تعرض دراسات الحالة التي تصيغها هارفارد بزنس ريفيو على هيئة قصص خيالية لمشاكل يواجهها القادة في الشركات الحقيقية وتقدّم الحلول التي يراها الخبراء. تستند هذه الحالة إلى دراسة حالة تُدرس في كلية برايس للأعمال في جامعة أوكلاهوما.
حدّق شون لويس، الرئيس التنفيذي لشركة فاليا إنيرجي، في شاشة الرسائل على هاتفه وراجع الرسالة التي انتهى للتو من كتابتها إلى جوان فلوريس، نائبة الرئيس الأولى المسؤولة عن إدارة شؤون المكتب. كان نص الرسالة يقول: "لا ترسلي مذكرة "العودة إلى المكتب!". كان هو وجوان، ولعدة أسابيع، يخططان لكيفية إعادة 3200 موظف إلى المكتب الرئيس لشركة النفط والغاز التي تعمل انطلاقاً من مدينة أوكلاهوما سيتي. فقبل أكثر من عامين ونصف العام، وتحديداً في بداية جائحة كوفيد-19، كان هؤلاء الموظفون (الذين يشكلون ما يقرب من 65% من القوى العاملة في الشركة) قد بدأوا ينجزون مهامهم عن بعد. ورغم أن بعضهم كان قد عاد إلى المكتب طوعاً، إلا أن شون، وخلافاً لمنافسيه، لم يكن قد فرض على جميع الموظفين العودة إلى المكاتب. أما الآن، وبما أن اللقاحات والعلاجات باتت متاحة على نطاق واسع، فقد بدا أن الوقت قد حان لإعادة موظفي المقر الرئيس للشركة إلى مكاتبهم. لا شك في أنهم كانوا أشخاصاً منتجين خلال الجائحة، لكن شون كان يخشى من أن فاليا لم تكن تحقق الاستفادة الكاملة من إمكانية التعاون بين الموظفين، ما يعني في المحصلة خسارة بعض الابتكار.1
كما كان يشعر بالقلق أيضاً من تنامي الاستياء في أوساط عمّال الحفارات وحقول النفط الذين أمضوا تلك الفترة كلها في الميدان. كان العديد منهم يشعر بالاشمئزاز من "أصحاب البدلات الرسمية" الذين يعملون في المكتب الرئيس للشركة. فمعظمهم كان قد حصل على اللقاح، لكن بعضهم كان يعتقد أنه كانت هناك مبالغة في الحديث عن حدة الجائحة، ولم يستوعبوا لماذا استمر موظفو المكتب يعملون عن بعد طوال هذه المدة. كانت الطواقم الميدانية قد بدأت تتذمر من هذه الحالة التي تمثّل ازدواجية في المعايير، وخاصة أن هذه الطواقم كانت تعمل في أغلب الأحيان في عرض البحر أو في الميدان لأسابيع في وقت من الأوقات، في حين كان زملاؤهم يتمتعون برفاهية البقاء في منازلهم مع عائلاتهم.
لم يكن شون وجوان يتوقعان أبداً أن تعود ترتيبات العمل إلى "الوضع الطبيعي" الذي ساد قبل الجائحة. لكنهما أرادا التوصل إلى طريقة تسمح بالموازنة بين المرونة في العمل والتعاون الذي يحصل ضمن المكتب. وبعد محاولتين زائفتين للبدء من جديد، استقر بهما الرأي على حل هجين يتمثل في اشتراط عودة جميع الموظفين إلى المكتب لمدة أربعة أيام على الأقل في الأسبوع، مع السماح للموظفين بالتقدم للحصول على استثناءات. طوال هذه العملية، كانت جوان تتحلى بالصبر وتتعامل مع الوضع بروح رياضية، لكن شون لم يكن واثقاً كيف سيكون رد فعلها على هذا الانقلاب المفاجئ الحاصل في اللحظة الأخيرة. وقد تنفس الصعداء عندما وصله ردّها: "بالتأكيد يا شون. كان من المفترض أن أرسل المذكرة عند العاشرة من صباح الغد. سألغي العملية. هل تريد أن نناقش المسألة في الصباح؟" أرسل شون رمزاً تعبيرياً على شكل إبهام مرفوع دلالة على موافقته على طلبها، لكنه شعر برعشة في جسده. فقد أحسن وكأنهما عادا إلى نقطة الصفر.
