مع تغلغل خوارزميات الذكاء الاصطناعي في الشركات، يصبح التعلم المؤسساتي وتعلّم الآلة على قدر متساوٍ من الأهمية. لكن كيف تتمكن فرق الإدارة من تحقيق أقصى استفادة من القيمة الاقتصادية للأنظمة الذكية تلك؟ وما دور الذكاء الاصطناعي في تغيير الشركات؟
مبادرات الذكاء الاصطناعي في الشركات
لا شك أن إعادة تصميم إجراءات العمل وتوفير برامج تدريبية أفضل هو أمر مهم، لكن تحسين حالات الاستخدام – أي المهام والتفاعلات الحقيقية التي تحدد نتائج العمل اليومي – سيعود بمردود أفضل بكثير. ولعل أسوأ الأخطاء التي تصادفني في مبادرات الذكاء الاصطناعي الحالية في الشركات هي منح عمليات البرمجة الذكية الأولوية على حساب التحديد المدروس لحالات الاستخدام. كما لا تكون الأمور على ما يرام عندما تُعطى الأسبقية لتحسين تقنيات العمليات على حساب تحسين طريقة تنفيذ العمل.
وإن لم نكن بصدد أتمتة العمليات لإلغاء الدور البشري، فينبغي على خوارزميات الذكاء الاصطناعي أن تجعل عمل الموظفين أبسط وأسهل وأكثر إنتاجية. ومن هنا يُعتبر تحديد حالات الاستخدام التي يُضفي فيها الذكاء الاصطناعي قيمة على أداء الموظفين وعلى كفاءة إجراءات عملهم على حد سواء أمراً جوهرياً في النجاح خلال تبني المشروع. في المقابل، تركز الشركات التي تسعى إلى منح الآلات الذكية قدراً أكبر من الاستقلالية والتحكم على مسألتي الحوكمة وحقوق اتخاذ القرارات.
أما من الناحية الاستراتيجية، فيُنظر إلى الخوارزميات الذكية التي يعتمد عملها على البيانات على أنها أكثر أهمية من التصميم المدروس لتجربة المستخدم. لكن تصاميم تجربة المستخدم المدروسة بعناية باستطاعتها توفير تدريب أفضل لأنظمة تعلّم الآلة ما يجعلها أكثر ذكاء. لذا يحرص علماء البيانات الأكثر فعالية على التعلم من حالات الاستخدام ومن الرؤى المستخلصة خلال تجربة المستخدم. وعلى سبيل المثال، اكتشف علماء البيانات في إحدى الشركات العاملة ضمن مجال المراقبة الصناعية أن مستخدمي أحد الأنظمة الذكية في الشركة، استخدموا بطريقة غير رسمية إحدى قواعد البيانات لمساعدتهم في تحديد أولوية الرد على العملاء. إذ أدت حالة الاستخدام غير المتوقعة هذه إلى إعادة تدريب الخوارزميات الأصلية.
ويُترجم التركيز على حالات استخدام أكثر وضوحاً وبساطة بإنتاجية أعلى وعلاقات أفضل بين الذكاء الاصطناعي والإنسان، حيث تُصبح عملية تقسيم الأدوار مصدر إلهام لابتكار تصاميم جديدة. وبالتالي، ينتقل التركيز من تدريب خوارزميات أكثر ذكاءً إلى اكتشاف كيفية تطوير حالة الاستخدام، مما يُعطي زخماً لكل من تعلم الآلة وتعلّم المؤسسة.
خمس فئات لاستخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الشركات
وتبرز خمس فئات رئيسية لحالات استخدام التطبيقات، وذلك عندما تُعطي الشركات الأولوية للتوجه نحو ذكاء اصطناعي داعم للموظفين وإجراءات عملهم على السير نحو أنظمة مستقلة. وليس بمستغرب أن هذه الفئات تصف كيفية عمل الكيانات الذكية معاً لإنجاز المهام، وتؤكد أهمية اللمسة البشرية. ويمكن للذكاء الاصطناعي جعل العنصر الإنساني أكثر أهمية، بالاعتماد على الإنسان وإجراءات العمل والنتائج المطلوبة.
