ملخص: أثبتت الأبحاث حول مفهوم "الذكاء الجماعي" أن المجموعات التي تناقش سؤالاً ما تتوصل في كثير من الحالات إلى تقديرات أدق من تلك التي يتوصل إليها أي خبير بمفرده. ومع ذلك، فقد خلُصت دراسة جديدة إلى أن هذا ينطبق على الأسئلة الكمية، مثل: "كم من الوقت سيستغرق المشروع؟"، لكن المجموعات في الواقع أقل دقة من الأفراد فيما يخص الإجابة عن أسئلة "نعم أو لا"، مثل: "هل سيتم الانتهاء من تنفيذ المشروع قبل الموعد النهائي؟". واستناداً إلى هذه الفروقات الدقيقة، يقدم مؤلفو المقالة 3 استراتيجيات للمدراء يمكنهم من خلالها جني فوائد المداولات الجماعية دون الوقوع فريسة لجوانبها السلبية: 1) تركيز الفرق على مناقشة البيانات، وليس التنبؤ بالنتائج، 2) فصل الأسئلة الكمية عن أسئلة "نعم أو لا"، 3) جمع البيانات باستمرار حول ديناميات المجموعة ونقاط القوة والضعف لدى أعضاء الفريق لإثراء عملية صناعة القرار في المستقبل.
عندما يُثار أمامك سؤال صعب لا يمكن الإجابة عنه بسهولة، هل تستشير عدة خبراء لتكوين فكرة عن آرائهم الفردية أو تطلب من إحدى المجموعات التداول معاً للتوصل إلى الإجابة السليمة؟ أثبتت الدراسات حول مفهوم الذكاء الجماعي أن اتباع الأسلوب الصحيح في طرح الأسئلة على المجموعة يؤدي إلى تقديرات أدق من تلك التي يتم التوصل إليها بحساب متوسط توصيات عدة مستشارين مستقلين.
وعلى الرغم من ذلك، توصل بحثنا الأخير إلى أن المداولات الجماعية قد تزيد بالفعل من دقة التوقعات، لكنها قد تضللك عندما يتعلق الأمر باتخاذ القرار النهائي.
فقد ركزت الدراسات السابقة حول قوة الذكاء الجماعي إلى حد كبير على كيفية تقدير المجموعات للإجابات عن الأسئلة الكمية، مثل: "كم من الوقت سيستغرق تجهيز هذا المنتج لطرحه في الأسواق؟" أو "كم سيتكلف هذا المشروع؟" أو "ما الدرجة التي ستمنحها لهذا المرشح لشغل الوظيفة؟". حيث يتوصل التداول الجماعي في هذه الأنواع من الأسئلة إلى توقعات أكثر دقة من تلك التي يتوصل إليها الأفراد على وجه العموم.
ولكن عندما يتعلق الأمر بأسئلة "نعم أو لا"، وجدنا أن المداولات الجماعية قد أدت في الواقع إلى تقليل احتمالية اتخاذ القرار الصحيح. بعبارة أخرى، على الرغم من أن المداولات الجماعية تسفر في الغالب عن التوصل إلى تقديرات أدق، فإن المجموعة لن تتخذ القرار الصحيح على الأرجح إذا لجأت إلى التصويت على قرارات بسيطة بـ "نعم أو لا" فيما يتعلق بهذه الأسئلة، مثل: "هل سيتم طرح هذا المنتج في الوقت المحدد؟" أو "هل سنتجاوز الميزانية المقررة؟" أو "هل سيفي هذا المرشح بمعاييرنا؟".
ولكن لماذا؟ توصل بحثنا إلى أن النقاش الجماعي يؤدي عادة إما إلى تضخيم رأي الأغلبية الأولي، أو الأسوأ من ذلك، أنه يحوّل ما كان يمكن أن يكون في البداية تصويتاً صحيحاً إلى تصويت غير صحيح (حتى مع تحسن التقدير الكمي للمجموعة). ولاحظنا أيضاً أن هذا التأثير يظل سارياً حتى إذا انتظرت المجموعة مشاركة المصوّتين إلى نهاية الجلسة. ويمكن أن تؤدي الديناميات الاجتماعية نفسها التي تجعل التوقعات الكمية أكثر دقة من خلال المناقشة أيضاً إلى تحويل وجهة نظر الأقلية غير الصحيحة إلى أغلبية، أو تحويل الأغلبية غير المؤكدة أو المشكوك فيها أو الأغلبية الطفيفة إلى إجماع قوي.