إعادة النظر في الخطة
"ما الذي حصل؟" سألت جوان شون عندما اجتمعت به بالقرب من عربات الطعام في حديقة سيسورتيل. "لقد بعث لي جيم برسالة إلكترونية"، أجاب شون مشيراً إلى جيم بانك مدير الموارد البشرية. "لاحظ أن شخصاً ما قد نشر رابطاً في مجموعة الدردشة الخاصة بالشركة يقود إلى سؤال ضمن استطلاع رأي. كان نص السؤال يقول: لنفترض أن العودة إلى المكتب أصبحت إلزامية، فما الذي ستفعله؟ كان بوسع الناس الاختيار بين ثلاث إجابات محتملة هي: (1) ليس لديّ وقت للرد على سؤال الاستبيان لأنني أعمل على تحديث سيرتي الذاتية؛ و(2) أنا لديّ وظيفة جديدة وأنتظر الالتحاق بها بعد أن تدفع شركتنا العلاوات؛ و(3) سأنتقل إلى هاواي لممارسة رياضة التزلج على الماء".
"ما خطبك يا شون. هذا لا يعني شيئاً"، أجابته جوان. "هذه مجرّد مزحة".
"ربما تكون مزحة"، قال شون. "لكنها دفعتني إلى التفكير في الأمر ملياً. لم يسبق أن كان هناك هذا القدر من النقص في اليد العاملة في السوق، والعديد من الناس باتوا الآن يعشقون العمل من المنزل. فماذا لو كانوا يفضّلون ترك عملهم على قبول السياسة الجديدة؟2
ليس بمقدورنا تحمّل هذا الخطر. أنا أحاول إدخال فاليا إلى القرن الحادي والعشرين من خلال زيادة اعتمادنا على التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي ومن خلال تنويع أنشطتنا بعيداً عن الوقود الأحفوري. ويمكن لمسعانا هذا أن يبوء بالفشل إذا ما خسرنا أفضل موظفينا ولم نكن قادرين على توظيف غيرهم".
"تعلم أننا نظرنا في أساليب أخرى لإعادة الموظفين إلى المكتب الرئيس للشركة"، قالت جوان مذكّرة إياه بنقاشاتهما المطولة.3 فعندما كانت هي وشون قد بدآ بوضع خطة، كانت وجهة نظرهما الأولى تقول باشتراط حضور الجميع إلى المكتب لمدة يومين أو ثلاثة أيام في الأسبوع. لكن الشركة كانت قد قلّصت مساحة مكاتبها في بداية الجائحة، حيث أجّرت جناحاً في مبناها إلى شركة ناشئة متخصصة بالفحوص الطبية. ولكي تكون فاليا قادرة على استيعاب الموظفين العائدين ضمن المساحة المتبقية المتاحة في المكتب، كانت جوان قد اقترحت نظاماً للتناوب والمداورة في الجلوس على المكاتب بحيث يكون بمقدور الموظفين حجز المكاتب عندما يحتاجونها. لكن الفكرة كانت قد قوبلت بمقاومة فورية، حيث إن العديد من الموظفين أرادوا أن يحظوا بأماكن عمل أكثر ديمومة.
