ملخص: بما أن الذكاء الاصطناعي يحلّ محل البشر في أداء مجموعة من المهمات الاختصاصية على نحو متزايد، فهل سيحلّ محل المدراء يوماً ما؟ لحسن الحظّ، يتمتع البشر بقدرة إدراكية تُكسبهم ميزة مهمة، ألا وهي إعادة الصياغة وهي ليست حلّ مشكلة ما (سواء بالحدس أو التفكير الواعي) وإنما التحديد الدقيق للمشكلة التي تحتاج إلى حلّ. هذا ليس بالأمر السهل وهو يستهلك الكثير من الوقت عادة، لكنه أساسي لاكتشاف الابتكارات المتقدمة والتكيف مع بيئة سريعة التغير. يمكنك اكتساب هذه القدرة باتباع 4 خطوات: تخصيص الوقت لعدم التفكير في المشكلة، وتوضيح الافتراضات الخفية المتعلقة بها، والاستكشاف المرح، والاستفادة من حالات التشابه المفاجئة.
التفكير هو أهم الأدوات التي يستخدمها المدراء في قيادة شركاتهم، وهو ينطوي على طريقتين مختلفتين لمعالجة المعلومات هما الحدس والوعي، وقد أطلق عليهما دانيال كانيمان الحائز على جائزة نوبل "التفكير السريع والبطيء". واليوم يتزايد تفوق أجهزة الكمبيوتر في الطريقتين على البشر، فعن طريق قوتها الحسابية الخام تستطيع التغلب على البشر في أداء مهمات التفكير الواعي بشرط أن تكون قواعد الحالة وأبعادها معروفة. يستعين المدراء على نحو روتيني بالتحسين والمحاكاة الرياضيين من أجل بناء المحافظ الاستثمارية وصنع قرارات التسعير وفهم مخاطر سلسلة التوريد. وعلى الرغم من أن البشر معتادون على التفوق في تمييز الأنماط، وهو فعل حدسي بدرجة كبيرة، فقد أصبح بالإمكان اليوم تدريب أجهزة الكمبيوتر على استخدام تعلم الآلة لتطوير الحدس الخاص بها من مجموعات كبيرة من البيانات. وقد أثبتت دراسات حديثة أن أجهزة الكمبيوتر تفوقت على البشر في أداء مهمات اختصاصية مثل الكشف عن الإصابة بالسرطان في التصوير المقطعي بالكمبيوتر واختيار أهداف الاستثمار.
بالنظر إلى طريقة سير الأمور، هل سيستمر المدراء بإضافة القيمة للمؤسسات؟ لحسن الحظ لا يزال البشر يتمتعون بقدرة إدراكية تميزهم بدرجة كبيرة عن أجهزة الكمبيوتر، إنها التفكير ببطء شديد.
يستخدم التفكير شديد البطء في إعادة الصياغة؛ أي عملية إعادة النظر في الأبعاد والأهداف والافتراضات التي نصنع القرارات بناء عليها. لا تتعلق إعادة الصياغة بحلّ المشكلة (سواء بالحدس أو التفكير الواعي)، لكن بالتحديد الدقيق للمشكلة التي تحتاج إلى حلّ.
إعادة الصياغة ليست بالأمر السهل، فمن الممكن أن تكون الطرق التي يتبعها المدراء لصياغة قراراتهم مترسخة في تقاليد القطاع وتاريخ المؤسسة وثقافة المسؤول التنفيذي نفسه وخبرته. ويمكن أن تكون إعادة الصياغة عملية تستهلك الكثير من الوقت، ولذلك نعتبرها تفكيراً شديد البطء.
إن إعادة الصياغة أساسية لأن ابتكارات نموذج العمل المتقدمة تتولد عندما تتمرد الشركات على الأفكار الراسخة حول طرق توليد القيمة وتحقيقها. خذ شركة "أمازون" مثلاً، ففي عام 1999، تحدى صحفي من محطة "سي إن بي سي" جيف بيزوس لأن الشركة التي تضم مراكز توزيع كبيرة ومكلفة وعدداً كبيراً من الموظفين لم تعد نموذجاً للعمل المقتصر على الإنترنت الذي يصبّ المستثمرون اهتمامهم عليه. فعبر له بيزوس عن أن تركيزه على الزبائن أكبر. ورفض الرأي الذي يقول إن نموذج العمل منخفض التكاليف على الإنترنت كان أساسياً في المنافسة، وبدلاً من القبول بثنائية "الإنترنت الصرف" بمقابل "تجارة التجزئة التقليدية" أعاد صياغة الحوار ليدور حول الهوس بتقديم تجربة رائعة للعميل ووضح تركيز خيارات شركة "أمازون" الاستراتيجية على هذا الهدف.
