يمثل الذكاء الاصطناعي في مجال الرعاية الصحية، بما فيه تعلم الآلة، فرصاً مدهشة لتحويل فضاء العلوم الصحية والحياتية. كما يقدّم آفاقاً مثيرة لاتخاذ قرارات سريرية أكثر دقة وسرعة، إلى جانب إمكانات بحث وتطوير مضاعفة. وعلى أي حال، تبقى المسائل العالقة حول التنظيم والملاءمة السريرية على حالها، ما يدفع مطوّري التكنولوجيات والمستثمرين المحتملين إلى التعامل مع كيفية التغلب على العقبات الحالية التي تقف حائلاً في وجه الاعتماد والامتثال والتنفيذ.
عقبات تطبيق الذكاء الاصطناعي في مجال الرعاية الصحية
إليك العقبات الرئيسة التي يتعين مراعاتها، وكيفية التعامل معها:
تطوير أطر عمل تنظيمية
على مدار السنوات القليلة الماضية،كانت إدارة الدواء والغذاء (إف دي أيه) الأميركية تتخذ خطوات تدريجية لتحديث إطار عملها التنظيمي لمواكبة السوق الصحية الرقمية سريعة التطور.وفي عام 2017، أصدرت الإدارة خطة عمل الابتكار في مجال الصحة الرقمي لتوضيح دورها في تطوير تكنولوجيات صحة رقمية آمنة وفعالة، وتناولت أهم البنود في قانون علاجات القرن الحادي والعشرين.
كما كانت إدارة الدواء والغذاء (إف دي أيه) الأميركية تقوم بتسجيل نخبة من مطوري البرمجيات كأجهزة طبية (SaMD) في برنامجها التجريبي لما قبل اعتماد برمجيات الصحة الرقمية (Pre-Cert). ويكمن الهدف من هذا البرنامج في مساعدة الإدارة على تحديد المقاييس ومؤشرات الأداء الرئيسة المطلوبة لما قبل اعتماد المنتجات، بالتزامن مع تحديد طرق ترمي إلى جعل عملية الاعتماد أكثر سهولة بالنسبة للمطوِّرين والمساعدة في زيادة وتيرة الابتكار في قطاع الرعاية الصحية. في الآونة الأخيرة، أصدرت إدارة الدواء والغذاء (إف دي أيه) الأميركية في شهر سبتمبر/ أيلول سياستها الخاصة بوظائف برمجيات الأجهزة والتطبيقات الطبية للمحمول، وهي عبارة عن سلسلة من المستندات التوجيهية تصف الكيفية التي تخطط بها الإدارة لتنظيم البرمجيات التي تساعد في دعم القرارات السريرية، بما فيها البرمجيات التي تستفيد من خوارزميات قائمة على تعلم الآلة.
اقرأ أيضاً: 3 خرافات عن تعلم الآلة في مجال الرعاية الصحية
وفي بيان متصل صادر عن إدارة الدواء والغذاء (إف دي أيه) الأميركية، بيّنت إيمي أبيرنيثي، النائب الرئيسة المفوّضة، أنّ الإدارة تخطط إلى تشديد الرقابة التنظيمية على "وظائف البرمجيات عالية الخطورة"، مثل تلك المستخدمة في ظروف صحية أكثر خطورة أو حرجة. ويتضمن ذلك برمجيات تستفيد من الخوارزميات القائمة على تعلم الآلة، حيث قد لا يفهم المستخدمون بسهولة "منطق البرنامج ومدخلاته" دون توفر مزيد من الشرح والتوضيح.
ومن الأمثلة على برمجيات دعم القرارات السريرية التي ستندرج تحت تصنيف الرقابة "عالية الخطر" لدى إدارة الدواء والغذاء (إف دي أيه) الأميركية تحديد مريض يواجه خطر ظروف طبية حرجة محتملة، مثل الإصابة بمرض للقلب والشرايين بعد العمليات، لكن هذا لا يفسِّر لماذا حدّدت البرمجيات ذلك.
الحصول على اعتماد إدارة الدواء والغذاء (إف دي أيه) الأميركية
لمراعاة تحول عمليات الرقابة واعتماد إدارة الدواء والغذاء (إف دي أيه) الأميركية، يجب على مطوّري البرمجيات التفكير ملياً في كيفية تصميم منتجاتهم وإطلاقها على النحو الأفضل حتى تكون في وضع جيد يسمح لها بالحصول على اعتماد إدارة الدواء والغذاء (إف دي أيه) الأميركية.
وأحد العوامل التي يجب أخذها بعين الاعتبار هي حقيقة أنّ الأدوات العلاجية أو التشخيصية المُدارة بالذكاء الاصطناعي، بطبيعتها، ستستمر بالتطور. على سبيل المثال، من المنطقي توقع أنّ أحد منتجات البرمجيات سيجري تحديثه وتغييره مع مرور الوقت (كتحديثات أمنية، إضافة مزايا أو وظائف جديدة، تحديث خوارزمية ما، إلخ). لكن نظراً للتغيير الفني الذي طرأ على المنتج، لا يمكن المخاطرة بوضع اعتماد إدارة الدواء والغذاء (إف دي أيه) الأميركية بعد كل تحديث أو كل تعديل جديد.
وفي هذه الحالة، قد يصب التخطيط لاتباع نهج قائم على النسخة في عملية اعتماد إدارة الدواء والغذاء (إف دي أيه) الأميركية في مصلحة المطوّرين. وفي هذا النهج، تُجهز نسخة جديدة من البرمجيات في كل مرة تُدرّب فيها خوارزميات تعلم الآلة الداخلية للبرمجيات بمجموعة جديدة من البيانات، حيث تخضع كل نسخة جديدة لاعتماد مستقل من إدارة الدواء والغذاء (إف دي أيه) الأميركية.
وعلى الرغم من تعقيد هذا النهج، إلا أنه يتفادى هواجس إدارة الدواء والغذاء (إف دي أيه) الأميركية إزاء اعتماد منتجات برمجية تتغير وظيفتها بعد الاعتماد. وتعتبر اعتبارات التطوير الاستراتيجية هذه بالغة الأهمية، ويتعين على مقدِّمي الحلول مراعاتها.
وبالمثل، يجب أن يمتلك المستثمرون فهماً واضحاً لخطط تطوير المنتجات في الشركة ونهجاً مخصصاً للاعتماد المستمر من إدارة الدواء والغذاء (إف دي أيه) الأميركية، حيث يمكن أن يوفر ذلك تفريقاً واضحاً عن المنافسين الآخرين في نفس المجال. سيضطر الأطباء السريريون إلى تبني تكنولوجيات لم تقم إدارة الدواء والغذاء (إف دي أيه) الأميركية بالتحقق منها، لذا فمن الضروري أن يتأكد المستثمرون من امتلاك الشركات التي يدرسون دعمها لخريطة طريق واضحة لتطوير المنتجات، بما فيها نهج خاص باعتماد إدارة الدواء والغذاء (إف دي أيه) الأميركية مع استمرار تطور المنتجات البرمجية والتوجيهات التنظيمية.
الذكاء الاصطناعي هو صندوق أسود
إلى جانب الغموض الحالي في التشريعات، ثمة مشكلة أخرى مهمة تطرح تحديات لاعتماد تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الأطر السريرية، وهي طبيعته التي يكتنفها الغموض ومشاكل الثقة المترتبة عليه.
أحد هذه التحديات هي المتابعة: إذا حدثت نتيجة سلبية، فهل يمكن متابعة عملية اتخاذ القرارات التي يقوم بها التطبيق القائم على الذكاء الاصطناعي وتقييم هذه العملية، كأن يستطيع المستخدمون تحديد بيانات التدريب أو مخطط تعلم الآلة أو كليهما مما أدى إلى ذلك السلوك الذي انتهجه تطبيق الذكاء الاصطناعي دون غيره؟ ولتبسيط ذلك، هل يمكن تحديد السبب الرئيس للنتيجة السلبية في إطار التكنولوجيا حتى يمكن تفاديه في المستقبل؟.
تعتبر عملية الاكتشاف معقدة، من إعادة تصنيف بيانات التدريب إلى إعادة تصميم خوارزميات تعلم الآلة التي "تتعلم" من بيانات التدريب، ويمكن أن تتسبب في إزالة التطبيق من السوق.
ويتمثل أحد الهواجس الأخرى للجانب الغامض لأنظمة الذكاء الاصطناعي في أنّ باستطاعة شخص ما، سواء عن قصد أم عن طريق الخطأ، أن يُغذي النظام ببيانات غير صحيحة، ما يُفضي إلى استنتاجات خاطئة (مثل الخطأ في التشخيص أو توصيات العلاج غير الصحيحة). ولحسن الحظ، يمكن لخوارزميات الرصد المصممة لتحديد المُدخلات المفبركة أو غير الصحيحة تقليص هذا الخطر، أو التخلص منه.
اقرأ أيضاً: 11 إجراءاً يتعين على قطاع الرعاية الصحية اتخاذها لتحسين أمنه السيبراني
وأحد التحديات الكبرى التي تتسبب بها الطبيعة الغامضة لأنظمة الذكاء الاصطناعي هو أنّ الأطباء السريريين يترددون في الثقة بشيء لا يفهمونه بالكامل (ويُعزى ذلك جزئياً إلى المخاطر المتعلقة بالمسؤولية وسوء الممارسة)، وبالتالي فهم يترددون في اعتمادها. فمثلاً، يوجد عدد من الشركات الناشئة في مجال التشخيص بالتصوير القائم على الذكاء الاصطناعي تمتلك أدوات برمجية مستندة إلى الذكاء الاصطناعي ومعتمدة من إدارة الدواء والغذاء (إف دي أيه) الأميركية باستطاعتها مساعدة الأطباء السريريين في تشخيص حالات وعلاجها، مثل السكتات الدماغية واعتلال شبكية العين السُكّري والنزيف داخل الجمجمة والسرطان.
وعلى أي حال، فقد كان الاعتماد السريري لهذه الأدوات القائمة على الذكاء الاصطناعي بطيئاً. ويتلخص أحد الأسباب وراء هذا في قيام هيئات ترخيص الأطباء مثل كلية الطب الإشعاعي الأميركية (ACR) مؤخراً بالبدء في إصدار حالات استخدام رسمية حول كيفية استخدام أدوات برمجيات الذكاء الاصطناعي بشكل موثوق. كما أنّ من المحتمل أن يكون لدى المرضى مشاكل في الثقة بالتكنولوجيات القائمة على الذكاء الاصطناعي. وفي حين يمكن أن يتقبلوا حقيقة أنّ الخطأ البشري أمر وارد، إلا أنهم يكادون لا يتسامحون مع أخطاء الآلة.
وفي الوقت الذي تُبذل فيه جهود لإزالة الغموض الذي يكتنف الذكاء الاصطناعي، فقد يتمثل الدور الأكثر فائدة للذكاء الاصطناعي في الأطر السريرية خلال هذه المرحلة المبكرة من الاعتماد في مساعدة مقدمي الرعاية على اتخاذ قرارات أفضل بدلاً من استبدالهم في عملية اتخاذ القرار. ربما لا يثق معظم الأطباء بصندوق أسود، لكنهم سيستخدمونه كنظام دعم إذا كانت لهم الكلمة الفصل.
ولكسب ثقة الأطباء، سيتعين على مطوِّري برمجيات الذكاء الاصطناعي إثبات أنّ دمج الحلول في عملية اتخاذ القرارات السريرية سيساعد الفريق السريري على أداء عمله بشكل أفضل. ويجب أن تكون هذه الأدوات بسيطة وسهلة الاستخدام. يتعين أن يساعد تطبيق الذكاء الاصطناعي في مهام لا تنطوي على خطر كبير، مثل إصدار الفواتير والتشفير (للتشخيص والعلاجات بمساعدة الذكاء الاصطناعي) على زيادة الثقة مع مرور الوقت.
وعلى مستوى القطاع، ثمة حاجة إلى جهد مركز لنشر حالات استخدام رسمية أكثر تدعم فوائد الذكاء الاصطناعي. ويتعين أن يقوم مطوِّرو البرمجيات والمستثمرون بالعمل مع مؤسسات مهنية مثل كلية الطب الإشعاعي الأميركية لنشر المزيد من حالات الاستخدام وتطوير أطر أكثر لتحفيز اعتماد القطاع وكسب مصداقية أكبر.
تقليل العقبات في العلوم الحياتية. في الوقت الذي لا يزال يواجه فيه تطبيق الذكاء الاصطناعي في إطار الرعاية السريرية الكثير من التحديات، فإن عراقيل الاعتماد أقل بالنسبة لحالات استخدام معينة في العلوم الحياتية. فمثلاً، يعتبر تعلم الآلة أداة استثنائية لملاءمة المرضى بالتجارب السريرية ولاكتشاف الأدوية وتحديد العلاجات الفعالة.
لكن سواءً كان الأمر يتعلق بالقدرة في مجال العلوم الحياتية أم أطر الرعاية السريرية، تبقى الحقيقة أنّ الكثير من أصحاب المصلحة من الممكن أن يتأثروا بانتشار الذكاء الاصطناعي في قطاعات الرعاية الصحية والعلوم الحياتية. لا شك أنّ العقبات موجودة في طريق اعتماد أوسع نطاقاً لتقنيات الذكاء الاصطناعي، من عدم وضوح التشريعات إلى قلة الثقة إلى ندرة حالات الاستخدام المشروعة. لكن الفرص التي تقدمها التكنولوجيا لتغيير معيار الرعاية وتعزيز الكفاءة ومساعدة الأطباء السريريين على اتخاذ قرارات قائمة على معرفة أكبر، كلها تستحق الجهد المبذول للتغلب على هذه العقبات التي تواجه الذكاء الاصطناعي في مجال الرعاية الصحية.
اقرأ أيضاً: