من غير المرجح أن ينقضي يوم مهني دون أن يطرق الذكاء الاصطناعي أذهاننا، إن كان في خبر نقرؤه، أو حديث نشارك فيه، أو خلال مزاولتنا لأعمالنا اليومية. من الممكن أن نعتبر ذلك طبيعياً إذا ما علمنا أن القيمة المقدّرة لسوق الذكاء الاصطناعي بلغت 454 مليار دولار أميركي عام 2022، ومن المتوقع أن تصل إلى نحو 2,575 مليار دولار أميركي بحلول عام 2032.
ولم يعد حصر تطبيقات الذكاء الاصطناعي بالمهمة اليسيرة، فنرى الذكاء الاصطناعي يندمج بطريقة أو بأخرى في قطاعات الصناعة والتجارة المختلفة، وقد وصل أيضاً إلى العديد من الممارسات الإدارية ومنها صياغة الاستراتيجية التي سنلقي الضوء عليها في هذا المقال.
من الملاحظ ازدياد أهمية استخدام الذكاء الاصطناعي في بناء الاستراتيجية على نحو مطرّد. فهو يساعد المؤسسات على تحديد فرص السوق الجديدة، وتعزيز تجربة العملاء، وتقييم المخاطر المحتملة. وهذا يمكّنها من تطوير خطط استراتيجية تطويراً أفضل لتحقيق النجاح. كما يمكن للأدوات المعتمدة على الذكاء الاصطناعي محاكاة سيناريوهات الأعمال المختلفة، ما يوفر للقادة مجموعة من النتائج والاستراتيجيات المحتملة للتنقل في بيئات الأعمال المعقدة. نزيد على ذلك أن التعلم المستمر للذكاء الاصطناعي وقدرته على التكيف تمكّنه من تطوير قدراته التحليلية وأن يتطور بصورة متسارعة. وهذا يساعد الشركات التي توظفه بطريقة صحيحة على وضع استراتيجيات ليست ذات صلة بظروف السوق الحالية فحسب، بل أيضاً قابلة للتكيف مع التغييرات المستقبلية. ويلّح السؤال هنا، كيف يمكن أن يجري ذلك؟
استراتيجية التسويق وتطوير المنتجات
يسهم الذكاء الاصطناعي في بناء الاستراتيجية عبر توفير فهم شامل لمشهد الأعمال. من خلال تحليل البيانات، يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي تقييم ديناميكيات السوق وسلوك المستهلك والاتجاهات التنافسية. تمكّن هذه المعلومات المؤسسات من صياغة استراتيجيات فعالة ومرنة. لنفكر في شركة بيع بالتجزئة تتطلع إلى تحسين منتجاتها واستراتيجيات التسويق الخاصة بها. يمكن لشركة البيع بالتجزئة الوصول إلى كمية كبيرة من البيانات مثل: أرقام المبيعات، والتركيبة السكانية للعملاء، وعادات التصفح عبر الإنترنت، والتعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي. ويمكن استخدام نظام الذكاء الاصطناعي لتحليل هذه البيانات تحليلاً شاملاً. يبدأ الأمر بتقييم ديناميكيات السوق، الذي يتضمن تحليل اتجاهات السوق الحالية، وتحديد المنتجات المطلوبة، وفهم البيئة الاقتصادية العامة التي يمكن أن تؤثر على القوة الشرائية للمستهلك. بعد ذلك، يتعمق الذكاء الاصطناعي في سلوك المستهلك. هنا، يبحث في أنماط الشراء للمجموعات السكانية المختلفة، ويحلل عادات التصفح والتسوق عبر الإنترنت، ويقيّم استجابات العملاء للحملات التسويقية السابقة. وقد يكشف هذا التحليل، على سبيل المثال، أن المستهلكين الأصغر سناً أكثر ميلاً نحو المنتجات الصديقة للبيئة، أو أن هناك اتجاهاً متزايداً في عمليات الشراء عبر الإنترنت في فئات معينة من المنتجات.
تحليل الاتجاهات التنافسية
يمكن للذكاء الاصطناعي فحص الاتجاهات التنافسية. يتضمن ذلك فحص عروض منتجات المنافسين، واستراتيجيات التسعير، ووضعها في السوق. قد يجد الذكاء الاصطناعي أن أحد المنافسين يكتسب حصة سوقية في قطاع معين بسبب التسويق الرقمي القوي أو برنامج الولاء الجديد.
ورداً على ذلك، يمكن أن تطلق شركة البيع بالتجزئة خطاً جديداً من الملابس المستدامة. يحلل نظام الذكاء الاصطناعي بيانات خط الإنتاج الجديد، وقد يجد أنه على الرغم من أن المنتج يحظى بشعبية كبيرة بين الشباب في المناطق الحضرية، فإنه لا يحقق أداءً جيداً في المناطق الريفية. علاوة على ذلك، يحدد الذكاء الاصطناعي الاتجاه الذي ترتبط فيه المنشورات المتعلقة بالحياة المستدامة على وسائل التواصل الاجتماعي بالارتفاع الكبير في الاهتمام بالمنتج. باستخدام هذه الأفكار، تقرر الشركة تصميم استراتيجيتها التسويقية، فتعمل على زيادة ميزانيتها الإعلانية عبر الإنترنت التي تستهدف الشباب في المناطق الحضرية وتتعاون مع المؤثرين الذين يدافعون عن الحياة المستدامة. وفي المناطق الريفية، تحول تركيزها إلى خطوط إنتاج أخرى أكثر انسجاماً مع التفضيلات التي كشف عنها تحليل الذكاء الاصطناعي.
في هذا المثال، ساعد نظام الذكاء الاصطناعي شركة البيع بالتجزئة على فهم سوقها فهماً أعمق، وتصميم استراتيجيات منتجاتها وتسويقها بفعالية أكبر، والتفاعل بطريقة أكثر ديناميكية مع اتجاهات المستهلك والاتجاهات التنافسية. يمكن أن يؤدي هذا النوع من الإدارة المبنية على البيانات، والمدعومة بالذكاء الاصطناعي، إلى اتخاذ قرارات أكثر حكمة، وإشراك أفضل للعملاء، وربما زيادة الربحية.
الذكاء الاصطناعي والتخطيط بالسيناريوهات
بالإضافة إلى ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي المساعدة في تخطيط السيناريوهات ومحاكاة مجموعة واسعة من النتائج المحتملة بناءً على المدخلات والظروف المختلفة وتحسين الخطط لتناسب كل حدث مستقبلي محتمل. ويعتبر هذا الجانب من الذكاء الاصطناعي ذا قيمة خاصة في قطاعات الأعمال المعرضة لتغييرات سريعة أو التي لا يمكن التنبؤ بها إلى حد كبير. على سبيل المثال، دعونا نفكر في استخدام الذكاء الاصطناعي في قطاع الطاقة، وتحديداً في إدارة الطاقة المتجددة. مصادر الطاقة المتجددة مثل طاقة الرياح والطاقة الشمسية متغيرة بطبيعتها بسبب اعتمادها على الظروف الجوية. يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لمحاكاة العديد من السيناريوهات بناءً على التنبؤات الجوية وتوقعات الطلب على الطاقة واستقرار الشبكة. ومن خلال معالجة هذه البيانات، يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي التنبؤ بمستويات إنتاج الطاقة، وتحديد النقص المحتمل، واقتراح الاستراتيجيات المثلى لتوزيع الطاقة.
قد تستخدم شركة الطاقة الذكاء الاصطناعي لتوقّع فترة من انخفاض سرعة الرياح. سيحلل نظام الذكاء الاصطناعي البيانات التاريخية والتنبؤات الجوية والطلب الحالي على الطاقة للتنبؤ بالنقص في إنتاج الطاقة. وسيحاكي بعد ذلك سيناريوهات مختلفة، مثل استيراد الطاقة من شبكات أخرى، أو تعديل الأسعار، أو الاستفادة من احتياطيات الطاقة المخزنة. يمكن للذكاء الاصطناعي أيضاً أن يقترح الاستراتيجية الأكثر فعالية من حيث التكلفة والكفاءة لكل سيناريو، ما يساعد الشركة في الحفاظ على إمدادات ثابتة من الطاقة وتقليل مخاطر انقطاع التيار الكهربائي.
