدراسة جالوب الأخيرة والذي أكد أن الدول العربية جاءت في ذيل القائمة عالمياً من حيث التفاعل الوظيفي، بنسبة لم تتجاوز 14٪ فقط. والمقلق أكثر أن دولاً محورية مثل مصر والسعودية تعاني من فجوة واضحة بين الموظف ومكان العمل. دراسات محلية أشارت إلى أن كثيراً من الموظفين يشعرون بالانفصال العاطفي عن بيئاتهم الوظيفية، ما ينعكس في معدلات استقالة مرتفعة، وتراجع ملحوظ في الولاء المؤسسي.
واليوم تؤكدها دراستان حديثتان – إحداهما في مصر والأخرى في الإمارات – قدّمتا إجابة علمية دقيقة: لا يكفي أن تدير المواهب وتمنح الرواتب؛ بل يجب أن تصنع بيئة تجعل الموظف سعيداً.
الرسالة واحدة
الدراسة المصرية، التي صدرت في يوليو/تموز 2025 عن المعهد العالي للعلوم الإدارية، استهدفت 359 موظفاً من شركات المحمول، ووجدت أن إدارة المواهب – من تدريب، وتطوير، وتوظيف ذكي – لا تحقق نتائج حقيقية ما لم تكن مدعومة بسعادة وظيفية يشعر بها الموظف.
أما الدراسة الإماراتية، التي أعدّها باحثون إماراتيون في جامعة ماليزية، فركّزت على قطاع النفط والغاز. وكانت نتيجتها أكثر دقة: سعادة الموظف النفسية هي العامل الأقوى في رفع الأداء وتقليل نية الاستقالة، حتى أكثر من الرضا الوظيفي التقليدي (كالراتب والمزايا).
هنا تتضح الحقيقة التي تغفلها كثير من إدارات الموارد البشرية في العالم العربي: الموظف قد يكون موهوباً، مدرباً، وراضياً عن أجره... لكنه سيغادر إذا لم يشعر بالراحة، والتقدير، والمعنى في ما يفعله.
ما معنى "سعادة الموظف"؟
السعادة هنا لا تعني الجلسات الترفيهية أو الاحتفالات الدورية. الدراسة المصرية استخدمت نموذج (PERMA) لتحديد أبعاد السعادة الوظيفية، وهي:
- المشاعر الإيجابية: التفاؤل، والرضا، والقدرة على مواجهة الأزمات بروح إيجابية.
- الاندماج بالعمل: أن يشعر الموظف أنه جزء حقيقي من القرار والتنفيذ.
- العلاقات الإيجابية: الدعم المتبادل داخل الفريق، وغياب التوتر والعزلة.
- المعنى في العمل: أن يشعر الموظف أن عمله يخدم هدفاً أكبر من مجرد راتب.
- الإنجاز: أن يرى أثر جهده، ويُكافأ عليه بإنصاف.
أما الدراسة الإماراتية، فركّزت بشكل خاص على البُعد النفسي: الموظف الذي يشعر بالاستقرار النفسي والاحترام والطمأنينة… هو من يبقى وينتج.
إذا كنت مهتماً بمتابعة المزيد من أفكار الدكتور حمود المحمود، اشترك في نشرته البريدية الموجهة للمدراء العرب والطامحين للقيادة، سجل على الرابط من هنا لتصلك النشرة عند انطلاقها.
التحديات في بيئاتنا العربية
للأسف، أغلب بيئات العمل العربية تفتقر إلى هذه العناصر. في مصر، أشار الباحثون إلى تحديات حقيقية، منها غياب الدعم النفسي، ضعف التدريب، والإحساس بعدم التقدير. وفي الإمارات، رغم تقدم بيئة العمل مادياً، فإن غياب الدعم العاطفي داخل المؤسسة لا يزال سبباً في تسرب الكفاءات بحسب الدراسة.
السبب؟ غالباً ما يُنظر إلى سعادة الموظف كأمر "ثانوي" أمام الأولويات التشغيلية، رغم أن البيانات تُثبت عكس ذلك.
خلاصة عمليّة
من السهل على المدير أن يصمم برنامجاً لتطوير المهارات، لكن الأصعب أن يصنع بيئة يشعر فيها الموظف بأنه مهم، مسموع، وآمن نفسياً.
الموهبة مثل النبتة: لا يكفي أن تسقيها بالمعرفة... بل تحتاج إلى ضوء التقدير، وهواء العلاقات، وتربة الأمان.
في عالم العمل العربي، إن أردنا فعلاً بناء مؤسسات تنافسية، علينا أن نغيّر السؤال من: كيف نطوّر موظفينا؟ إلى: كيف نجعلهم سعداء؟ لأن الموظف السعيد… هو الذي يبقى، وينتج، ويقود.