اقترحت جوان بعدها إعطاء الموظفين أماكن أو مكاتب مخصصة لهم على أن تكون مشتركة بينهم، وإنشاء نظام إلكتروني يتيح للجميع رؤية مَن مِن الزملاء سيعمل من مقر الشركة في أي يوم من الأيام. لكن بعض الموظفين اعترضوا على فكرة التشارك بأماكن عملهم مع الآخرين. في الحقيقة، كان عدد من رؤساء الأقسام قد أخبروا شون أنه في حال كان العمل من المنزل لبضعة أيام في الأسبوع يعني فقدانهم لمكاتبهم الخاصة، فإنهم سيفضّلون حينها القدوم إلى المكتب كل يوم. كما كان الموظفون قد أشاروا إلى أن فاليا ستخسر منافع التعاون العفوي دون وجود جدول دوام مشترك للجميع.
دفعت هذه المخاوف شون وجوان إلى تعديل خطتهما. فقد تمكنا من إنهاء عقد الإيجار مع المستأجر، وخططا لإعادة جميع الموظفين إلى المكتب ليداوموا أربعة أيام في الأسبوع. كانا كلاهما واثقين من سلامة قرارهما، حتى اطلع شون على نتائج الاستطلاع الزائف الذي نشره الموظفون. "لن نكون قادرين على إرضاء الجميع"، قالت جوان. "من المشروع أن نشعر بالقلق إزاء استقالة بعض الأشخاص لأننا نجبرهم على العودة. ولكن يجب علينا أيضاً أن نأخذ بحسباننا ما إذا كان ترك الموظفين يعملون عن بعد، ولاسيما الموظفون المعيّنون حديثاً وصغار السن منهم، سيقودهم إلى فشلهم في العمل بسبب إهمالنا لهم وعدم إعطائهم الاهتمام الكافي".4
كان شون يفخر على الدوام بأنه على صلة مباشرة بالعاملين، وتحديداً الجيل القادم منهم. فلسنوات طويلة كان خبراء الأعمال ينصحون قطاع الطاقة بالتحضير للتغيير الكبير المتوقع الذي سيطال طواقم العمل فيه نتيجة موجة التقاعد الكبيرة التي من المنتظر أن تحصل فيه. ورغبة من شركات النفط في اجتذاب العاملين الشباب، وتحديداً من لديهم مهارات هندسية ومهارات فنية أخرى مطلوبة بشدة، فقد كانت تحاول أن تتخلص من السمعة السيئة الملتصقة بها بوصفها "تعمل بأساليب عفا عليها الزمن" وجزءاً من قطاع "ملوّث". وفي فاليا، كان شون يؤكد على عملية التحول الرقمي في الشركة وجهودها الرامية إلى التقليل من انبعاثات الكربون وغاز الميثان والتخلص من عمليات حرق الغاز في الجو، وهي تقنية اتهمت بأنها ملوثة للجو وتتسبب بتسرب غاز الميثان في مواقع الحفارات الصغيرة. وتحت قيادته، تفاخرت الشركة أيضاً بالتزامها بتنويع قواها العاملة، ودعم برامج الشمول والإنصاف في المجتمع المحلي.
ثم أردفت جوان قائلة: "أقصد ما الذي سيحصل مع مرور الوقت إذا لم نجتمع معاً حضورياً؟ ما يثير قلقي هو أننا سنخسر أشياء من قبيل الثقة، والعمل الجماعي، ونقل المعارف، وحس الانتماء".
فردّ عليها شون قائلاً: "أنا لا أقول إن الأمر لن يحصل أبداً. وإنما قصدت أننا لن نطبقه الآن. فنحن لسنا مضطرين إلى التسرع في هذه الخطوة". جلس الاثنان في صمت لبعض الوقت قبل أن تعاود جوان الكلام من جديد قائلة: "ينتابني الفضول وأود أن أعرف أي الإجابات حظيت بالشعبية الأكبر؟" فرد شون بابتسامة باهتة قائلاً: "التزلج على الماء في هاواي".
ضغوط خارجية
في وقت لاحق من ذلك اليوم، تلقّى شون اتصالاً من دين جونسون، رئيس غرفة التجارة المحلية في المنطقة.
