عند انطلاق "درافت الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية"، وهو الفترة التي يسمح فيها لفرق الدوري بالبحث عن عدد من اللاعبين "اللائقين" الجدد للانضمام إليها. وتعتمد فرق كرة القدم في بحثها عن المرشحين على مراجعة بيانات مستوى أدائهم فقط، ولا تلتفت إلى ترتيبهم في الكليات التي لعبوا فيها، أو إلى مهاراتهم التي يتحدثون عنها، بل تنظر فقط إلى البيانات الصرفة لأدائهم في التدريبات التي أتموها حديثاً في معسكر اكتشاف اللاعبين للدوري الوطني لكرة القدم الأميركية. فبناءً على تحليل بيانات أكثر من 300 لاعب شارك في معسكر التدريب سينتقل لاعبان فقط من أفضل عشرة لاعبين إلى المدارس المصنفة على المستوى الوطني. وأتى أفضل لاعب حسب اختبارات معسكر التدريب هذا العام من جامعة "هارفارد" بالرغم من أنها لا تشتهر كثيراً ببرامجها لتدريب فرق كرة القدم مقارنةً مع سمعتها التي يعرفها القاصي والداني في مجال تخريج قادة قطاع الأعمال.
يُمثل هذا النموذج في اختيار اللاعبين نقيضاً للنموذج الذي تعتمد عليه معظم الشركات في توظيف المواهب الجديدة. إذ تبدأ رحلتها في البحث وتصيّد الكفاءات من مخازن المواهب التي تأتي إليها جميع الشركات المنافسة، ثم تعمل على اختيار المرشحين معتمدة على معياري التخرج في كليات النخبة والدرجات العلمية المرتفعة كدليل لها على النوعية. وهكذا يتم اختيار المرشحين المحتملين بناءً على ما تقوله السير الذاتية، إلا أن هذه الأخيرة نادراً ما تقدم تقييماً كاملاً ودقيقاً لمهارات الفرد، أو تكشف عن مؤشرات مدى ملاءمة المرشحين للوظائف الشاغرة. وتعمل الشركات في المرحلة الأخيرة من أسلوب التوظيف التقليدي على تقييم المرشحين عبر مقابلات ذات بنية فضفاضة، لا يوجد فيها ضابط معياري للأداء، وتنتشر فيها حالات التحيز الضمني أو الصريح. وعبّر عن كل ذلك أحد كبار المسؤولين التنفيذيين بقوله: "إن كنت تريد حقاً معرفة كم يتمتع شخص معين بالطرافة وروح النكتة، لا تسأله عن ذلك، بل اطلب منه أن يروي لك نكتة".
أدركت المنظمات التي يعتمد نجاحها كاملاً على نوعية المواهب لديها، مثل الفرق الرياضية، أو الموسيقية، أو الكوميدية، منذ وقت مبكر، أن الأدوات التقليدية لاختيار الموهوبين للانضمام إليها ليست كافية لمساعدتها في مواجهة التحديات التي تصادفها، ولهذا فهي تعتمد على أسلوب الاختبارات في الاختيار. فمثلاً، لا يُمنح الطيارون رخصة العمل قبل النجاح في اختبار محاكاة الطيران، ويخضع عازفو الكمان لاختبار في العزف قبل انضمامهم إلى فرقة موسيقية من الطراز العالمي، ويطلب من الكوميديين البرهان على قدرتهم على إضحاك الناس قبل أن يصبحوا أعضاء في برنامج "ساتردي نايت لايف" الأميركي الشهير، فلماذا لا يتبع اختيار كبار المسؤولين التنفيذيين والعاملين في الشركات نفس الأسلوب؟
على الرغم من أن مفهوم "اختبارات الشركات" لا يزال غض العود، فإن الأدوات المتاحة أمام الشركات للبحث في قاعدة واسعة من المواهب ثم قياس المهارات المطلوبة مباشرة، أصبحت متاحة اليوم بغزارة لافتة. وصار هذا الاتجاه فرصة لكل نوع من الأعمال يعتمد في نجاحه على الأفراد، أي عملياً جميع الشركات، لتحسين قدرته كثيراً على جذب المواهب المميزة من مصادر غير تقليدية وتوظيفها.
ونرى 3 اتجاهات ناشئة للطريقة التي تستخدم فيها الشركات الرائدة مفهوم الاختبارات المؤسسية لتعزيز مجموعة المواهب التي تصل إليها:
المحاكاة
طُلب من أحدنا عدة مرات الحكم على قدرة الرئيس التنفيذي المحتمل على تحقيق الأداء بناء على محاكاة لنوع التحديات التي يُتوقع أن تواجهه. ومن أولئك التنفيذيين الذين خضعوا لتلك المحاكاة آلان مولالي، الرئيس التنفيذي الحالي لشركة "فورد"، الذي كانت نتائج اختباره من أفضل ما شاهدناه حتى اليوم، وتتنبأ بدرجة عالية بنجاحاته في شركة "بوينغ" وكرئيس تنفيذي لشركة "فورد". وفي شركة "هيومانا" للتأمين الصحي، اعتمد كورن فيري على محاكاة للحالة قبل التوصية بتعيين بروس بروسارد في منصب الرئيس التنفيذي. أما مايك ماككاليستر، المدير العام السابق للشركة، فقال لنا: "أردت أنا ومجلس الإدارة، عند اختيار خليفة للرئيس التنفيذي أن نرى كيف يتصرف المرشح في مواجهة التحديات المختلفة، وقدمت لنا محاكاة الحالة بيانات يُعتمد عليها بدرجة أعلى من المقابلات وحدها". وفعلاً كان أداء بروسارد الناجح في منصب الرئيس التنفيذي قريب جداً من التوقعات. وتمثل هذه خطوة كبيرة متقدمة في تقييم المرشحين تتفوق على أسلوب المقابلات والاعتماد على السير الذاتية، فالأخيرة على الرغم من أهميتها، تخفق في التنبؤ بسلوك المرشحين تحت ظروف العمل الفعلية. ولا بد أن يكون لدى الشركات استراتيجية واضحة ومعرفة بأنواع التحديات التي ستواجه قادتها على الأغلب، كي تتمكن من بناء محاكاة صحيحة وواقعية.
على المستوى الابتدائي، عمل عدد من الشركات الناشئة مثل "بايمتركس" على تصميم محاكاة تفاعلية قصيرة بهدف التقييم المباشر لبعض الصفات لدى الموظفين، ويكافئ هذا معرفة بيانات القفزة العمودية للرياضيين. وتعتقد تلك الشركات أن أدوات المحاكاة تلك تسمح لها بالتعرف إلى درجة أعمق على المهارات التي يتحدث عنها المرشحون الواعدون في مقابلات التوظيف.
المسابقات
تعتمد الشركات التي توظّف مواهب تقنية مثل المبرمجين اعتماداً متزايداً على طرح المسابقات أو التحديات للجمهور لاكتشاف المواهب بالاعتماد على منصات معينة مثل "كاجل" (Kaggle). ويتمتع هذا الأسلوب بميزة مزدوجة تتمثل في الوصول إلى الآلاف، إن لم يكن الملايين، من المرشحين، بالإضافة إلى التقييم الموضوعي للنتائج. ويتوسع هذا الأسلوب حالياً في المجالات غير التقنية، على سبيل المثال، أطلقت شركة صنعرفها مسابقة لحل مشكلة معينة تهدف من خلالها إلى اكتشاف المواهب في الهند. وكان الفائز شابا عمره 14 سنة من بيون، في الهند، وهو فرد كانت فرصته معدومة في الوصول إلى الوظيفة لو أن الشركة استخدمت نماذج التوظيف التقليدية في البحث عن المرشحين. وعبر مزيد من النضج لمفهوم المسابقات في عملية اختيار الموظفين لعالم الأعمال، فإننا نتوقع حدوث ما يسمى ديمقراطية المواهب، حيث تنخفض أهمية تخرج المرشح في الجامعة مقابل إثباته لما يستطيع فعله.
التحليلات
بعد أن نُشر كتاب "مونيبول" (Moneyball) منذ ما ينوف عن 10 أعوام، بدأت "ثورة التحليلات" تجتاح عالم الرياضة، وحققت الفرق الرياضية قفزات مثيرة في قدرتها على التنبؤ باللاعبين الذين يتوقع تقديمهم أداء أعلى في أدوارهم. أما في عالم الأعمال، فنجد أن شركات "جوجل"، و"ماكنزي"، و"كورن فيري" وغيرها تنفق كثيراً على تطوير تحليل مقاييس الأداء من خلال خوارزميات التنبؤ بالمواهب، فتضيف نوعاً من العلم إلى فن تقييم الموهبة الملائمة في أثناء عملية التوظيف. وهذه القدرة مهمة، فمن المرجح أن تسبب الاختبارات أو المحاكاة التي تقيس السمات الخاطئة بالضرر أكثر من أن تقدم النفع.
قد تجد الشركات التي اعتادت على عمليات التوظيف القديمة أن الانتقال إلى عالم المحاكاة، والمسابقات، وخوارزميات المواهب عملية شاقة، تماماً كما كافحت الفرق الرياضية لتتطور من نموذج معسكرات التدريب واختبارات المشاهدة المباشرة إلى التحليلات والنموذج المرتكز إلى البيانات. لكن الشركات التي تفشل في التحرك في هذا الاتجاه ستجد نفسها بمرور الوقت ضعيفة أمام الشركات المنافسة في خضم الصراع على المواهب، وستتعرّض مكانتها التنافسية للخطر ويزيد احتمال اختيار فرق القيادة غير المناسبة، ما يؤدي إلى تراجع قيمتها للمساهمين.
لكن، كيف تبدأ الشركات بعملية تحويل أساليب التوظيف لديها؟ عليها أولاً، معرفة بأنه لا حاجة لتغيير كل شيء بين عشية وضحاها: على الشركات أن تضع استراتيجية لاستقطاب المواهب تعطي الأولوية للاختبارات والتحليلات الأكثر ملاءمة وأعظم قيمة لأعمالها. ثانياً، عليها أن تدرك أيضاً أن أمامها عمل شاق ينبغي إنجازه لكسر الأساليب التقليدية، فكما يقيّم معظم الناس أنفسهم فوق المتوسط، فإن معظم المدراء يعتقدون أنهم أعلى من المتوسط في الحكم على المواهب، ولا يثقون مبدئياً بخوارزمية أو مسابقة لتحديد أفضل المرشحين للوظائف. ثالثاً، على الشركات أن تكون منفتحة لإقامة الشراكات، فمعظمها بحاجة إلى شكل من أشكال الدعم الخارجي من الجهات المتخصصة بتحليلات وتقييم المواهب، على الأقل في البداية، لمساعدتها على بناء تلك القدرة، حتى إن كانت تنوي الانتقال إلى القدرات الذاتية للتقييم في المستقبل.
وعلى الرغم من أننا نعتقد بأن وسائل تقييم المواهب المؤسسية التقليدية لا تزال صالحة، وخصوصاً من النواحي الشخصية والقبول النفسي ضمن فريق العمل، فمن المؤكد أننا يجب ألا نعتمد عليها حصرياً في المستقبل. فالاختبارات في الشركات في طريقها لتصبح السلاح السائد لكسب حرب المواهب.
هل تستخدم شركتك إحدى الوسائل الجديدة لتقييم المرشحين؟ وما رأيك بها؟ هل تعتقد أنها ستحقق نجاحاً في المنطقة العربية؟