كيف تشكل العواطف صنع الاستراتيجيات؟ استكشفنا الإجابة عن هذا السؤال عندما درسنا كيف تعامل الرؤساء التنفيذيون لشركة نوكيا مع التحديات الاستراتيجية القاسية التي مرت بها الشركة في الفترة ما بين العام 2007 والعام 2013. وفي إطار هذا البحث، قمنا بإجراء 120 مقابلة، منها 9 مع أعضاء مجلس الإدارة و19 مع كبار المدراء في الشركة.
وفي هذا السياق، نذكر أنّ شركة نوكيا كانت مهيمنة على أسواق الهواتف المحمولة والذكية في الفترة ما بين العام 2007 والعام 2008 عندما أطلقت شركة آبل هاتفها الآيفون وشركة جوجل نظام التشغيل أندرويد. أحدث منافسو شركة نوكيا ثورة في تجربة وتوقعات المستخدمين، ما جعل نظام تشغيل سيمبيان (Symbian) الذي تستخدمه شركة نوكيا قديماً ومنسياً. مع ذلك، تمسكت شركة نوكيا بنظام سيمبيان حتى العام 2011، حيث انتقلت إلى نظام تشغيل ويندوز للهواتف، الذي كان للأسف هو كذلك نظاماً دون المستوى المطلوب. وفي نهاية المطاف، شرعت شركة نوكيا في استراتيجية تجديد جذرية في العام 2013، حيث تخلت عن قسمها الخاص بالهواتف المحمولة وركزت جهودها على صناعة معدات الشبكات وبرمجياتها، وتسجيل براءات الاختراع واستكشاف الفرص في التقنيات القابلة للارتداء وإنترنت الأشياء. وخلال بحثنا وجدنا أنّ هذه القفزة الاستراتيجية الجريئة، تعود في جزء منها إلى مجلس الإدارة الذي تشكل حديثاً في شركة نوكيا والذي شهد نشاطاً مكثفاً لإدارة عواطف كبار المدراء في الفترة ما بين 2012-2013. وبهذا الصدد، اكتشفنا أنّ هذه الممارسات العاطفية التي استخدمتها شركة نوكيا آليات مفيدة أيضاً للمؤسسات التي تمر بفترات عصيبة.
الممارسة الأولى: رفع مستوى الثقة بوضع معايير جديدة للمحادثات.
كشف لنا عدة مدراء كبار وأعضاء من مجلس الإدارة أنّ قلة الثقة بين كبار المدراء وأعضاء مجلس الإدارة تسببت في ضعف جودة النقاشات الاستراتيجية بعد إطلاق منتجات الآيفون ونظام التشغيل أندرويد. وبهذا الصدد، كان كبار المدراء وحتى العديد من أعضاء مجلس الإدارة عاجزين أو خائفين من التحدث عن مخاوفهم بشأن خطورة التهديدات التجارية وضرورة إيجاد استجابة أقوى من شركة نوكيا. وكما وصف ذلك أحد كبار المدراء في الفترة من 2007 إلى 2011: "شعر العديد من أعضاء مجلس الإدارة أنهم لا يحظون دائماً بالتشجيع الكافي للتعبير عما يريدون قوله بالفعل في تلك الفترة".
وفي هذا السياق، سعى رئيس مجلس الإدارة الجديد الذي عُيّن عام 2012 إلى تحسين جودة النقاشات الاستراتيجية من خلال "إنماء ثقافة جديدة في الشركة؛ في المجلس وبين أعضاء المجلس وفريق الإدارة". وقد كان صريحاً في قوله أن قام بذلك لأنه "كان واضحاً تماماً أنّ الأمور لم تكن تمضي كما ينبغي". […] إن كان المجلس مكاناً يأتي إليه المدراء وركبهم ترتجف (كناية عن الخوف) ولديهم حل في أذهانهم، يريدون تمريره للمجلس، فإنّ هذه الاجتماعات لن تكون إلا اجتماعات كارثية". وضع مجلس الإدارة "قواعد ذهبية" محددة بدقة تنظم سير النقاشات فيه، وتتضمن إظهار الاحترام للأعضاء الآخرين والتفكير دائماً أنهم يتحدثون بنوايا حسنة؛ وقام المجلس بصرامة بالتأكد من الامتثال لهذه القواعد. وفي هذا السياق، أخبرنا أحد أعضاء المجلس أنه وبعد أن أدلى بتعليق عدائي لمدير كبير، أجبره رئيس المجلس على تقديم اعتذار لذلك المدير في الاجتماع المقبل.
زادت هذه الإجراءات من مستوى الثقة وأدت إلى إجراء حوارات أكثر انفتاحاً حول استراتيجية الشركة. من جانب آخر، أخبرنا مدير كبير بما يلي: "بوجود رئيس مجلس الإدارة الجديد، لم نعد خائفين، ولم نعد نفكر مرتين قبل أن نعبّر فعلاً عما نود قوله. لقد وجدت أنه من السهل جداً نقاش الأمور في المجلس والتعبير عن الأفكار بنزاهة والتفكير بصوت عالٍ. أما مع رئيس المجلس السابق، فلم يكن ذلك ليخطر لي على بال أصلاً". هكذا، استطاع كبار المدراء وأعضاء مجلس الإدارة التفكير في التحديات الاستراتيجية من عدة وجهات نظر مختلفة، الأمر الذي ساعدهم على الخروج بالعديد من الخيارات.
الممارسة الثانية: تقليص الارتباط العاطفي بالاستراتيجية السائدة من خلال وضع عدة خيارات جديدة، وليس بديلاً واحداً فقط.
في ما سبق، لم ينجح كبار مدراء شركة نوكيا في مراجعة استراتيجيتهم، ويعود ذلك في جزء منه إلى أنهم كانوا عاطفياً مرتبطين بالاستراتيجية السائدة القائمة على نظام تشغيل سيمبيان. وكما عبّر عن ذلك أحد المدراء الكبار في نوكيا: "لم يكن أحد من المدراء أو في المجلس متعلق عاطفياً بالاستراتيجية السائدة يود التفكير بالموضوع بشكل مباشر، على الرغم من أنّ كبار المدراء كانوا مدركين من خلال التحليلات أنه لا بدّ من تغيير الاستراتيجية السائدة والنتيجة كانت حِملاً عاطفياً مروعاً". ويعود هذا العجز في نقاش محدودية الاستراتيجية السائدة في جزء منه إلى غياب خيارات بديلة متاحة وجاهزة. وكما وصف ذلك مدير كبير آخر: "حتى لو كان رأيك الشخصي متمثلاً في ‘نأسف لهذا الأمر ، لأنه لن ينجح أبداً‘، ما كان باستطاعتك قول ذلك لأي شخص. إلا إن كان لديك خيار بديل جاهز. لا بدّ أن يكون لديك خيار قابل للتطبيق قبل أن تغيّر مسار الاستراتيجية أو الشركة".
في العام 2012، كان مجلس الإدارة الجديد يتمتع بالوضوح في وضع خيارات جديدة يمكنها تغيير عواطف كبار المدراء تجاه الاستراتيجية السائدة. "لقد بذلنا جهداً كبيراً لتحليل هذه الخيارات، ما ساعدنا على تقليص التعلق العاطفي بالاستراتيجية الحالية...لأنك إن امتلكت خيارات عدة فلن يكون خوفك كبيراً".
أدى الضغط المستمر من المجلس، إلى توليد وتحليل عدة خيارات ساهمت في ضبط عملية تقييم كبار المدراء -على الرغم من الدوافع العاطفية التي كانوا يشعرون بها- وجعلتهم يمتلكون فهماً أعمق وأشمل للوضعية: "كان عبء العمل ضخماً جداً، ولو لم يكن المجلس يطلب باستمرار المزيد من تحليل السيناريوهات، لكان هناك احتمال أنّ الإدارة ستقول 'إننا متعبون للغاية!، أليس من الواضح أنّ هذين الحلين هما البدائل الرئيسية؟ لماذا لا نختار هذين البديلين من ضمن الثلاثة الأخرى؟ وهنا يأتي دور المجلس الجديد الذي يلعب دوراً مهماً... في قول، ‘لا‘، لا بدّ أن ندرسهم جميعاً. لا بدّ أن ندرسهم ونحللهم طيلة الوقت. دعنا نعود إلى سبورة العرض'. وبسبب هذا، خرجنا بالكثير من المعلومات التي ساعدتنا في صياغة قرار أكثر دقة".
الممارسة الثالثة: حَثُّ كبار المدراء على الانتباه إلى البيانات التي تتعارض مع حدسهم وما يشعرون به.
في الماضي، ولا سيما عندما كانت شركة نوكيا في العام 2011 تفكر في نظام ويندوز أو أندرويد كبديل عن نظام سيمبيان، كان بعض كبار المدراء يفكرون تفكيراً خيالياً. وبهذا الشأن، قال أحد كبار المدراء: "كان هناك تحيز في رغبتنا أن نصبح رواداً في السوق. وظننا أنه باستخدام نظام ويندوز يمكن أن نكسب اللعبة؛ بدلاً من أن نستخدم نفس البدائل ‘الأندرويد‘ كأي شركة أخرى". في ما وصف أحد مدراء الاستراتيجية الوضع حينها كما يلي: "كان الجميع خارج شركة نوكيا يعتقدون أنّ نظام ويندوز فون لن ينجح. وكان التفكير المنطقي يقول 'أنا لا أؤمن بنظام تشغيل ويندوز فون لذلك سيؤدي استخدامه للفشل حتماً'، في حين أنك لو كنت تعتقد أن نظام ويندوز فون قد يكون له بعض الحظوظ...فلربما سيبدو حلاً بديلاً أفضل".
ولتجنب مثل هذا التفكير الخيالي، طلب مجلس الإدارة الجديد من المدراء والأعضاء الانتباه المركز للبيانات المتعلقة بتقدم الاستراتيجية السائدة في الفترة 2012-2013. تلى ذلك بشكل منتظم عرض الأرقام الرئيسية للمبيعات والتصرفات المحددة التي وضعت لمختلف عوائد المبيعات المتوقعة، وهكذا أصبحت ردود الأفعال في ما يخص البيانات الواردة أقل تحيزاً أثناء تفسيرها أو تحليلها. بيّن أحد أعضاء مجلس الإدارة كيف ساعدهم هذا "ليس في تقييم ما الذي سيحدث فحسب، بل في تقييم ما حدث بالفعل مقارنة بتوقعاتنا، ومن ثم كنا قادرين على مراجعة حساباتنا والنظر للصورة العامة، وما هي المنهجيات التي أدت لوضع التوقعات، ما أتاح لنا تعديلها في وقت لاحق لتتناسب وأهدافنا المرجوة".
بالإضافة إلى ذلك، تم تحليل عدة خيارات بدقة بغض النظر عما تبدو عليه من جاذبية لأول وهلة. والمثال المحدد عن هذه الاستراتيجية يتمثل في خيار انتقال شركة نوكيا من استخدام نظام ويندوز إلى نظام أندرويد في الفترة 2012-2013؛ الذي ظن مجلس الإدارة أول الأمر أنه الخطوة الصحيحة التي ستتيح له الاحتفاظ بهوية الشركة كمصنعة للهواتف الذكية؛ لكن هذا الخيار رفض في نهاية المطاف بناء على تحليل للبيانات: "انكشفت لنا من خلال هذا التحليل، شيئاً فشيئاً بعض الحقائق التي برزت بوضوح أمام أعيننا".
وبالمثل، تبدل الرفض الأولي الذي أبداه كبار المدراء لخيار شراء الأسهم الكاملة لشبكات نوكيا-سيمنز (Nokia-Siemens)، وهي مشروع مشترك بين شركة نوكيا وشركة سيمنز كان يتداعى من ناحية الأداء طيلة سنوات نظراً للصعوبات التي ظهرت بعد الدمج وظروف السوق. "عندما قدم المدير المالي هذا البديل لأول مرة، لم يتحمس له أعضاء المجلس بشكل فوريّ. ولكن بعد عدة مناقشات، بدا الأمر معقولاً، خاصة في ما يتعلق بالمقاييس المالية". وفي نهاية المطاف، استحوذت شركة نوكيا كلياً على شبكات نوكيا- سيمنز عام 2013، وشرعت في توسيع هذه الوحدة من الشبكات، حيث استحوذت على شركة "ألكاتيل-لوسنت" (Alcatel-Lucent) عام 2015.
باختصار، ساعدت هذه الممارسات المنظمة للعواطف كبار مدراء شركة نوكيا على اتخاذ أحد أصعب القرارات في تاريخها، والمتمثل في تجديد نفسها كلياً من خلال تصفية عملها التجاري الرئيسي. ومع أنّ هذه الخطوة فاجأت المراقبين الخارجيين، إلا أنّ كبار مدراء شركة نوكيا شعروا بقوة أنّ هذا القرار هو الخيار الصائب: "لم يكن قراراً بسيطاً أو سهلاً بطبيعة الحال، وطوال تلك المدة قمنا بدراسة الخيارات بدقة متناهية، ولم نترك أي تفصيل لم نستكشفه، لم يعد هناك أي مكان يمكن الاختباء فيه، وما كان بمقدروك القول حينئذ 'كلا، لا زال علينا أن نأخذ وقتنا ونفكر فيما يخص هذا الموضوع' أو حتى غيره من المواضيع"، وهكذا حوّل كبار المدراء وأعضاء المجلس التزامهم العاطفي طويل الأجل بما كان في ما سبق الشركة البارزة في صناعة الهواتف إلى التخلي الطوعي والجذري عن هويتهم وهيبتهم السابقة.
وبهذا الصدد، عادة ما يشار إلى إدارة عواطف الأشخاص على أنها "الأمور السهلة"، في ما يشار إلى الاستراتيجية وتخطيطها بأنها "الأمور الصعبة". إلا أنّ غوصنا العميق في تجربة شركة نوكيا بيّن لنا أنّ هذين الأمرين غير منفصلين عن بعضهما البعض كما يعتقد الكثيرون. بل أنّ إيلاء الاهتمام أكثر، في الواقع، إلى "الأمور السهلة" بإمكانه مساعدة أعضاء مجلس الإدارة وكبار المدراء في الشركات على تعزيز قدرتهم للتفكير بشكل استراتيجي أكثر في الأوقات العصيبة وفترات الزعزعة الكبيرة.