"كان لدي شعور يا دين أنك قد تتواصل معي".
"مرحباً يا شون. تبدو بصحة جيدة. وهذا يفاجئني لأنه تناهى إلى سمعي أنك قد جننت وقررت إلغاء عودة موظفي فاليا إلى المكتب الرئيس".
"لم ألغِ الخطة"، قال شون مقهقهاً. "أجلتها فحسب".
"حسناً، تعلم مدى خيبة أملي، وأنا هنا أتحدث باسم مجتمع سيدات ورجال الأعمال في مدينة أوكلاهوما"، قال دين ردّاً على كلام شون. "فشركتكم من كبار أصحاب العمل هنا وموظفوك هم الزبائن الأساسيون لعشرات الشركات الصغيرة".5
"أعرف ذلك يا دين". كان حضور فاليا في المدينة قد ساعدها على الخروج من حالة الركود التي كانت قد أصابتها، ودفعها لتصبح واحدة من أكبر 25 مدينة في الولايات المتحدة. ثم أكمل شون كلامه قائلاً: "لكنني يجب أن أفكر في استدامة قواي العاملة على المدى البعيد. ولن يكون أحد مسروراً إذا استقال جميع الموظفين من شركتي وأخذوا التعويضات المعروضة عليهم للانتقال إلى تولسا". كان يشير بكلامه إلى الحوافز النقدية التي تقدّمها المدينة المجاورة لإغواء الموظفين الذين يعملون عن بعد للانتقال إليها.
"أتفهم وجهة نظرك، لكننا جميعاً في غرفة التجارة والبلدية في مدينة أوكلاهوما ستي غير واثقين ما إذا كانت المدينة قادرة على تحمّل الصدمة إذا ظلت مكاتبكم خاوية على عروشها". كان الرجلان يعيان تماماً القصة التي نُشِرت مؤخراً في صحيفة وول ستريت جورنال وأشارت إلى أن العمل عن بعد قد أصبح يشكل خطراً ائتمانياً بالنسبة للعديد من المدن بسبب انخفاض القواعد الضريبية في المناطق الواقعة وسط تلك المدن. "مجتمعك بحاجة إلى أن تعيد موظفيك إلى العمل في المكتب".6
المزيد من الآراء
في اليوم التالي، جمع شون كبار القادة في شركته عبر اجتماع افتراضي وأخبرهم أنه ينظر في فكرة الاستمرار في العمل من أي مكان خلال الأشهر الثلاثة التالية على الأقل. قال إنه يقدّر رغبة الجميع بالحصول على إجابة شافية بخصوص خطة العودة إلى المكتب لكنه أخبرهم أن يفضّل الانتظار والتوصل إلى الحل المناسب على أن يكون مخطئاً. فظهرت على الشاشة أمامه مجموعة من أيقونات الأيدي المرفوعة لأشخاص يطالبون بالكلام.
"مازلنا نسدد القروض على مبنانا وندفع المال لإبقائه جاهزاً"، قال جيك براون مدير المحاسبة. "يجب على الأقل أن نسعى إلى الاستفادة منه بشكل أكبر. ربما يجب علينا أن نستمر في تأجير المكاتب إلى شركة الاختبارات الطبية، أو أن نؤجر بعض المساحات لإقامة المناسبات أو عقد المؤتمرات".
"أولويتي الأولى الآن هي الموظفون"، قال شون. "ولكن إذا كانت هناك طريقة للحصول على الإيرادات من المكاتب الفارغة دون تسليمها إلى شركة أخرى، مع الاحتفاظ بالقدرة على تحديد موعد العودة، فكلّي آذان صاغية".
طرحت جانيت ستريتيكوس، مسؤولة الشؤون الإدارية في المكتب فكرة أخرى: "العديد من الموظفين العاملين تحت إمرتي كانوا قد عملوا عن بعد لفترة طويلة من الزمن، لكننا نجتمع مرة كل ثلاثة أشهر من أجل التدريب، وتعزيز الأواصر، وتبادل الأفكار بخصوص أفضل طرق العمل. فلماذا لا نسمح للمدراء بإلزام الموظفين بالقدوم إلى المكتب خلال أيام محددة من أجل العمل على مشاريع تتطلب التعاون؟"
"فكرة عظيمة"، قال شون. "قد تكون هذه خطوة أولى جيدة". ثم جاء دور بيل فرينش، مدير قسم الجيولوجيا بالكلام فقال: "نحن نحاول تعزيز قوانا العاملة وتعيين جيل جديد من الموظفين. وهذا يتطلب بناء ثقافة جديدة. فكيف بوسعنا فعل ذلك عندما لا يعرف الناس بعضهم البعض؟"7
فرد عليه شون قائلاً: "هذا بالضبط ما يقضّ مضجعي. لا بد أن نضمن وجود الظروف التي تعزز الأواصر بيننا. لكن الموظفين الجدد لا يريدون أن يُجبروا على القدوم إلى المكتب".
"إذا راعيتموهم وأفسدتموهم بالدلال فإن طواقمي الميدانية لن تشعر بالرضا"، قال تيد بيترسين مدير شؤون عمّال حقول النفط والمواقع البحرية في الشركة معترضاً. "فهم مستاؤون من الظروف الصعبة التي يجدون أنفسهم مضطرين للتعامل معها، في حين يُسمح لموظفي المكتب الأساسي بالعمل من المنزل".
"أرجوا أن تتذكروا أن هذا الوضع غير دائم"، أجاب شون. "وعلى المدى القصير، بوسعنا زيادة الموازنة قليلاً لكي نضيف المزيد من المتعاقدين. وهذا سيوفّر بعض المرونة للمتفرغين لدينا لكي يشعروا بإنصاف أكبر".
"لا بأس، ولكن ليس بوسعنا أن نظل في هذه الحالة غير المحسومة إلى الأبد"، رد تيد وفي نبرته شيء من الإحباط. "قد لا نكون واثقين ما هو الشيء الصائب، لكننا مضطرون إلى اتخاذ القرارات الصعبة في وقت من الأوقات".
عند هذه الحد أحس شون أن التوتر يتصاعد، فقرر إنهاء الاجتماع وقال للجميع: "سأجتمع مع جوان قريباً لنناقش الخطة ونتفق على ما يجب فعله. وبينما كان يهم بتسجيل الخروج من الاجتماع لاحظ أن جوان كانت قد أرسلت له رسالة نصية تتضمن وجهاً تعبيرياً ينم عن قلق. فرد عليها قائلاً: "أنا لا أمزح".
ملاحظات على دراسة الحالة
- توصّلت دراسة أجرتها جامعة ستانفورد في 2021 – 2022 وشملت مؤسسة متعددة الجنسيات إلى أنه عندما عمل الموظفون من المنزل لمدة يومين في الأسبوع، تراجعت نسب ترك الوظيفة بمقدار 35%، في حين تناقصت نسبة التغيب بمقدار 12%. لكن دراسة أجريت عام 2020 وشملت أكثر من 61 ألف موظف في مايكروسوفت أظهرت أن الموظفين العاملين عن بعد كانوا أكثر انعزالاً عن أقرانهم في العمل.
- في استطلاع أجراه معهد "آيه دي بي ريسيرتش إنستيتيوت" (ADP Research Institute) عام 2021، قال 64% من العاملين إنهم سينظرون في أمر البحث عن وظيفة جديدة إذا ما طُلِبَ منهم العودة إلى العمل بدوام كامل.
- هل بمقدور صاحب عمل إطلاق برنامج تجريبي أو اختبار أ/ب (A/B) قبل تطبيق برنامج العودة إلى العمل على مستوى الشركة بأكملها؟
- توصّل استبيان لشركة "بي دبليو سي" (PwC) في عام 2020 إلى أن العاملين الذين تقل سنوات خبرتهم عن خمس سنوات هم التواقون تحديداً إلى الدوام في المكاتب، وهم أكثر ميلاً إلى القول إنهم يشعرون بأنهم أقل إنتاجية عندما يعملون عن بعد.
- قبل الجائحة، وبحسب استطلاع قادته جامعة شيكاغو، فإن العاملين الأفراد في بعض مناطق الولايات المتحدة الأميركية أنفقوا 12 ألف دولار إلى 15 ألف دولار سنوياً على الطعام، والتسوق، والترفيه بالقرب من أماكن عملهم.
- هل هناك عدد كافٍ من الموظفين الضروريين لتعزيز ثقافة الشركة؟ ما هي الممارسات والأدوات التي يمكن للشركات استعمالها لترسيخ معايير وقيم مشتركة عندما لا يكون الموظفون موجودين في مكان عمل واحد؟
- هل هناك عدد كافٍ من الموظفين الضروريين لتعزيز ثقافة الشركة؟ ما هي الممارسات والأدوات التي يمكن للشركات استعمالها لترسيخ معايير وقيم مشتركة عندما لا يكون الموظفون موجودين في مكان عمل واحد؟
رأي الخبراء
كيف يجب على فاليا أن تمضي قدماً في خططها المتعلقة بالدوام في المكتب والعمل عن بعد؟
براكين داريل (Bracken Darrell): الرئيس التنفيذي لشركة "لوجيتيك" .(Logitech)
كانت خطوة ذكية من شون أن يثق بما يقوله له قلبه وأن يرجئ تطبيق خطة العودة إلى المكتب.
فإذا ما أرادت فاليا بناء الثقافة الصحيحة في مكان العمل، فإنها يجب أن تحتفظ بعمليات المكتب الأساسي. لكنني لست من المعجبين بالقرارات المُلزِمة. فعوضاً عن أن يلجأ شون إلى فرض جداول الدوام وتحديد أيام عمل الموظفين، ينبغي له التركيز على إيجاد بيئة عمل شديدة الجاذبية بحيث يرغب الموظفون من تلقاء نفسهم بالانضمام إليها. ثم يترك بعدها الخيار لفرق العمل لكي تقرر بنفسها المزيج المناسب من أيام العمل من المكتب ومن خارجه.
يمكن للمؤسسات أن تزيد من جاذبية مكاتبها عبر توفير أفضل الأدوات الممكنة، سواءً قبعات حماية الرأس أو كاميرات الإنترنت، وأماكن العمل المريحة التي تساعد الشخص على تأدية المطلوب منه. فهم بحاجة إلى غرف مصممة بطريقة تسمح للمجموعات الصغيرة بخوض النقاشات والتعاون، وتتضمن مقاعد وثيرة، وإنارة جيدة، وألواح أوراق بيضاء يمكن الكتابة عليها بسهولة. كما يجب توفير قاعات لعقد الاجتماعات مع الزملاء، والشركات، والعملاء، إما شخصياً أو بواسطة التكنولوجيا التي تضمن للأشخاص غير الحاضرين في الغرفة بأن يشعروا بالقدرة على التفاعل والمشاركة. (إفصاح: شركتي تبيع معدات تخص المؤتمرات المرئية وتجهيزات مكتبية). وإضافة إلى ما سبق، يجب أن يتضمن التصميم مساحات صغيرة مغلقة تسمح للناس بإجراء مكالمات هاتفية على انفراد والاختلاء بأنفسهم لإنجاز بعض المهام التي تتطلب التركيز. وبالإمكان حجز بعض هذه المرافق للقلة من الموظفين الذين يختارون القدوم إلى المكتب كل يوم؛ أما بقية المرافق فبالإمكان حجزها بالساعة أو باليوم بواسطة تطبيق هاتفي.
قد يكون من المغري البحث عن حل واحد يرضي الجميع. لكن شون يجب أن يتأنى وأن يكون حذراً. إذ ليس بوسعه إلغاء المرونة التي اعتاد عليها موظفو المقر الرئيس، فضلاً عن أصحاب المواهب الجدد والمتنوعين الذين يريد تعيينهم. ومن نافلة القول إن مؤسسة تريد تقديم نفسها على أنها شركة طاقة تنتمي إلى القرن الحادي والعشرين لا يجب أن تشترط على موظفيها التنقل كل يوم إلى العمل في سياراتهم التي تطلق ثاني أكسيد الكربون في الجو. لذلك فإن التوازن والمرونة أساسيان مثلهما مثل التواصل الواضح.
يجب على شون أن يؤكد لجميع القوى العاملة لديه أن من يعملون في الميدان يظلون هم العناصر الأساسية التي تساعد الشركة على أداء مهامها، وأنهم هم من يجنون رؤوس الأموال التي تحتاجها فاليا لبناء مستقبل جديد. ويجب عليه أن يشرح السبب الذي يجعل المقر الرئيس للشركة في مدينة أوكلاهوما سيتي مكاناً هاماً للتجمع ومركزاً تجارياً في مدينة مزدهرة. كما يجب عليه أن يرسّخ الفكرة التي مفادها أن نجاح الشركة يتوقف على وجود روح تعاونية وعلى مساهمات الجميع.
كاتارينا بيرغ (Katarina Berg): الرئيسة التنفيذية لشؤون الموارد البشرية في "سبوتيفاي" .(Spotify)
يجب على شون أن يحوّل "فاليا إنيرجي" إلى نموذج عمل دائم يسمح للموظفين بالعمل من أي مكان.
لماذا؟ لأن العمل هو شيء تنجزه وليس مكاناً تأتي إليه، ومعظم الرؤساء التنفيذيين، بمن فيهم شون، باتوا أصلاً يقودون قوى عاملة منتشرة وموزعة. ومع نمو الشركات، تبدأ في البداية في الانتشار في غرف متعددة، ثم في طوابق متعددة، وبعد ذلك تنتشر في مناطق زمنية، ودول، وثقافات متعددة. ولدى "فاليا إنيرجي" أصلاً موظفون يتعاونون في مواقع متعددة، لذلك فإن تبنّي نظام العمل الموزع لا يعتبر القفزة الكبيرة التي يمكن للمرء تخيّلها.
أتفهم مبعث حالة التردد الموجودة لدى شون وعدم قدرته على اتخاذ قرار. فشركة "سبوتيفاي" انتقلت إلى نموذج العمل من أي مكان هذا في فبراير/ شباط 2021. ولكن عندما كان الشريك المؤسس دانييل إي كيه قد بدأ بالترويج لهذه الفكرة قبل بضع سنوات، لم أشعر بالارتياح تجاهها، وغالباً ما شعرت برغبة في وضع حد لها. وبطبيعة الحال، كانت الجائحة هي من جعلني أبدل رأيي. فكما هو حال شركات التكنولوجيا الأخرى، انتقلنا جميعاً إلى نمط العمل عن بعد، وأخبرَنا الموظفون أنهم كانوا سعداء بهذه المرونة والاستقلالية اللتين اكتشفوها مؤخراً. لم نكن نرغب بمصادرة هذا الشعور منهم – وأدركنا أننا لم نكن أصلاً بحاجة إلى فعل ذلك. أما اليوم، فإن معظم الموظفين يختارون أين ومتى يعملون؛ وكل ما نطلبه منهم هو أن يحددوا الخيار المفضّل بالنسبة لهم هل هو "المزيج المكتبي"، الذي يعملون بموجبه بصورة أساسية من المكتب، أم "المزيج المنزلي"، الذي يكون المكتب فيه متاحاً لهم لكنه لا يكون المقر الأساسي للعمل بالنسبة لهم.
