اعتمد ممارسو الرعاية الصحية تقليدياً على الاستدلالات السريرية لتحصيل معلومات عن المريض وترميزها ومعالجتها. فعندما يكون المريض يعاني من مشاكل متعددة ومعقدة، تحول هذه الاستدلالات السؤال الصعب للمريض "ما بي؟" إلى أسئلة أسهل، مثل "هل يعاني هذا الشخص من الاكتئاب؟"، وبعد ذلك يُعزّز استخدام الاستدلالات بتفعيل الرعاية المستندة إلى الأدلة في صورة بروتوكولات وإجراءات وقوائم مراجعة مصممة لزيادة الكفاءة وتقليل التباين في هذه العملية.
وتتمثل مشكلة هذا النهج في أنّ العاملين في المجال الطبي ينشغلون للغاية في البحث عما تدربوا على العثور عليه فيمكنهم في كثير من الأحيان تجاهل المعلومات التي يسهل العثور عليها. فعندما أجرت كلية هارفارد الطبية بحثاً في هذا المجال، لم يرَ 83% من أطباء الأشعة غوريلا مركّبة على صورة بالأشعة السينية، حتى عندما كانت أكبر بـ 48 مرة من العقيدة التي كانوا يبحثون عنها. وأظهرت أجهزة التتبع البصري أنّ جميع علماء الأشعة نظروا مباشرة إلى الغوريلا.
وفي حين أنّ النهج القائم على الاستدلالات منطقي عند أحد المستويات - نظراً إلى ضغوط التشغيل والتكلفة التي تواجهها الخدمات الصحية - يتمثل الأثر على المرضى في أنّ كثراً منهم يحصلون على تشخيصات وعلاجات متعددة، من دون أن يتعافوا. وعندما جمعت شركة موناش هيلث (Monash Health) لتقديم الرعاية الصحية المتكاملة ومقرها ملبورن، أستراليا بيانات كمية ونوعية في شكل خرائط حول رحلة المريض وحالات دخوله إلى مراكز الرعاية الصحية والمعلومات التشخيصية، وجدنا أنّ إعادة تقديم مرضى الصحة العقلية للمعلومات كان يرتفع، حتى على الرغم من أنّ النسبة المئوية لتقديم المرضى الجدد للمعلومات انخفضت خلال السنوات العشر الماضية.
أضف إلى ذلك أنّ أكثر من 50% من المعنيين بالتقديمات الأكثر تكراراً للمعلومات لديهم أكثر من أربعة تشخيصات نفسيّة مختلفة، وتلقوا العلاج الموصى به للحالات المعنية. وكشف تحليل آخر أنّ سبب هذا الفشل هو عدم معالجة الصدمة الكامنة لدى المرضى المعنيين. ولأننا لم نكن مستعدين لتقدير أهمية الصدمة في حياة مرضانا، اختبأت الحالة على مرأى منا، مثل الغوريلا الخاصة بجامعة هارفارد.
كيف نتجنب عدم التنبه إلى الغوريلا في المستقبل؟
تعلّم رؤية الحالات الكامنة
تكمن الإجابة، وفق بحثنا، في بناء علاقات قوية قائمة على الثقة مع المرضى، لكي يتمكن الأطباء من التجاوب بشكل أفضل مع المرضى بهدف الكشف عن صدماتهم ومعالجتها في نهاية المطاف. وهذا يتطلب بناء حلقة للملاحظات في عملية المعالجة لضمان تكييف النظام وتغييره.
لتجريب هذا النهج الجديد، أنشأت موناش هيلث "عيادات أجايل للطب النفسي" (Agile Psychological Medicine Clinics) الجديدة ("عيادات إيه بي إم" أو aPM Clinics). وفي كل تفاعل مع المرضى، يطلب الطبيب ملاحظات منهم حول نتائج العلاج وتجارب تفاعلهم مع المهنيين والممارسين في العيادات. وتتراكم الملاحظات إلى فرصة للمرضى لتبديد مخاوفهم وتقديم البيانات بطريقتهم الخاصة، ما يخرج الأطباء من مربع الاستدلالات. وعلى الرغم من أنّ هذه العملية تولّد عملاً إضافياً على الفور، فهي تمكن المعالج من الاستجابة والتأقلم الفوري مع ما يقوله المريض له وتضمن علاج المريض في سياق ثقافته وتفضيلاته.
وتُعَد نتائج التجربة مشجعة. فقد أبلغ المرضى الذين يزورون العيادات في المتوسط عن مستويات رضا عالية في شكل عام (96%) حول عملهم وحوارهم وعلاقتهم مع المعالج. وحقق المرضى الذين يتلقون علاج للصدمات تحسناً بنسبة 52% في أعراض الصدمة لديهم وتحسناً بنسبة 39% في أعراض الاكتئاب (من شديد إلى معتدل). وفي شكل ملحوظ، انخفضت نسبة المرضى في المجموعة الذين يعيدون تقديم معلوماتهم أثناء العلاج بنسبة 30%. وكل هذه النتائج مهمة سريرياً.
دعونا نلقي نظرة على مثال لما تقدمه العملية الجديدة.
مثال على ذلك
في كانون الثاني/يناير 2016، حضرت آش (ليس اسمها الحقيقي) إلى غرفة الطوارئ وهي تعاني من ألم وصعوبة شديدة في المشي. وأُدخِلت إلى جناح الأمراض العصبية للتقييم، لكن لم يُحدّد سبب بيولوجي لذلك. ولم تكن هذه أول زيارة لغرفة طوارئ. فعلى مدى ثماني سنوات، تلقت آش بالفعل العديد من التشخيصات النفسية من أخصائيين مختلفين _ اضطرابات ما بعد الصدمة والاكتئاب وغيرهما من الاضطرابات _ وتناولت مضادات الذهان طوال هذا الوقت.
وبعد إدخالها إلى جناح الأمراض العصبية في العام 2016، أُحيلَت آش إلى عيادة من "عيادات أجايل للطب النفسي". وأثبتت العيادة أنّ تشخيص آش للمرة الأولى بمرض الفصام، والذي عولج بمضادات الذهان، أُعطي بعد ولادة صادمة لطفل تبين أنه يعاني من مشاكل تنموية حادة. وخلال السنوات التي تلت كانت هي الوحيدة التي قدمت الرعاية الأساسية لابنها، وكانت علاقاتها برضيعها متوترة أيضاً.
وعلى الرغم من أنّ آش كانت تطالب بمعالجة الصدمة التي تعانيها منذ ولادتها الصادمة وشكت مراراً وتكراراً من أنّ الدواء حولها من امرأة ذكية إلى امرأة لم تتمكن من صنع ساندويتش من دون اتباع تعليمات مكتوبة، كانت عالقة في نمط من النشاط الطبي السريري تجاهل إلى حد كبير المعلومات التي تطوعت بتقديمها، وجرى تجاهل مسألة صدمتها في شكل شبه تام.
وبعد 14 جلسة فقط من العلاج العيادي الذي استهدف صدمة ولادة ابنها، لم تعد آش تستوفي معايير الإصابة بالفصام، أو اضطراب ما بعد الصدمة، أو الاكتئاب، أو أي من التشخيصات الأخرى التي تلقتها. وتوقفت عن تناول كل الأدوية المضادة للذهان، وتشعر بأنها عادت إلى حياتها، وهي درست في الجامعة خلال السنتين الماضيتين.
إنّ بناء علاقات متعاطفة مع المريض لا يثبت فقط فاعلية الأمر في علاج الذين يعانون من صعوبات في الصحة العقلية والتي تبدو مستعصية مثل آش. فنحن نجد أنّ العديد من أصحاب الأمراض المزمنة الذين يعانون من الأعراض الجسدية يستفيدون أيضاً من هذا النهج.
مراقبة مرضانا الأكثر عرضة للخطر في المنزل
هذا هو شعار خدمة "موناش ووتش" التي تركز على عدد قليل من الأشخاص المصنفين بأنهم معرضون لخطر الدخول إلى مراكز الرعاية الصحية ثلاث مرات أو أكثر في الأشهر الـ 12 التالية، وتستخدم الخدمة خوارزمية تستند إلى بيانات الترميز السريرية التي تُجمَع في شكل روتيني. وبما أنّ "أفضل 2%" من مقدمي العلاج في المستشفيات في أي عام يكونون مسؤولين عن 25% من تكاليف الرعاية الصحية المباشرة، يهدف البرنامج إلى تقليل اعتماد المرضى على الخدمات الصارمة للمستشفيات من خلال مساعدتهم على تحسين مستوى العافية.
واستناداً إلى نظام تسجيل رحلات علاج المرضى، وهو عبارة عن برنامج تحليلات طورته كارمل مارتن، وهي خبيرة في الأمراض المزمنة والعناية المركّزة على المريض وأستاذة مساعدة في عيادات "موناش هيلث"، تقدم هذه الخدمة للمرضى مجموعة من مرشدي العناية عن بعد الذين يتصلون بالمشاركين مرة أو أكثر في الأسبوع. ويتصل المرشد نفسه بالشخص نفسه في كل مرة، والهدف هو بناء علاقة ثقة مع المريض.
وبعد إنهاء سلسلة أسئلة صحية، يناقش المرشد استجابات المريض معه ويشاركه عموماً في حوار غير منظم نسبياً يحركه المريض ويسجله ويحلله نظام تسجيل رحلات علاج المرضى. وينشئ البرنامج تنبيهات إذا كانت الردود تشير إلى تراجع في الصحة، وإذا جرى تأكيد حدوث تغيير في الحالة، يُسلّم المريض إلى طبيب للمتابعة.
ويمكن لمرشدي العناية عن بعد أن يكتشفوا أيضاً التغيرات في الحالة الصحية من خلال الإصغاء بعناية إلى الكلمات الواردة في الردود، والتغيير في النبرة، وحالات التوقف المؤقت، لأنهم عرفوا مرضاهم كأشخاص، وليس فقط كردود على أسئلة ذات خانات اختيار للإجابات. ومع تقدمهم في وظائفهم، أصبحوا ماهرين في مراقبة الإشارات والرسائل التي يقدمها لهم المرضى وتوصيلها. ونحن نسمي مرشدينا للعناية عن بعد "الجيران المحترمين المحترفين" وهذا هو بالضبط ما تبين أنهم ما كانوا عليه.
وبمرور الوقت، لاحظ المرشدون والمدربون في شركة موناش عدداً من السمات المشتركة بين مرضاهم: فالعديد منهم كانوا قد فقدوا الإحساس بمعنى وجودهم في الحياة، وأصبحوا مكتئبين وقلقين، وكانوا يعانون من الألم. ولجأ البعض إلى التداوي الذاتي بالحبوب والمواد الأفيونية والكحول. ومن خلال التعمق أكثر في القصص التي رواها المرضى الواثقين لمرشدي الرعاية عن بعد، وجد فريق "موناش ووتش" مرة أخرى تاريخاً للصدمة السابقة متجذراً في الحالات المعروضة.
ويدرك معظم مرضى "موناش ووتش" أنّ العلاج _ حتى من الصدمة _ لن يتمكن من إلغاء الأثر المادي لماضيهم على صحتهم في شكل ملحوظ، لكنهم يفيدون أيضاً بأنّ وجود شخص يتصل بهم في شكل منتظم ومستعد للاستماع إلى أي شيء يدور في أذهانهم يقلل من القلق ويعيد الأمل لهم _ وهذا بحد ذاته له أثر إيجابي بمرور الوقت، ويساعد على تقليل تكرار الزيارات المزعجة إلى غرفة الطوارئ.
ويتلخص الدرس العام الذي تعلمناه من هذه التجارب في أنّ بناء علاقة عاطفية قائمة على الثقة مع المرضى ليس مجرد أمر لطيف بل إنه أمر ضروري كذلك. فهو يؤدي إلى توافر إمكانية لتحديد الظروف المخفية الكامنة التي يتسبب علاجها في منع ظهور الأعراض الظاهرة التي تسبب الضيق للمرضى وتفرض ضغوطاً هائلة على قدرة خدمات الرعاية الصحية. فالتعاطف لا ينقذ الأرواح فحسب، بل يوفر أيضاً المال والوقت. ولقد حان الوقت لبناء مكان له في العملية السريرية.