عندما تتغير آليات السوق يمكن أن تكون إعادة الصياغة في غاية الأهمية. خذ شركة "نوكيا" على سبيل المثال. في مجال الهواتف العادية تعلمت أن تتوقع ارتباط العروض الجديدة الناجحة بارتفاع المبيعات السريع وتوليد الأرباح الكبيرة، وبالنتيجة قررت الشركة أن توقف بعض الاستثمارات المكلفة وتراجعت عن مسارات العمل التي لم تولد نتائج فورية. في أوائل العقد الأول من الألفية الثالثة تم إيقاف العديد من الابتكارات الرائدة التي اعتبرت شديدة المخاطر أو لم يتم اعتمادها على نطاق واسع في البداية، ومنها الهواتف ذات الشاشات التي تعمل باللمس والأجهزة اللوحية وألعاب الهواتف النقالة. تسبب هذا النهج بضرر كبير حين انتقلت المنافسة إلى مستوى بيئة العمل، ففي حين استمرت شركة "نوكيا" بإغراق السوق بأجهزة جديدة، فقد كانت "تضع حزم أدوات تطوير البرامج وبيئة العمل والتطبيقات التابعة لجهات خارجية في مرتبة ثانوية بين أولوياتها"، وفقاً لما قاله مسؤول تنفيذي سابق في شركة "نوكيا" بأسف. إلى جانب أن مديراً سابقاً آخر في الشركة قال في مقابلة شخصية: "لا يمكن تقديم خدمات المستهلك على نطاق واسع في غضون عام أو عامين. لكن كنا نفتقر إلى الصبر للقيام بذلك غالباً". تطلبت ولادة عصر الهواتف الذكية تبني عقلية جديدة طويلة الأمد لم تمتلكها شركة الأجهزة العملاقة سريعة الحركة.
كما أن قدرة البشر على التفكير البطيء جداً أساسية في صناعة أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي التي لا تعمل إلا إذا أعيدت صياغة مشكلة العمل أولاً على أنها مشكلة ذكاء اصطناعي. وكما قال أجاي أغروال وجوشوا غانز وآفي غولدفارب، فإن الذكاء الاصطناعي هو ببساطة مجموعة متنوعة من خوارزميات التنبؤ، وإعادة صياغة المشكلات التي تحتاج إلى حكمة البشر التي تستغرق وقتاً طويلاً وتحليلاً دقيقاً (مثل تمييز حالات الاحتيال في التأمين وتقييم الأهلية الائتمانية) على أنها مشكلات تنبؤ هو تحديداً ما فعلته شركات مثل "ليمونيد" (Lemonade) و"كابدج" (Kabbage) لزعزعة قطاعات ناضجة مثل التأمين الاستهلاكي وإقراض الشركات الصغيرة.
في عالم يتيح للمدراء استخدام أجهزة الكمبيوتر لتعزيز قدرتهم على التفكير السريع والتفكير البطيء ستؤدي القدرة على إعادة الصياغة إلى فصل الغثّ عن السمين بصورة متزايدة، لذا أقترح فيما يلي 4 استراتيجيات لمساعدتك على تنمية هذه القدرة:
خصص وقتاً لعدم التفكير في المشكلة
تشير الأبحاث إلى أن فترة الحضانة تساعد في إنتاج المزيد من الحلول الإبداعية. عندما تضع مسألة ما جانباً لفترة من الزمن فستبتعد عن إطارها الحالي، ما يفسح المجال للقيام بعملية إعادة هيكلة وتوليد رؤى عفوية. لذا، بعد أن تبدأ عملية حلّ مشكلة ما، اتركها وافعل شيئاً مختلفاً تماماً لفترة من الزمن ودعها تنضج ببطء في عقلك الباطن.