قرار شون أعقد بما أن فاليا تضم فئة من الموظفين الذين ليس لديهم خيار العمل من المنزل. لكنني أظن أن أفراد الطواقم الميدانية سيتفهمون الوضع، إذا أوضح شون أن تقدير الشركة لهم لا يقل عن تقديرها لزملائهم في المقر الرئيس. فالشفافية وإخبار الجميع عن الأسباب المنطقية الكامنة وراء القرارات هما عنصر أساسي لإبقاء جميع الموظفين في حالة تفاعل.
تُعد ترتيبات العمل المرن جديدة نسبياً ولم تخضع لأبحاث معمقة. لكننا في "سبوتيفاي" نرى مؤشرات قوية على أن موقفنا جعلنا أكثر جاذبية لأصحاب المواهب، وتحديداً الموظفون الشباب والموظفون المنحدرون من خلفيات متنوعة والذين كنا نعاني سابقاً ربما في الوصول إليهم. ونحن لم نشهد أي تراجع في الإنتاجية، أو التفاعل، أو مستوى الاحتفاظ بالموظفين، ولا نتوقع حصول أي تراجع من هذا النوع؛ وحتى خلال فترة "الاستقالة الكبرى" لم نكن إلا أمام عدد محدود من الاستقالات الطوعية. فإذا ما أراد شون إحداث تحوّل في صفوف قواه العاملة، فإن السماح بالعمل عن بعد هو إحدى الطرق التي تسمح له بتحقيق هذا الهدف.
قبل دخولنا في المرحلة الانتقالية، كانت لدي ذات المخاوف الموجودة لدى شون وجوان من أن أعضاء الفريق الأقل خبرة سيفتقرون إلى فرصة الحصول على الإرشاد والتوجيه، وأن الابتكار سيتراجع، وأننا قد نرى تنامياً في الاستياء في أوساط العاملين الذين تتطلب مناصبهم منهم الحضور إلى المكتب. لكننا وجدنا أيضاً أن أسلوب العمل من أي مكان يتصف بسمة رائعة من حيث إنه يساعد الموظفين على التنظيم الذاتي. فقد اختار معظم الموظفين لدينا "المزيج المكتبي" على حساب "المزيج المنزلي" لكي يستفيدوا من مزايا التواجد جنباً إلى جنب مع زملائهم؛ فهم لم يرغبوا بأن يكونوا مجبرين على القدوم في جميع الأوقات. نحن لا نطبّق سياسة المداورة وتناوب الموظفين على الجلوس إلى المكاتب، بل نلجأ عوضاً عن ذلك إلى تخصيص "مناطق" بحسب الوظيفة والمنصب لكي يعرف الناس عموماً أين يعثرون على زملائهم الذين يحتاجون إلى التعاون معهم. ورغم أننا نعتقد أننا نجحنا في تجاوز العملية الانتقالية، إلا أننا نسعى دائماً إلى الإصغاء إلى آراء الموظفين، كما أبرمنا شراكات مع أكاديميين من جامعة ستوكهولم لقياس النتائج المتحققة على المدى البعيد. وربما يتوجب على شون فعل شيء مشابه في فاليا، على أن يولي اهتماماً خاصاً لمعنويات طواقم العمل الميدانية التي تعمل في ظروف صعبة.
بنو البشر هم كائنات مفطورة على اتّباع العادات. وقد مثّلت الجائحة حالة انقطاع أفسحت المجال أمام فرصة نادرة لفعل الأشياء بطريقة مختلفة. وشون الذي يبدو أنه استمر في القدوم إلى المكتب بنفسه يجد صعوبة في قبول الواقع الجديد للعمل. لكنني أستطيع طمأنته إلى أن عمّال المعرفة لديه والذين أصبحوا معتادين على قدر أكبر من الحريات، لن يعودوا البتة بالكامل إلى ما كانت عليه الأمور من قبل. وكلما سارع هو وفريقه إلى قبول هذه الحقيقة، سيكون ذلك أفضل.