كانت أغلبها مملة؛ تدور حول وضع شروط دقيقة جداً لتفاصيل روتينية مملة في صفقاتهم التي لا تهم أحداً خلاف المعنيين بها. من تلك التجربة، توصلت إلى فرضية بسيطة: ربما لا يقتصر الكساد الذي يتعين علينا مواجهته على مقدار الناتج الاقتصادي الذي نحققه؛ بل يتجاوزه إلى طبيعة إسهامنا وأسبابه. لك أن تسمّّي ذلك "ركود الإمكانات البشرية"؛ أي إهدار أهمية العنصر البشري عمداً (في أشياء مثل هذه).
إذا كان هذا هو أفضل ما يسعنا فعله، فلا عجب أن اقتصادنا يعجز عن تحقيق إمكاناته؛ ولا غرابة في أن تبدو حياتنا فارغة وبلا معنى في بعض الأحيان (إنه فراغ يعيشه حتى أشهر النجوم وأنجحهم، إذ يبقون في تساؤل دائم عن السبيل إلى تحقيق ما هو أهم مما حققوه في حياتهم). لهذا السبب، أرى أنه إذا أردنا أن نصحح الوضع فيجب أن نتعامل مع الأمور ذات الأهمية الحقيقية بجدية أكبر. إليك 3 أسئلة لتطرحها على نفسك بشأن ما تفني فيه عمرك:
هل ستثبت الأيام قيمته؟
تأمل هذا السؤال، وفكر في أن أغلبنا يقضي الشطر الأكبر من حياته في كد وتعب على تنفيذ مهام سرعان ما تذهب طي النسيان بعد أشهر، لا بعد عام أو قرن. لك أن تستهين بما أقول، لكنني أقترح عليك أن تكون غايتك هي تحقيق إنجاز تثبت الأيام قيمته ويبقى حاضراً في الأذهان سنوات طويلة. ربما لا يكون منجزاً يبقى أبد الدهر، مثل أهرامات الجيزة؛ لكنه سيصمد بالتأكيد أكثر من بضعة أشهر، قبل أن يغيبه التاريخ مع حطام عصر النفايات الذي نعيش فيه. يمكنني أن أضرب لك بضعة أمثلة من واقعنا المعاصر، ولكن بغضّ النظر عن الأعمال التي يعكف عليها جيل جديد من الصناع والفنانين بكل شغف مثل إدارة مصنع مشروبات صغير أو كتابة رواية أو تصميم لعبة، فالحقيقة المرة هي أن أداءنا الثقافي في الأعمال التي تستثمر فيها أكبر مؤسساتنا ضعيف جداً وغير قادر على الصمود أمام اختبار الزمن (اسأل نفسك: هل سيهتم إنسان بمشاهدة الجزء الجديد من فيلم "مهمة مستحيلة" بعد قرن من الآن، باستثناء حفنة من مُريدي تراث الفن السابع في القرن الثاني والعشرين؟). ما أقصده من كل هذا بالطبع هو أن أغلبنا لا يجيد تقديم ما يمكنه الصمود أمام اختبار الزمن، وبالتالي لديك فرصة كبيرة للتميز وتحقيق هذا الخلود المنشود.
هل يؤكد تميزه؟
أول وآخر سؤال يُطرح خلال اجتماعات مجالس الإدارة، هو: هل ستعجب أحدث منتجاتنا وخدماتنا "الأسواق" والمؤسسات المالية و"المستهلكين" أكثر مما يقدمه المنافسون؟ هذه بطبيعة الحال وصفة مثالية للرداءة؛ فتحقيق الحد الأدنى من رضا المستهلكين المنهكين والمضطهدين والضجرين الذين رُوضوا على عدم المطالبة بأكثر من الحد الأدنى في كل منتج وخدمة، يعني تحطيم حدود الأداء المشترك الأدنى في السوق العامة دون أي إضافات أو تحسينات تذكر. تريد رفع سقف التحدي؟ اسأل نفسك: هل يهاجم النقاد والباحثون والمعنيون وألد الأعداء منتَجي أم عبّروا عن إعجابهم به؟ كي تشعر بأن لك قيمة وأهمية وتأثيراً، لا بد أن تدرك حقيقة أن آراء الناس تتفاوت في نوعيتها وأهميتها، وذلك ببساطة لأن بعض الآراء تكون أدق وتعتمد على ثقافة وفهم أكبر وعلى أسس تاريخية ووعي ذاتي أعلى مقارنة بغيرها.
هل تثق به ثقةً لا تتزعزع؟
أستطيع أن أتفهم بكل تأكيد سبب الاهتمام الشديد الذي أبداه الرجال والسيدات -الذين سمعت حواراتهم في مانهاتن- بما يفعلونه؛ فمن المثير للحماس أن يكون المرء جزءاً من وسط صاخب، لكن ثمة حقيقة ثابتة وهي أننا لن نحكي في آخر أيامنا عن المنجزات التي تهمنا بحق على النحو الآتي: "في العام 2012، بعت ألف نسخة أخرى من كتاب ناجح لم يأتِ بفكرة جديدة، من تأليف شخص آخر، لنائب رئيس مجلس إدارة متغطرس أشعث الشعر قبيح الأخلاق، في شركة احتكارية عملاقة لا تنفك تدمر مستقبل أحفادي. كم كانت حياتي غنية!". لذلك، في حين أنني أيضاً يفتنني الإفراط في الثناء أحياناً، كما حدث وأنا أنصت إلى تلك العيّنة الصغيرة من أهل مانهاتن، أود أن أتحداهم وأتحداك أن تمعن النظر في أسئلة القيمة والأهمية بأسلوب أرقى وأعمق وأكثر إنسانية؛ لا بأس في أن تعمل على تحقيق إنجاز يستمد جاذبيته من الشعبية الاجتماعية والعائدات المالية التي يكفلها لك، لكن رضاك عن ذاتك لن ينبع من المال أو السلطة، فأموال الدنيا لن تمنحك شعوراً حقيقياً بالإنجاز.
ليس سهلاً أن تكون إنساناً، ولكن هنا بيت القصيد! ففي سعينا الدؤوب لصنع منتجات أكثر وأكبر وأسرع وأرخص، أصبحنا نستهين بما لدينا من ثراء ونِعم في الحياة الهادفة التي لم ينضب معينها بعد. ولك أن تعتبر مقالي هذا بيان تمرد؛ انعتني بكل المفردات الإدارية "اللطيفة" التي تعرفها، وحاججني بكل النظريات والنماذج المثالية التي تعجبك، لكنني لن أقبل أبداً مقولة إن الإسفاف والتفاهة ورداءة المستوى وانعدام الجدوى هي أهداف تليق بأي إنسان، أو بأي منظومة بشرية، مهما كبرت أو تفرعت.
لسنا متشابهين، ولكننا نشترك في حقيقة أن على كل منا تحقيق أمر ذي قيمة وأثر حقيقي. أخبرني، ما أسئلتك الثلاثة التي تطرحها على نفسك حتى يصبح سعيك إلى الإنجاز حقيقياً؟