المساعِدات
تُعتبر تطبيقات مثل "أليكسا" و"سيري" و"كورتانا" تجسيداً واقعياً لحالاتِ استخدام الذكاء الاصطناعي الداعم. إذ يمكننا القول إن هذه التطبيقات المساعدة تتميز بمهارات تمكنها من تأدية مهام متوسطة التعقيد. وبفضل واجهة مستخدم واضحة وبسيطة، يتميز استخدام التطبيقات المساعدة بالسهولة والسرعة سواء كان التحكم بها يجري عن طريق الأوامر الصوتية أو روبوتات الدردشة. ويتسع نطاق المهام التي تؤديها أيضاً مع تزايد ذكاء التطبيقات الرقمية المساعدة ونمو مخزونها المعرفي، حيث تتعلم هذه التطبيقات كيفية طرح أسئلة وكلمات مفتاحية على المستخدمين في الوقت المناسب من أجل تحسين النتائج والتفاعلات بين الطرفين.
الموجِّه
في حين تنفذ التطبيقات المساعدة المهام المطلوبة، تساعد التطبيقات الموجّهة المستخدمين في التغلب على تعقيدات المهام من أجل تحقيق النتائج المنشودة. تتضمن أمثلة تلك التطبيقات استخدام تطبيق "وازا" (Waze) لاجتياز حركة المرور المتأثرة بأعمال الطرقات، وكذلك استخدام أدوات الواقع المعزز لتشخيص وإصلاح أعطال الأجهزة المحمولة أو أنظمة التدفئة والتهوية وتكييف الهواء (HVAC). كما تُخبر التطبيقات الموجهة مستخدميها رقمياً بالخطوات التي يتعين عليهم اتخاذها، وتقترح عليهم في حال حدوث أي خطأ مسارات أخرى للوصول إلى الهدف بنجاح. وتُعتبر التطبيقات الموجهة بمثابة برنامج معلّم توظّف خبرته الأساسية في إيصال مستخدميه إلى وجهتهم التي ينشدونها.
الاستشاري
على عكس تطبيقات الذكاء الاصطناعي الموجِّهة، يتجاوز دور التطبيقات الاستشارية مجرد توفير معلومات عن الوجهات المطلوبة وكيفية التنقل بين المدن، لتشمل حالات استخدامها المواقف التي يكون فيها العاملون إما بحاجة لى الاستفادة من خبرات إضافية أو الحصول على مشورة تناسب ما يعترضهم من مشكلات. وكما هو الحال مع الاستشاريين البشر، توفر التطبيقات الاستشارية خيارات وشروحات، وتعرض الأسباب والمسوغات المنطقية. على سبيل المثال، لنفرض أن مدير برامج لتطوير البرمجيات يحتاج إلى تقييم أولويات الجدول الزمني للمشروع، عندها ستطرح التطبيقات الاستشارية أسئلة وتحصل على المعلومات لتتمكن من تقديم مقترحات للخطوات التالية. وربما تتضمن تطبيقات الاستشارات في مقترحاتها روابط ذات صلة وتواريخ المشاريع وتقارير تساعد في فهم السياق. وهناك أيضاً تطبيقات استشارية أكثر تطوراً تقدّم نصائح استراتيجية تكمل ما تقدمه من اقتراحات تكتيكية.
وعلاوة على ذلك، تُعدّل التطبيقات الاستشارية معرفتها الوظيفية مثل الجدولة، وإعداد الميزانيات وتخصيص الموارد والتوريد والشراء والتصميم الجرافيكي، لتتناسب مع متطلبات المستخدم.
الزميل
وتشبه هذه التطبيقات نظرائها من البشر من حيث أنها تعمل مثل هيئة توجيهية توضح الاتصالات والتطلعات والمخاطر. والزميل هو الاستشاري، بيد أن عمل الأول يستند إلى البيانات ولديه فهم تحليلي للوضع المحلي، بمعنى أن مجال خبرة الزميل هو المؤسسة نفسها. وبإمكان الزميل الاطلاع على تحليلات المؤسسة وميزانيتها وجداول مواعيدها وخططها وأولوياتها وعروضها، من أجل تقديم مشورة مؤسساتية للزملاء. في حين تتمحور حالات استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي الزميلة حول تقديم المشورة التي يحتاجها المدراء والموظفون لأداء العمل بكفاءة وفعالية أكبر داخل الشركة. وبطبيعة الحال ربما تقترح تطبيقات الذكاء الاصطناعي الزميلة الإشارة إلى عرض تقديمي، أو إرفاق التطبيق برسائل البريد الإلكتروني، أو تحديد مدير المشاريع الذي يقدم المشورة للموظف، أو نموذج الميزانية المناسب، أو العملاء الذين يتعين إرسال إنذار مبكر إليهم أو غير ذلك من الأمور. وأخيراً، يمكن اعتبار التطبيقات الزميلة بمثابة مساعد أكثر منها أداة، إذ تقدم رؤىً وإدراكاً لما يدور في المؤسسة بناءً على المعطيات والبيانات.