هذا النوع من تخطيط السيناريوهات المعتمد على الذكاء الاصطناعي ليس مفيداً للعمليات اليومية فحسب، بل إنه ضروري أيضاً للتخطيط الاستراتيجي الطويل المدى. فهو يسمح للشركات بالاستعداد لمختلف الحالات المستقبلية، وتكييف استراتيجياتها لتظل مرنة وتنافسية في بيئة سريعة التغير. يمكن أن توفر القدرة على محاكاة السيناريوهات المختلفة والاستجابة لها بسرعة ودقة ميزة استراتيجية كبيرة.
إن دمج الذكاء الاصطناعي في عمليات صنع القرار وبناء الاستراتيجيات، على الرغم من أنه قيمة مضافة ويوفر نتائج نوعية، فإنه يجلب معه مجموعة من التحديات تحتاج إلى معالجة مدروسة.
خصوصية البيانات
أحد الاهتمامات الأساسية هو خصوصية البيانات. نظراً لأن أنظمة الذكاء الاصطناعي تعتمد اعتماداً كبيراً على البيانات لاتخاذ القرارات، فهناك خطر إساءة التعامل مع المعلومات الحساسة أو كشفها. ويتجلى هذا الخطر بصورة خاصة في الصناعات التي تتعامل مع البيانات الشخصية، مثل الرعاية الصحية أو التمويل، إذ يمكن أن تكون تداعيات خروقات البيانات شديدة. يُعد ضمان اتخاذ تدابير قوية لحماية البيانات والامتثال للوائح الخصوصية أمراً ضرورياً.
التحيّز
التحدي الكبير الآخر هو احتمال التحيز في خوارزميات الذكاء الاصطناعي. تتعلم أنظمة الذكاء الاصطناعي من البيانات، وإذا كانت هذه البيانات تحتوي على تحيزات، فإن قرارات الذكاء الاصطناعي ستعكس هذه التحيزات. وقد يؤدي ذلك إلى نتائج غير عادلة أو تمييزية، خاصة في مجالات مثل التوظيف أو الموافقة على القروض أو الأحكام القضائية. تُعد المراجعة المنتظمة لخوارزميات الذكاء الاصطناعي للتأكد من عدم التحيز والتنوع في بيانات التدريب وتصميم الذكاء الاصطناعي الشفاف خطوات أساسية للتخفيف من هذا التحدي.
الصندوق الأسود
تشكل الآثار الأخلاقية المترتبة على أنظمة اتخاذ القرار الآلية تحدياً خطيراً أيضاً. مع ازدياد تطور أنظمة الذكاء الاصطناعي، هناك قلق
متزايد بشأن الافتقار إلى الشفافية في كيفية اتخاذ هذه الأنظمة للقرارات، وهو ما يشار إليه غالباً باسم مشكلة "الصندوق الأسود". وهذا الافتقار إلى الشفافية قد يجعل من الصعب فهم قرارات الذكاء الاصطناعي أو تحديها، ما يثير تساؤلات أخلاقية حول المُساءلة والتحكم.
الرقابة البشرية
علاوة على ذلك، هناك مسألة إيجاد التوازن بين الأتمتة والرقابة البشرية. في حين أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يعزز الكفاءة والدقة بصورة كبيرة، فإن الاعتماد المفرط على الأنظمة الآلية يمكن أن يؤدي إلى الاسترخاء وغياب الحكم البشري النقدي. ومن الأهمية بمكان الحفاظ على مستوى من الرقابة البشرية في عمليات صنع القرار التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، وضمان أن القرارات لا تعتمد على البيانات فحسب، بل تتكيف أيضاً مع الخبرة البشرية، وتتميز بالتعاطف، وتأخذ بالاعتبارات الأخلاقية.
إن تأثير الذكاء الاصطناعي على صنع القرار وبناء الاستراتيجيات هو تأثير تحويلي وبعيد المدى، ومن المتوقع أن يُحدث هذا ثورة في كيفية تعامل المؤسسات مع حل المشكلات وصياغة الاستراتيجيات. ومع تقدم التكنولوجيا، فإن إمكانات الذكاء الاصطناعي لمساعدة الشركات على التغلب على تعقيدات العالم الحديث أضحت هائلة، ما يعِد بمستقبل تكون فيه عملية صنع القرار أكثر حكمة، والاستراتيجيات أكثر ديناميكية، والمؤسسات أكثر مرونة في مواجهة التغيير.