في عالمنا العربي، كان الوصول إلى منصب "مدير" يعد ذروة الطموح المهني. لكن هل ما زال هذا اللقب مغرياً؟ دراسة جديدة من شركة التوظيف العالمية "روبرت والترز" كشفت أن 52% من الجيل زد لا يريدون أن يصبحوا مدراء. ليس لأنهم لا يملكون الكفاءة، بل لأنهم يملكون منظوراً مختلفاً للنجاح.
هذا الجيل، الذي ولد بعد عام 1997، شاهد معاناة المدراء في الأزمات: ساعات العمل الطويلة، ضغوط الموظفين، وتغيّرات لا تنتهي. ولذلك، 69% منهم يرون أن المناصب الإدارية مرهقة ولا تُكافأ بما يكفي، و72% يفضلون أن ينموا كخبراء مستقلين، لا كقادة فرق.
اللافت أن الشركات لا تزال تعتبر الإدارة الوسيطة "عصب الهيكل"، فـ 89% من أصحاب العمل يرون فيها مفتاح النجاح. هنا ينشأ التوتر: ما تراه الإدارة تقليدياً "ترقية"، يراه الجيل الجديد "تنازلاً عن الحرية والمهارة مقابل ورطة إدارية".
المدير المتعب، لم يعد قدوة جيل زد، الممتد من مواليد 1997 حتى 2012، نشأ في ظل تحولات اقتصادية متسارعة وأزمات وظيفية مزمنة. شاهد الآباء والزملاء يُستنزفون في مناصب إدارية وسطى، دون مقابل يوازي الجهد والتوتر. لذلك، لا يطمحون لكرسي المدير، بل يبحثون عن مسار مختلف أكثر هدوءاً، وأقل بيروقراطية.
بحسب دراسة روبرت والترز 71% منهم يفضّلون التطور المهني الذاتي كأفراد متخصصين (individual contributors) بدلاً من قيادة الآخرين. في نظرهم، الترقية الحقيقية ليست في إدارة الناس، بل في إدارة المهارات والتأثير من خلال النتائج.
لماذا يرفضون الإدارة الوسطى؟
تفصل الدراسة أسباب هذا العزوف الجماعي عن مناصب الإدارة المتوسطة، ومنها:
- ضغط عالٍ دون صلاحيات كافية.
- مهام متعددة بلا مكافآت مناسبة.
- محدودية فرص التعلم والنمو الحقيقي.
- فقدان الارتباط المباشر بالعمل الحقيقي أو الفريق.
هذا الرفض ليس تمرداً على المسؤولية، بل تمسّكاً برؤية أكثر واقعية للنجاح: تأثير بلا توتر، ونمو بلا تسلّط.
من "مدير تقليدي" إلى "مُيسّر عمل" توصي الدراسة الشركات بإعادة هيكلة دور "المدير" بالكامل. بدلاً من أن يكون مراقباً وموجّهاً، يجب أن يتحوّل إلى ممكّن للفريق وميسّر للنجاح. من خلال:
- منح استقلالية أكبر للموظفين.
- تخفيف الأعباء الإدارية وتقسيم المهام بذكاء.
- خلق مسارات تعلم وتطوير حقيقية.
كما تقترح الدراسة تشجيع ثقافة "اللا مدير" (Unbossed Culture)، حيث يُقاس النجاح بالتمكين لا بالسيطرة، لكي نخلق بيئة عمل مناسبة للجيل الجديد.
في العالم العربي، هل نسمح لهم بالاختيار؟ في بيئات العمل العربية، لا يزال لقب "مدير" يحتفظ بهيبته التقليدية، وتفضله الأسر والسير الذاتية. لكن الأجيال الجديدة باتت أقل اكتراثاً بهذا التقدير الرمزي، وأكثر تركيزاً على ما يعزز قدراتهم ويخدم حياتهم.
نحن بحاجة إلى شجاعة مؤسساتية تسمح بإعادة التفكير في هيكل النجاح. أن نمنح الشباب فرصة أن يختاروا بين أن يكونوا مدراء أو أن يكونوا محترفين مستقلين يُقاس أثرهم لا بعدد موظفيهم، بل بجودة عملهم.
ينبغي على الشركات التفكير في مسارات مزدوجة للنمو: إما أن تقود فرقاً، أو تقود بأفكارك ومهاراتك دون أن تدير أحداً. بعض الشركات بدأت تمنح موظفيها مسؤوليات مبكرة دون أن تربطها بالإشراف.
في بيئتنا العربية، حيث العائلة تحتفل بلقب "مدير"، قد ينظر لهذا التوجه بتردد. لكن الواقع المهني يتغير. لم يعد النجاح سلّمًا يُصعد درجة بدرجة، بل أصبح طريقاً متشعّباً. الجيل الجديد لا يهرب من القيادة، بل يعيد رسم خريطتها.
هل حان الوقت لنسأل أنفسنا: هل نحتاج فعلاً أن نكون "مدراء" لنكون ناجحين؟ الجيل زد يقول: ليس بالضرورة.