إعادة النظر في حجم الشركات ومفهوم التوسع: هل الأكبر دائماً أفضل؟

17 دقيقة
زيادة الحجم
بيبينو دي مار استوديو/ستوكسي

لفترة طويلة، كان يُنظر إلى مفهومي "زيادة الحجم" و"التوسع" باعتبارهما الهدفين النهائيين في قطاعي الشركات والشركات الناشئة. يعتقد الكثيرون ضمنياً أن التوسع دلالة على النجاح وأن عدم القدرة على التوسع دلالة على الفشل. على سبيل المثال، نعرف رائد أعمال أسس شبكة اجتماعية شهيرة، ولكن لأنها لم تصبح واحدة من الشبكات الاجتماعية الكبرى فقد رأى لفترة من الوقت أنها فاشلة، على الرغم من أنها تدر ملايين الدولارات من الإيرادات وتجمع مجتمعات تستمتع جميعها بالنشاط نفسه. وعلى نحو مماثل كتبنا عن التجربة التي أدت إلى إنشاء شركة رينت ذا رانواي (Rent the Runway)، لكن قدرة هذه الشركة على التوسع كانت محدودة بسبب اعتمادها بطبيعتها على استئجار الأصول المادية، ومن ثم فقد رفض البعض هذا المثال على اعتبار أن الشركة لم تتوسع فعلياً.

على الرغم من أننا جميعاً نفهم أسباب هذه الانتقادات، فإنها ليست في محلها تماماً، لكن هل يمكننا أن نوضح لماذا لا يعدّ التوسع دلالة على النجاح دائماً؟ هذا ما تمكن البعض من فعله، مثل الاقتصادي الشهير إرنست فريدريش شوماخر في كتابه "كل صغير جميل" (Small Is Beautiful). ثمة عيب جوهري في مفهوم التوسع لكن إيضاحه صعب في مواجهة المفهوم القائل إن التوسع يعني النجاح، وإذا درسنا جذور التوسع ، فقد نتمكن من تحديد ما أغفله المفهوم المتعارف عليه في هذا الخصوص.

النظرة التقليدية للتوسع

يعتمد العديد من أفكارنا حول التوسع على الأفكار الاقتصادية الأساسية التي عبر عنها آدم سميث بطريقة سلسة وواضحة ومقنعة في كتابه "ثروة الأمم" (The Wealth of Nations)، مثل تقسيم العمل والتخصص. يبدأ سميث هذا النص بوصف مصنع دبابيس في فرنسا، حيث يزعم أن تقسيم العمل أدى إلى كفاءة غير مسبوقة وازدياد إنتاج المصنع مع توسعه. في مثال سميث، يسحب عامل سلكاً لإنشاء جسم الدبوس، ويضرب عامل آخر رأس الدبوس بالمطرقة، وهكذا دواليك، وبذلك ساعد استخدام تقسيم العمل على إنتاج دبابيس أكثر بكثير مما يمكن لعامل واحد أن ينتجه بمفرده. إن فوائد هذا النهج واضحة في المثال، وكلما كان المصنع أكبر كان ذلك أفضل.

ولكن ثمة مفارقة مفاجئة في القصة، ومن ثم في الفكر الاقتصادي الأساسي الذي تشكله، ولها تداعيات مهمة: فآدم سميث لم يزر مصنع الدبابيس الذي يبني عليه حجته قط، والواقع أنه لم ير سوى مثال توضيحي في موسوعة دينيس ديدرو، ولكن ديدرو لم يزر المصنع قط أيضاً؛ فقد كتب المقال في موسوعته الفيلسوف ميكائيل ديلاير الذي لم يزر المصنع بدوره، بل كتب مقاله استناداً إلى مثال توضيحي، لذا فإن أحد مبادئنا الاقتصادية الأساسية يستند في جوهره إلى معرفة غير مباشرة نقلها 4 أشخاص على الأقل.

بالنظر إلى هذه الحقيقة، لنا أن نتساءل إذا كانت ثمة نقطة ما قد فاتت آدم سميث، ولمعرفة ذلك فقد قررت أنا وزميلتي في التأليف سوزانا فور، وخبير الاقتصاد بجامعة أوكسفورد السير جون كاي، زيارة آخر مصنع للدبابيس موجود في فرنسا بعد عدة قرون من ذلك التاريخ، وكان عدد العاملين فيه مماثلاً تقريباً لعدد العاملين في المصنع الذي تحدث عنه سميث دون التطرق إلى التفاصيل، إذ قال: "لقد رأيت مصنعاً صغيراً من هذا النوع حيث كان يعمل 10 رجال فقط".