قد يبدو هذا كأنه نوع من التناقض، ولكن نعود ونكرر، لاحظنا أن متوسط التوقعات الكمية للمجموعات كان أكثر دقة بعد النقاش، في حين كان تصويتهم على سؤال بـ "نعم أو لا" أقل دقة. ما التفسير المنطقي لهذه الظاهرة؟ لنفترض أنك طلبت من مجموعة تضم 5 أفراد تقدير المدة التي سيستغرقها انتهاء المشروع (سؤال كمي)، وكذلك ما إذا كان سيتم إنجاز المشروع خلال 9 أشهر (سؤال بـ "نعم أو لا"). سيعتقد هؤلاء الأشخاص الخمسة في البداية أن انتهاء المشروع سيستغرق 4 و5 و10 و11 شهراً و13 شهراً بالترتيب حتى يكتمل. يبلغ متوسط هذه التقديرات 8.6 أشهر، ولكن إذا كانت المجموعة ستصوّت على تقديراتها النهائية، فإن الأغلبية بنسبة 3 إلى 2 ستصوّت بـ "لا"، ولن يتم الانتهاء من المشروع بحلول الموعد النهائي وهو 9 أشهر. افترض أيضاً أن المشروع سيستغرق 10 أشهر، دون علم المجموعة، ما يعني أن تصويتهم الأولي صحيح.
افترض الآن أن أفراد المجموعة الخمسة راجعوا تقديراتهم بعد المناقشات ليصلوا بها إلى 8 و8 و9 و9 أشهر و 13 شهراً بالترتيب. سيؤدي هذا إلى زيادة المتوسط إلى 9.4 أشهر، وهو توقع أدق، ولكن إذا صوتت المجموعة على تقديراتها النهائية، فإن الأغلبية الحاسمة بنسبة 4 إلى 1 ستخطئ التقدير وتقول: "نعم، سينتهى المشروع في الوقت المحدد". وفي ظل وجود شخص واحد فقط يتوقع التأخر في إنهاء المشروع، فمن المرجح أن يقتنع المدراء بأن المشروع سينتهي في الموعد المحدد دون الحاجة الملحة إلى وضع خطة للطوارئ.
على الرغم من أن هذا المثال يتناول أسوأ سيناريو ممكن، فإن الفكرة العامة هي أن تحسن التوقعات لا يضمن تحسن التصويت النهائي. ولاستكشاف هذه الظاهرة، قمنا بتحليل سلسلة من التجارب المعملية مع أكثر من 450 مجموعة يتألف كل منها من 10 إلى 40 مشاركاً، حيث طلبنا من الأفراد الإجابة عن أسئلة، مثل عدد كرات العلكة الموجودة في العلبة، أو النسبة المئوية للأميركيين الذين يمتلكون تأميناً صحياً، أو نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة، قبل إجراء نقاش جماعي وبعده. ووجدنا أنه على الرغم من تحسن تقديراتهم الكمية، فقد كان لدى المجموعات في المتوسط فرصة بنسبة 80% إما لقلب نتيجة التصويت الصحيح في البداية أو ببساطة تضخيم رأي الأغلبية الأولي بغض النظر عن دقته.
لا يعني هذا بالطبع أن المجموعات لا تصلح لصناعة القرارات بصورة جماعية. إذ لا تزال النقاشات الجماعية تفيد في التوصّل إلى قرارات رشيدة، لكن فقط إذا تم طرح السؤال الصحيح بالطريقة الصحيحة مع إدارة الأمر بطريقة صحيحة. وقد وجدنا على وجه التحديد أن هناك 3 استراتيجيات يمكن أن تساعد المدراء على جني فوائد المداولات الجماعية دون الوقوع فريسة للتأثير الذي أوضحناه أعلاه.
التركيز على مناقشة البيانات، وليس التنبؤ بالنتائج
يجب على المدراء في أثناء النقاش تشجيع الأشخاص على مشاركة المعلومات ذات الصلة، مثل الخبرات الشخصية والحقائق والبيانات، ولكن ليس التقديرات الرقمية أو التوصيات بقرار معيّن. فعلى سبيل المثال، قد يكون من المفيد مشاركة معلومات واقعية في إحدى اللجان التي تناقش طرح منتج معيّن، مثل: "تأخر منتجنا الأخير لهذا العميل لأنه طلب تغيير خاصية رئيسية"، أو "أنهى فريق تصميم تجربة المستخدم مشاريعه الثلاثة الأخيرة قبل الموعد المحدد". يسهم هذا النوع من المعلومات في مساعدة الجميع على التحرك نحو فهم أكثر دقة للقضية المطروحة.
وعلى الرغم من ذلك، يجب على المدراء بذل قصارى جهدهم لتوجيه المجموعات بعيداً عن استطلاعات الرأي والتنبؤات العامة، ذلك أن تعليقات مثل: "أعتقد أنه سيتأخر"، أو "أعتقد أنه سينتهي في غضون 3 أشهر" تعمل على زيادة تشابه الآراء بغض النظر عن الأسباب التي تدفع أعضاء المجموعة إلى تأييد هذا الرأي أو ذاك، ما يؤدي في النهاية إلى تقليل عدد الأصوات الدقيقة عندما يحين الوقت لاتخاذ قرار. نلاحظ هنا أن هذه النزعة البشرية الطبيعية للتفاعل الاجتماعي بطريقة تجعل آراء الناس أكثر تشابهاً هي العلّة ذاتها التي تتسبب في تحسين التقديرات الكمية للمجموعات، لكن غالباً ما ينتهي بها الأمر إلى تقويض عنصر الدقة في التصويت النهائي.
فصل الأسئلة الكمية عن أسئلة "نعم أو لا"
تتمثل إحدى طرق الاستفادة من مزايا الذكاء الجماعي مع الاستمرار في التحسين من أجل اتخاذ قرارات دقيقة في الفصل الواضح بين مناقشة التوقعات (بطرح أسئلة "إلى أي مدى...؟") والقرارات (بطرح أسئلة "نعم أو لا"). فاحرص على مطالبة المجموعة بمناقشة التوقعات الكمية، ثم خذ متوسط توقعاتهم واترك القرار النهائي للمدير. على سبيل المثال: بدلاً من سؤال أفراد فريقك عما إذا كان المنتج سيجهز في الوقت المحدد، اطلب منهم فقط تقدير الوقت اللازم لتنقيح العمليات التطويرية، وترك القرار النهائي لك أنت شخصياً. وإذا كان من المهم أن يتم التوصل إلى قرار بشكل ديمقراطي، فاطلب من إحدى المجموعات أن تضع توقعاتها بعد النقاش، ثم اعرض هذه التقديرات على مجموعة ثانية واطلب من تلك المجموعة إجراء تصويت دون الخوض في أي نقاشات، بناءً على تقديرات المجموعة الأولى فقط.
الأهم من ذلك، وجدنا أن كل قرار تقريباً يتضمن نوعاً من التوقّع، حتى إن كان ذلك غير واضح بصورة جلية. حيث تواجه خبراء السوق الاستراتيجيين معضلة كلاسيكية حيال "البناء أو الشراء"، فهم لا يسألون فقط عما ينبغي عليهم فعله، وإنما يسألون أيضاً عن مدى تكلفة كل خيار وفاعليته المُتوقعة. ولا يريد خبراء السياسة العامة معرفة ما إذا كان البرنامج سينجح من عدمه فقط، لكنهم يريدون أيضاً توقع عدد الأشخاص الذين سينضمون إلى البرنامج، ومدى تأثيره وفقاً لمقاييس مختلفة.. إلخ. ويواجه بعض المدراء أسئلة، مثل ما إذا كان سيتم تجاوز الميزانية المقررة، وما إذا كان الاستثمار سيحقق عائداً إيجابياً، أو ما إذا كانت المخاطر تتجاوز المستوى المقبول، ويمكنهم الاستفادة من التقديرات الكمية حول التكاليف والعوائد المحتملة ومستويات المخاطر. حتى إذا كان الهدف النهائي هو اتخاذ قرار، فمن الممكن دائماً فصل هذا القرار عن مناقشة التوقعات الجماعية.
جمع البيانات حول ديناميات المجموعة
أثبتت لنا نتائج بحثنا الأخير وعملنا البحثي السابق أن الأشخاص الأكثر عناداً؛ أي أولئك الذين يرفضون مراجعة تقديراتهم الأولية بعد النقاشات الجماعية، غالباً ما تكون تقديراتهم أدق من نظرائهم. وحينما تعمل على تتبع البيانات حول كلٍّ من تطور آراء أعضاء المجموعة والنتائج النهائية للمشاريع، يمكنك التعرف بمرور الوقت على الأشخاص الذين يجب أن توليهم قدراً أكبر من الثقة وتعتمد على آرائهم أكثر من غيرهم.
بالإضافة إلى ذلك، فقد تجد أيضاً أن القدرة على الوصول إلى الإجابة السليمة عن الأسئلة تختلف من شخص لآخر، وفق نوعية السؤال المطروح. فقد تكتشف، على سبيل المثال، أن بعض الأشخاص في فريقك بارعون حقاً في تقدير سرعة سير العمل في المشروع، بينما يجيد البعض الآخر تقدير تكلفة المشروع. قد تجد أيضاً أن أعضاء فريقك الذين توليهم ثقتك عادة ما تُثبِت الأحداث أن آراءهم كانت سديدة، أو أنها كانت خاطئة عادة. ويسهم تتبّع هذا النوع من المعلومات في مساعدتك على طرح الأسئلة المناسبة على الأشخاص المناسبين، إضافة إلى تحسين عمليات التوقع وصناعة القرار وفقاً لذلك.
***
تتوصّل المجموعات في كثير من الحالات إلى تقديرات أدق من تلك التي يتوصل إليها أي خبير بمفرده. وعلى الرغم من ذلك، فإن عملية التأثير الاجتماعي نفسها التي تقود المجموعات إلى الانجذاب نحو التوقعات الأدق قد تدفع المجموعات أيضاً نحو إجابات أقل دقة عن أسئلة "نعم أو لا". وهكذا يجب أن يحرص المدراء على قصر النقاشات الجماعية على الحقائق، دون التطرق إلى الأحكام، وفصل عملية التوقّع عن صناعة القرار، وتكرار إجراءات صناعة القرار وتحسينها باستمرار استناداً إلى البيانات السابقة.