ملخص: قد يكون مصطلح "الاستقالة الصامتة" جديداً، لكنه في الواقع أحدث تعبير عن أحد الجوانب الأساسية للطبيعة البشرية: غالباً ما يستجيب الموظفون للضغوط المستمرة التي لا يمكن التكيف معها بالاستسلام ببساطة. بكلامٍ آخر، لماذا ستحاول تحسين مسارك المهني إذا لم يكن بمقدورك التحكم في أي شيء؟ لطالما أطلق العلماء على هذه الاستجابة اسم "العجز المكتسب"، لكن الأبحاث الحديثة تشير إلى أن السلبية هي استجابتنا الفطرية المتأصلة فينا للمِحَن الشديدة الطويلة. يمكن للمؤسسات الحدّ من السلبية بين الموظفين عبر منحهم تجربة مباشرة من الاستقلالية يشعرون من خلالها بالسيطرة على حياتهم وخياراتهم.
يبدو العالم وكأنه يخرج عن نطاق السيطرة أكثر فأكثر مع ما نشهده من وابل يومي من الأخبار المروعة والقلق الاقتصادي. لا عجب في أن 31% من الأميركيين يعانون الاكتئاب والقلق -أي ثلاثة أضعاف معدل ما قبل الجائحة- ونحو 50% من قوة العمل تعبر عن عدم رغبتها بالقيام بأي أعمال تتجاوز المهام الأساسية لوظائفها.
وحتى لو قال البعض إن ما يسمى "الاستقالة الصامتة" ترسم حدوداً صحية بين العمل والوقت الشخصي، فإن اتخاذ إجراءات مثل الانسحاب من فريقك وقصر التواصل على ما هو مطلوب تحديداً والبقاء صامتاً بدلاً من المساهمة في الاجتماعات هي "مؤشرات كلاسيكية لتلاشي الحافز وانخفاض الانخراط في العمل".
قد يكون مصطلح "الاستقالة الصامتة" جديداً، لكن ما يحدث في الواقع هو أحدث تعبير عن أحد الجوانب الأساسية للطبيعة البشرية: غالباً ما يستجيب الموظفون للضغوط المستمرة التي لا يمكن الهرب منها بالاستسلام ببساطة. بكلامٍ آخر، لماذا ستحاول تحسين مسارك المهني إذا لم يكن بمقدورك التحكم في أي شيء؟
يدعو العلماء هذه الظاهرة "العجز المكتسب": عندما تمر بموقف صعب لا يتحسن فيه أي شيء مهما فعلت، فإنك تميل إلى البقاء يائساً وسلبياً، حتى في المواقف الجديدة التي يكون لديك سيطرة فيها بالفعل.
تُظهر إحدى الدراسات كيف يمكن أن يحدث ذلك. أعطى الباحثون الطلاب ورقةً فيها 3 جناسات تصحيفية ناقصة (لعبة تنطوي على إعادة ترتيب حروف كلمة ما لتكوين كلمة جديدة) لحلها، ودون علم الطلاب، كانت هناك نسختان مختلفتان من الورقة. كان حل الجناس الأول والثاني في الورقة الأولى سهلاً، بينما كان الجناس الأول والثاني في الورقة الثانية مستحيل الحل، وكان حل الجناس الثالث في كلتا الورقتين نفس الكلمة وسهلاً.
تمكّن الطلاب الذين اكتشفوا الكلمتين الأولى والثانية في الورقة الأولى من اكتشاف الكلمة الثالثة بسهولة، بينما بقي الطلاب الذين وجدوا أنفسهم في موقف صعب لا يمكن تجاوزه -محدقين في اثنين من الجناس الناقص اللذين يستحيل حلهما- عاجزين ومشوشين، ولم يجربوا حتى حل الجناس الناقص الثالث. قال أحد الطلاب: "لم نستطع حل الجناس الأول والثاني، لماذا إذاً نحاول حل الجناس الثالث؛ لن ننجح بالتأكيد".
ما سبب العجز المكتسب؟
تم تعريف "العجز المكتسب" في الأصل في الستينيات في تجربة نفسية شهيرة لم يكن ليُسمح بإجرائها في الوقت الحالي نظراً لقساوتها. قام عالم النفس الذي أسس عمله اللاحق لمجال فرعي في علم النفس يُدعى "علم النفس الإيجابي"، مارتن سيليغمان، بربط الكلاب إلى منصة مكهربة تسمح بتوجيه صعقات كهربائية لهم عبر أرجلهم الخلفية. بمرور الوقت، وبعد أن تعلمت الكلاب أنها عاجزة عن تحرير نفسها، توقفت عن المحاولة.
غيّر سيليغمان ظروف التجربة، حيث نقل الكلاب إلى منصة معدنية مكهربة، ولكن كان بمقدورها الهرب هذه المرة بسهولة، لكن الكلاب لم تحاول الهرب مطلقاً. اعتقدت الكلاب أنها ما تزال عاجزة، واستلقت على الأرض ونبحت بصوت خافت وتقبّلت مصيرها واستسلمت، وبالتالي لم تكتشف الكلاب مطلقاً أن بمقدورها الهرب بسهولة.
خلص سيليغمان إلى أن البشر يستجيبون بنفس الطريقة التي تستجيب بها الكلاب، أي إذا افترضنا أن شيئاً لن يتغير مهما فعلنا، فسنتوقف عن محاولة تحسين ظروفنا.
ومع ذلك، دفعت الأبحاث اللاحقة سيليغمان إلى تغيير وجهة نظره الأولية كلياً. كان الباحث المشارك في تجربة سيليغمان الأصلية، ستيفن ماير، قد غيّر مجاله لاحقاً وأصبح متخصصاً في الأعصاب، وأجرى أبحاثاً أشارت إلى أن العجز ليس استجابة ناتجة عن تحمل مواقف قاسية لا يمكننا التحكم بها. وبدلاً من ذلك، فإن السلبية هي استجابتنا الفطرية المتأصلة للمِحَن الطويلة. أي عندما نواجه تجارب سلبية لفترة طويلة من الوقت، يفترض دماغنا أنه لا يمكننا التحكم في الظروف ونستسلم للأمر الواقع، وهي استجابة فطرية أطلق عليها ماير وسيليغمان "السلبية الفطرية" (Default passivity).
لهذه النتيجة عواقب بعيدة المدى، لأنها تفترض أن العجز المُكتسب لا يتم تعلّمه حقاً. بدلاً من ذلك، فإن الاستسلام للوضع الراهن والقبول به على نحو سلبي هو رد الفعل البشري الطبيعي على المِحَن الطويلة، مثل جائحة طال أمدها، أو وظيفة تكرهها ولكنك لا تملك خيار التخلي عنها.
تقدم فرضية "السلبية الفطرية" تفسيراً لظاهرة الاستقالة الصامتة. لقد تعرض الناس للتوتر لسنوات، لكنهم لا يتمتعون بخيار الاستقالة من الوظيفة. ونظراً لشعورهم بالعجز عن التكيف مع موقف مثير للقلق، فإنهم يستجيبون بطريقة بتنا نعرف الآن أنها طبيعية ويمكن التنبؤ بها: يصبحون سلبيين. فلا يسهمون بأفكار في الاجتماعات، ولا يأخذون زمام المبادرة للتبديل بين الفِرق أو البحث بشكل استباقي عن عمل أكثر جدوى. إنهم ينفذون المهام المطلوبة منهم فقط لتجنب التعرض للطرد من العمل.
مكافحة السلبية الفطرية في مكان العمل
لحسن الحظ، السلبية ليست حالة دائمة بالضرورة، فقد أثبتت الدراسات السابقة أنه بالإمكان التغلب على الشعور بالعجز. لاختبار ذلك، قام سيليغمان وزملاؤه بنقل الكلاب التي تشعر بالعجز من المنصة المكهربة إلى مكانٍ الآخر كانوا فيه بمأمن من الصعقات الكهربائية. وبعد بضع جولات من نقلها إلى مكانٍ آمن، تخلصت الكلاب من سلبيتها وبدأت بالاستجابة من تلقاء نفسها كلياً، وقد نجح هذا التدخل في التغلب على حالة العجز في جميع الكلاب، وكان تعافيها كاملاً ودائماً.
إذاً كيف يمكن للمؤسسات التغلب على السلبية بين الموظفين للحد من ظاهرة الاستقالة الصامتة؟ يمكن أن يتم ذلك من خلال منح الموظفين تجربة مباشرة من الاستقلالية يشعرون من خلالها بالسيطرة على حياتهم وخياراتهم. يمكن للمدراء القيام بذلك بطريقتين:
أولاً، النظر في الخيارات التي يمكن منح الموظفين من خلالها مزيداً من الاستقلالية. على سبيل المثال، ترك الخيار لهم في تحديد جداول مواعيدهم والمواعيد النهائية أو اختيار العمل من المنزل أو المكتب عندما يكون ذلك ممكناً، والسماح لهم باختيار من يتعاونون معه وكيفية تنظيم وقتهم ومقاربتهم في إنجاز عملهم. ويمكن أيضاً الطلب منهم إبداء آرائهم ومدخلاتهم حول الأهداف والاستراتيجيات، ومنحهم دوراً في صنع القرار.
وبالإضافة إلى منح الموظفين مزيداً من الاستقلالية، شجعهم على ممارسة الاستقلالية التي يتمتعون بها في الأصل من خلال اتخاذ قراراتهم الخاصة متى أمكن ذلك لتطوير ما يسميه علماء النفس "مركز الضبط الداخلي" (internal locus of control)، فالدماغ يتوق للتعامل مع الخيارات المتعددة، وتظهر الدراسات أنه حتى مجرد توقع القيام باتخاذ قرار ينشط "الجسم المخطط" (ventral striatum)، وهو منطقة من الدماغ مرتبطة بالتوقع والإثارة. شجع الموظفين على تغيير الطريقة التي يعملون بها إن كان ذلك يناسبهم، والقيام بالمهام التي تثير اهتمامهم والتركيز على التعلم. قد ينطوي ذلك على منحهم حرية اختيار المهام التي يرغبون بها أو تولي مهام أكثر صعوبة لتعلم مهارات جديدة.
ثانياً، بغض النظر عن دور الموظف، دعه يعلم أن أفكاره حول جعل عمله أكثر جدوى مرحب بها طالما أنها لا تزال تخدم احتياجات الفريق والمؤسسة. على هذا النحو، عندما يصبح العمل مرهقاً ويشعر الموظف باليأس والإحباط، سيميل إلى اتخاذ إجراءات لتحسين وضعه بدلاً من المعاناة في صمت.
لا تنسَ أن الاستقالة الصامتة تحدث عندما يشعر الموظفون بأنهم محاصرون. وبالتالي، كلما زادت الحرية التي يمكنك منحهم إياها، قلَّ شعورهم بالحاجة إلى الاستجابة بطريقة سلبية غير منتجة.