إعادة النظر في مفهوم التوسع

يقع المبنى القديم في نقطة منخفضة بين تلّتين، حيث كانت تستخدم مياه النهر في تشغيل الآلات، ثم تحولت إلى الكهرباء واستبدلت لاحقاً بآلات أخرى تتضمن مستوى أعلى من الأتمتة. يعمل في المصنع اليوم بضعة عمال معظمهم من العمال المهرة الذين يتولون صيانة الآلات أو أداء العديد من المهام التي لا يمكن للآلات أداؤها. عندما رأينا هذا المصنع عرفنا أن ثمة دروساً حول تقسيم العمل قد فاتت سميث والذين نشؤوا على مبادئه وعلى فكرة مزايا التوسع غير المحدودة.

أولاً، يزدهر العمل المعاصر باتباع نهج التفكير التكاملي الذي يتجاوز الحدود التقليدية ويخلق مزايا تتجاوز تلك المنسوبة إلى المفاهيم البسيطة لتقسيم العمل والتخصص، أي أن الآلات التي تملأ المصنع اليوم طورت لتصنيع الدبابيس ولكنها تعتمد على المعرفة في مجالات متنوعة، ومن ذلك الهندسة الميكانيكية وعمليات التصنيع وديناميكا الحرارة وأنظمة النقل الفراغي والكثير من المجالات الأخرى التي كان يجب الجمع بينها لإنشاء مصنع الدبابيس الحديث. علاوة على ذلك، يتمتع العمال الأعلى قيمة في المصنع اليوم بمعرفة واسعة بالإلكترونيات والأتمتة والمواد والمجالات الأخرى اللازمة لصيانة الآلات. وأصبح، أو سيصبح، العمل المقسم والمخصص الذي وُصف في مصنع الدبابيس محصوراً بالآلات أو الذكاء الاصطناعي، في حين يصعب استبدال الإنسان بالآلة (مثل الذكاء الاصطناعي) في بعض الوظائف، إذ تتطلب مهارات فريدة وغالباً ما تنطوي على تكامل وتعاون بين عدة مجالات.

ثانياً، لم يزر سميث المصنع قط، ولذلك فإنه لم يفكر في السلبيات المحتملة لحصر البشر في تخصصات محددة مثل الآلات. كان آدم فيرغسون، الذي عاصر سميث، قلقاً بشأن ما قد يحدث عندما نخفض مهارات الناس ونعاملهم مثل الآلات، وكتب عن الجوانب السلبية لذلك في مقاله "تاريخ المجتمع المدني" (The History of Civil Society): "ثمة العديد من المهام الفرعية في كل ممارسة فنية وفي تفاصيل كل قسم لا تتطلب أي قدرات، أو قد تؤدي إلى الحد من الإبداع الفكري". لا يفقد من يتولون هذه المهام ما يميزهم عن الآلات فحسب، مثل الإبداع والتفكير التكاملي وما إلى ذلك، بل يصبحون أكثر عرضة للاستبدال ويعانون حالة من الإحباط. يقول ستادز تيركل في افتتاحية كتابه الإثنوغرافي الذي حظي بالتقدير "العمل" (Working): "لمّا كان هذا الكتاب يتحدث عن العمل، فهو يتحدث بطبيعته عن العنف الروحي والجسدي الذي يسببه". لقد تذكرت مؤخرا رحلة بسيارة أجرة في سان فرانسيسكو، فبينما كنا نمر بسيارة أجرة ذاتية القيادة من إنتاج شركة وايمو (Waymo)، تمتم السائق قائلا: "حسناً، هذا هو بديلي"، فماذا يحدث عندما يُستبدَل جيل من الناس الذين اكتسبوا مهارات بسيطة ليصبحوا سائقين؟

ثالثاً، لا شك في أن التوسع له فوائد في ظل ظروف معينة، لكننا نحتاج أحياناً إلى مقاييس أخرى للنجاح. لقد أشار منتقدو التوسع إلى أن المبالغة في العائدات المترتبة على التوسع كثيراً ما تستخدم لتقويض نتائج مهمة أخرى مثل الرفاهة. وكما أشار السير جون في موضع آخر إلى كلام آدم سميث: "لا يوجد دليل يذكر على أن المصانع الأكبر حجماً أدت إلى زيادات ملحوظة في الإنتاجية، لن تكون هذه آخر مرة تتعارض فيها آثار التوسع السلبية على العنصر البشري مع مكاسبه التقنية المبالغ فيها".

ما هي هذه الآثار السلبية؟ على سبيل المثال ثبت أن التوسع في الزراعة يؤدي إلى تحسين الكفاءة؛ لكن كثيرين، ومنهم العاملون في مشاريع الزراعة الكبرى، يحذرون من آثاره السلبية البعيدة الأمد على الصحة ومستقبل الكوكب. فاليوم تحتاج إلى تناول ما بين 8 و21 برتقالة للحصول على العناصر الغذائية التي كان أجدادك يحصلون عليها بتناول برتقالة واحدة، لأن الأسمدة والمبيدات الحشرية جردت التربة من مجموعات الكائنات المجهرية التي تمنح الثمار العناصر الغذائية والنكهة. يعلم أي شخص تذوق ثمار الفراولة والطماطم المنتجة بكميات كبيرة أن مذاقها ضعيف جداً مقارنة بمثيلاتها الأعلى جودة المزروعة في تربة سليمة. وفي سعينا إلى التوسع، نجحنا في زراعة الأغذية بكميات أكبر وتكلفة أقل ويمكن شحنها إلى مناطق بعيدة ولكنها ليست لذيذة، فكيف يمكننا أن نناقش هذه المقاييس في مجالات الأعمال كافة وليس الغذاء فقط؟

بدائل التوسع

عملنا مؤخراً مع مطعم بلو هيل (Blue Hill) في مركز ستون بارنز (Stone Barns) للأغذية والزراعة، وهو أحد أفضل المطاعم في العالم، لنفهم محاولته لإعادة تصميم قطاع الأغذية من أجل دعم الحياة والتغذية على المدى الطويل. ما هو التحدي الأكبر الذي يواجهه بلو هيل لجذب الانتباه إلى نهج جريء مثل نهج شركتي سبيس إكس أو تيسلا؟ يشكك المنتقدون الذين يرفضون الفكرة على الفور في إمكانية التوسع، ومن المفارقات أن التحدي الذي واجهه مطعم بلو هيل يتمثل في إعادة ابتكار قطاع الأغذية بحيث يصبح أصغر بدلاً من أن يتوسع. فالبيئة التي تتنوع فيها المحاصيل والحيوانات والأنظمة تحقق توازناً بيئياً أفضل وتنتج أغذية أغنى بالعناصر الغذائية وتتسم بقدرتها على الاستمرار على المدى الطويل، إذاً ما هي البدائل المتاحة لوجهة النظر التقليدية بشأن التوسع؟ فيما يلي الأفكار التي يمكن للقادة أخذها في الاعتبار عند تحديد دوافعهم لاتخاذ مسار معين.

توسيع النموذج بدلاً من توسيع الشركة

خلال عملنا مع المعنيين في بلو هيل لمساعدتهم على إيجاد طريقة للتعامل مع مجتمع الأعمال الذي يستصعب فهم البدائل المتاحة لتوسع الشركات، سألنا: هل يمكن توسيع النموذج بدلاً من الشركة؟ أي، إذا ابتكر شخص ما فكرة أو نموذج عمل يؤثر تأثيراً إيجابياً على العالم ويحسنه، فهل يمكن أن يكون لذلك قيمة مساوية أو حتى أعلى، من توسيع شركة كبيرة لعملياتها لتحقيق الهدف نفسه؟ على سبيل المثال، يرغب الفريق في بلو هيل بنشر نماذج اقتصادية جديدة للمزارع الصغيرة السليمة بيئياً، من خلال إنشاء مصادر جديدة للقيمة الاقتصادية لصغار المزارعين، مثل طرح قطع لحم فريدة في الأسواق تزيد من قيمة الأبقار التي تتغذى على العشب، ومنتجات جديدة مثل نقانق الحبوب التي تسمح بالاستفادة من الحيوان بأكمله ما يعزز من قيمته، وعمليات جديدة مثل تحسين صحة الأبقار الحلوب التي لم تعد تنتج الحليب للحصول على لحوم ذات جودة عالية منها بدلاً من اللحوم المنخفضة الجودة، وتشجيع استهلاك الحبوب التي تدعم التربة ضمن نظام زراعي قائم على تناوب المحاصيل، مثل الحنطة السوداء.

بهذه الطريقة، يوسع الفريق نطاق النموذج من خلال نشر معرفته ويضع أساساً للمجتمعات الناجحة، فالمزارع الصغيرة ليست سليمة بيئياً فحسب بل إنها تخلق أيضاً مجتمعات أقوى تتمتع برفاهة أعلى. وحتى الآن، يحقق مطعم بلو هيل نجاحاً متزايداً، فقد نشر على سبيل المثال جيلاً جديداً من الخضراوات التي يعمل على تهجينها خصيصاً لتعزيز المذاق، وهي تدعم المزارع الصغيرة لأنها تسمح لها بالتميز في السوق، وتشجع على تناوب المحاصيل وعلى تناول الطعام الصحي، كما أنها تباع الآن في متاجر هول فودز. وعلى هذا النحو، يسعى مطعم بلو هيل إلى نشر الفكرة وليس التوسع بالطريقة التقليدية.

توسيع الأثر بدلاً من توسيع الشركة

وعلى نحو مماثل، زرنا مصنع هيويت دينيم (Huit Denim) الذي أعاد تنشيطه رائد الأعمال ديفيد هيات. فبعد مسيرة مهنية ناجحة في مجال الإعلان وإنشاء العلامات التجارية للملابس، انتقل هيات إلى الساحل الغربي لويلز، حيث اكتشف أنه كان ذات يوم المقر الرئيسي لتصنيع بناطيل الجينز في المملكة المتحدة. ولكن القطاع انهار مع نقل الشركات عملياتها إلى مواقع خارجية ذات عمالة منخفضة. أطلق هيات محاضرات دو (Do Lectures)، وهي مؤتمر ملهم لرواد الأعمال، ثم أطلق علامة هيويت دينيم (Huit Denim)، لإنتاج الجينز العالي الجودة تحت شعار "جينز يدوم طويلاً" في محاولة لإعادة عملية التوظيف في المنطقة.

بعد تحقيق نجاح كبير، طلب الكثيرون من هيات التوسع في خطوط إنتاج أخرى، ولكن في مؤتمر للمبدعين والرياديين عقد حديثاً، تحدى هيات الحاضرين سائلاً: هل يمكن للشركة أن تتوسع بطرق أخرى غير زيادة الحجم؟ على سبيل المثال، من حيث الأثر؟ منذ ذلك الوقت، أصبحت لدى شركة هيويت دينيم أولويات تتمثل في معاملة الموظفين معاملة حسنة، والحد من استخدام المواد البلاستيكية الدقيقة، والتوجه نحو التصنيع المستدام.

توسيع القيم الإنسانية بدلاً من توسيع الشركات

غالباً ما يجد القادة أنفسهم تحت ضغط المطالبة بالنمو، لكن هل هذا هو المسار الصحيح لموظفيهم ومجتمعاتهم؟ قبل فترة من الزمن، حضر عالم الأحياء التطوري الشهير ستيوارت كوفمان مؤتمراً كبيراً لعلماء الاستراتيجية، وتحدى الحضور سائلاً: "متى ستتساءلون عن الطريقة التي يمكن أن يخدم بها الناتج المحلي الإجمالي البشرية بدلاً من أن تخدم البشرية الناتج المحلي الإجمالي؟".

يلاحقنا سؤال كوفمان حتى يومنا هذا، لأنه تطرق إلى أبعاد أخرى يمكن أخذها في الاعتبار عند تعريف التوسع، فما هي الظروف التي تحقق لنا السعادة وتعزز رفاهة المجتمع وتساعد في الحفاظ على البيئة؟ وكيف يمكن أن يبدو عالمنا إذا نجحنا في تحقيق توازن بين هذه الجوانب؟ وكما كتب الخبير الاقتصادي ريتشارد تاوني ذات يوم: "يتجه النظام الاقتصادي القائم والعديد من المشاريع التي تهدف إلى إصلاحه نحو الفشل بسبب إهمال حقيقة بديهية، وهي أن لكل إنسان كرامته وقيمته الذاتية بصرف النظر عن وضعه الاجتماعي، ولن تعوضه أي زيادة في الثروة المادية عن فقدانه حريته واحترامه لذاته".

إذا تمكنا من توسيع مفهوم النجاح والتوسع، فقد نخلق مساحة أكبر لاقتصاد صحي أكثر يحقق سعادة أكبر. في بعض الأحيان نظن أن حدوث أمر ما من تلقاء نفسه -بفعل ما يطلق عليه آدم سميث اسم "اليد الخفية" (Invisible Hand)- يجعله إيجابياً؛ لكن السرطان يكبر من تلقاء نفسه، والتوسع في بعض المواضع منطقي لكنه غير منطقي في مواضع أخرى. ربما نحتفل في يوم من الأيام بنجاح شركة مثل هيويت دينيم التي تغير طريقة التفكير في القطاع أو مؤسسة مثل بلو هيل في مركز ستون بارنز التي تعمل على توسيع نطاق نموذج يخلق مزارع صحية أكثر وتنتج أغذية لذيذة، ونعترف بأن هذا النجاح مساوٍ لنجاح شركة تكنولوجيا أو ربما يفوقه.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2025.

المحتوى محمي