وضح الافتراضات الخفية
نحن في الغالب لا ندرك الافتراضات التي نفرضها على أنفسنا وتقيدنا في تعاملنا مع المواقف، لكن يمكننا إبرازها عن طريق العمليات الجماعية المصممة لتحفيز الخلافات المعرفية. يمكنك أن تدفع فريق لسوق الحجج ضد حلّ اقترحه فريق آخر (أي يأخذ دور محامي الشيطان) أو أن تدفع فريقين لتطوير حلين متعارضين لمشكلة ما (التدارس الجدليّ). ويمكن أن يكون بناء نموذج رياضي للمشكلة مفيداً أيضاً لأنه يرغمك على توضيح الافتراضات حول سبب المشكلة والطريقة المفترضة لعمل الحلول المقترحة. يكشف وضع النماذج غالباً عن آليات غير متوقعة فيحفز تغيير عقليتك فيما يتعلق بأفضل طريقة لإدارة أمور معينة. عندما قدمت شركة "فلور كوربوريشن" (Fluor Corporation)، عملية وضع نماذج المحاكاة للمساعدة على التنبؤ بالتغييرات في التكاليف والجداول الزمنية للمشاريع المعقدة، بدأ المدراء يلاحظون أنه من الممكن إدارة هذه التغييرات مسبقاً بدلاً من التعامل معها لاحقاً كما كان متعارفاً عليه في القطاع آنذاك.
انخرط في عملية الاستكشاف المرح
إن إدخال عنصر الخيال في عملية صنع القرار يساعد المدراء على الابتعاد ذهنياً عن الافتراضات الضمنية و"الوصفات المتعارف عليها في القطاع" (وهو أمر يفهمه كل من يعرف القطاع) ويطلق العنان للإبداع. يمكن التحرر من القيود العادية بهذا الشكل عن طريق مطالبة الفرق باستخدام مكعبات "ليغو" مثلاً لبناء نموذج عن فكرة المشروع من أجل توضيحها للآخرين.
استفد من حالات التشابه (المفاجئة)
حالات التشابه هي أداة فعالة لإعادة صياغة المشكلات المألوفة، إذ يمكن استخدام الأفكار والممارسات من قطاع ما لإعادة تشكيل قطاع آخر. على سبيل المثال، حوّل بيري غوردي جونيور شركة "موتاون ريكوردز" (Motown Records) إلى مصنع ناجح عن طريق تصميمها على غرار خط التجميع في شركة "فورد موتور" التي عمل فيها سابقاً. في بعض الحالات قد يكون قضاء وقت في شيء مختلف تماماً، مثل الرياضات القتالية أو الأوبرا أو قراءة مجلات الأبطال الخارقين الهزلية، طريقة رائعة لاكتساب رؤى جديدة يفتقر إليها موظفو الشركة الآخرون. خذ مثلاً التصميم البسيط الذي تقدمه شركة "آبل" في منتجاتها، فهو مستوحى من دروس الخط وجلسات "زن" البوذية وتصميم مبنى كلية "باوهاوس" التي قضى ستيف جوبز فيها بعض أوقاته. حتى عندما لا يكون التشابه تاماً، من الممكن أن تسهم الخطوط العريضة التقريبية في وضع إطار جديد لمشكلة مزعجة.
في حين يمكن للمدراء إضافة هذه الممارسات إلى مجموعات أدواتهم لتعزيز قدرتهم على إعادة الصياغة فهم يحملون أيضاً مسؤولية ضمان أن تدعم المؤسسة الأوسع عملية إعادة الصياغة. تتمثل الخطوة الأولى في بناء القنوات وتعزيز الثقافة التي تتيح لمحامي الشيطان الداخلي وأصحاب الرؤى التعبير عن مخاوفهم وأفكارهم، وتوفر للموظفين المجال لاستكشاف المرح ووقتاً كافياً لحضانة المشكلات. على الرغم من أن هذه الجهود قد لا تحقق فوائد ملموسة على الفور، فمن الممكن أن تكون أساسية في تجديد المؤسسة وتحقيق الازدهار لها ولأصحاب المصلحة على المدى الطويل.