الرئيس
خلافاً لدور الزميل والمستشار الذي ينحصر في تقديم المشورة، يصدر الرئيس التعليمات. حيث تُخبر تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي تلعب دور الرئيس مستخدميها من البشر ما يتعين عليهم فعله. ونتيجة لذلك، يتم إلغاء الخيارات وإزالة الغموض لصالح إصدار الأوامر والإرشادات التي يتعين اتباعها مثل: ابدأ هذا، توقف عن ذلك، غيّر هذا الجدول، قلص تلك الميزانية، أرسل هذه المذكرة إلى أعضاء فريقك.
وصممت تطبيقات الرئيس ليتم الامتثال لأوامرها. كما يمكن اعتبار برامج الذكاء الاصطناعي التي تلعب دور الرئيس منحدراً زلقاً نحو الاستقلالية، إذ تُعتبر هذه البرامج أشبه ما تكون بالطيار الآلي الذي يتولى السيطرة على قمرة القيادة في الطائرة أو بنظام منع الاصطدام في السيارات الذي يضغط على الفرامل. وبالفعل، هناك ظروف وحالات استخدام معينة تؤدي إلى إخضاع العامل البشري لسيطرة البرنامج. ويبقى الاختبار الحقيقي لتطبيقات الرئيس اختباراً بشرياً، فإن لم يعاقَب الشخص أو يفصل من العمل بسبب عصيانه للأوامر، لا يمكننا اعتبار التطبيق رئيساً فعلاً.
وقد تتداخل أدوار هذه الفئات الخمس من التطبيقات سريعاً. إذ إنه من السهل تصور سيناريوهات وحالات استخدام يصبح فيها الموجه مساعداً، ويرتقي المساعد بعد ذلك إلى دور الزميل عندما تتطلب الظروف، وينتقل الاستشاري ليلعب دور الرئيس. لكن ينبغي التحلي بكثير من الصرامة والانضباط عند التفكير في مستقبل هذه التطبيقات على ضوء الاختلافات الجوهرية بينها.
الثقة عامل مهم في جميع الفئات الخمس. هل يثق العمال في قدرة التطبيقات المساعدة على تنفيذ ما يُطلب منها؟ أو هل توصلهم التطبيقات الموجِّهة إلى حيث يريدون الوصول؟ هل هم واثقون في الآلة التي تؤدي دور الرئيس؟ هل هم متأكدون أن تطبيقهم المساعد لن يخدعهم؟ وبناء على ذلك، تبقى قضايا الثقة والشفافية قائمة بغض النظر عن مدى كفاءة برامج الذكاء الاصطناعي، وتزداد أهميتها عندما تصبح أسباب اتخاذ القرارات في غاية التعقيد والتطور. ومن بين المخاطر المحتملة في هذا المجال تطور تطبيقات الذكاء الاصطناعي أو انحدارها لتتحول إلى ما يعرف بـ "الأصدقاء الأعداء"، بمعنى أن يكون البرنامج صديقاً وخصماً في نقس الوقت لنظيره البشري. وبالنتيجة، تصبح حالات الاستخدام مهمة في تحديد نوع الواجهات والتفاعلات التي تؤدي إلى تأسيس عامل الثقة بين العنصر البشري والعنصر الآلي.
وبينما تُعتبر حالات الاستخدام مهمة في تعزيز إنتاجية الذكاء البشري أو الاصطناعي، تكمن قيمتها وأهميتها في مدى قدرتها على التسريع المدروس والمحسوب لوتيرة جهود المؤسسة الرامية إلى تحقيق المزيد من الأتمتة والاستقلالية. وربما يكون الأثر الحقيقي لدور الذكاء الاصطناعي في تغيير الشركات هو إثبات أنها أفضل طريقة يدرب بها البشر خلفاءهم.
اقرأ أيضاً: