حتى الأطفال الصغار صاروا يداومون الآن على حضور المؤتمرات عن بعد، كما لو أن الآباء العاملين كانت تنقصهم أعباء فوق الأعباء الملقاة على عاتقهم، وها نحن الاثنين نعاني من صداع الاجتماعات الصباحية الافتراضية لبنتينا الصغيرتين التي باتت تشكل عبئاً إضافياً يجب التعامل معه في أثناء محاولتنا العمل بدوام كامل من المنزل دون وجود مَن يتولى رعاية الأطفال، ولهذا اخترنا وقت القيلولة لإجراء المكالمات الهاتفية الجماعية التي يقطعها أحياناً طلب إحدى البنتين لأحد الأمور الخاصة، كما نحاول تنظيم ما تبقى من ساعات العمل في الصباح الباكر وبعد مواعيد نومهما.
أدت أزمة "كوفيد -19" إلى الزج بالعمل والحياة المنزلية معاً تحت سقف واحد في بيوت العديد من الأسر مثل أسرتنا، وصار الأقران والمدراء على دراية تامة الآن بالصراع الدائر للتعامل معها كلها، وفيما يتناقش الناس حول إمكانية تغير البلاد إلى الأبد بسبب الوباء، نأمل أن يحدث تحول جذري بالتخلي عن الافتراض الضار القائل أن ثقافة العمل على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع تنجح مع الجميع.
فقد ظل العلماء يتحدثون لعقود من الزمن عن المؤسسات وكيف أنها تُبنى على النموذج الضمني "للعامل المثالي": الشخص الذي يكرس كل وقته وجهده للعمل ومتاح على مدار 24 ساعة في اليوم، 365 يوماً في السنة، وطوال أعوام حياته المهنية. لطالما افتقد هذا النموذج للواقعية لأنه يفترض وجود شخص آخر متفرغ لتقديم الرعاية طوال الوقت، إلا أن أكثر من ثلثي الأسر الأميركية يعولها اليوم إما أحد الوالدين وحيداً أو والدين عاملين، ومع إغلاق المدارس ودور الرعاية لا يمكن أن يستمر العمل كالمعتاد لمجرد أن العمل عن بعد أصبح ممكناً من الناحية التقنية.
ويجري تقديم تعويضات ممتازة للعمال المثاليين بصورة لا تتناسب مع التعويضات المقدمة لأقرانهم، فهناك مهن "كثيفة الاستهلاك للوقت" مثل المالية والاستشارات والأعمال القانونية قد يتراوح متوسط ساعات العمل فيها ما بين 80 إلى 100 ساعة أسبوعياً، ولكنها تعوّض العاملين بها عن كل ساعة بأجور أكبر من تلك التي يتقاضاها العاملون في المهن الأخرى التي تصل ساعات العمل الأسبوعية فيها إلى 40 ساعة أسبوعياً، كما تأتي ترتيبات العمل المرن مصحوبة بعقوبات مشددة، فكثير ممن يخرجون من قوة العمل لفترة من الوقت أو ينتقلون إلى العمل بدوام جزئي لا يستردون مكانتهم المهنية أو تعويضاتهم أبداً، وقد توصلت الدراسات إلى أن تراجع الأفراد خطوة للخلف بالتماسهم تقليل السفريات أو بطلبهم العمل بدوام جزئي أو تخصيص مواعيد مرنة للحضور والانصراف سوف تتأثر مراجعات أدائهم سلباً وتقل احتمالات ترقيتهم، فمجرد طلب المرونة في مكان العمل كفيل بإلصاق وصمة عار مهنية بمن يطلبها.
أضف إلى هذا أن فكرة "العامل المثالي" تمثل مفهوماً عقابياً خاصة للأمهات العاملات اللاتي يعملن عادة لساعات إضافية في تقديم الرعاية بالمنزل أكثر من أزواجهن، الأدهى من ذلك أن الرجال كثيراً ما يعمدون إلى "المغالطة" وادعاء أنهم "عمال مثاليون"، أما المرأة فتوضح من البداية أنها لا تستطيع تلبية هذه التوقعات حتى عند التفاوض على تخصيص مواعيد مرنة للحضور والانصراف، كما أن العديد من المؤسسات غير قابلة للتجاوب مع المتغيرات، ما يؤدي إلى تصور أن المرأة تنسحب باختيارها من قوة العمل على الرغم من أن الأبحاث تشير إلى أن المرأة "تُطرد" منها طرداً في حقيقة الأمر.
يستطيع "العاملون في مجال المعرفة" الاستمرار في أداء مهماتهم الفكرية والتحليلية من المنزل، خاصة أننا نعيش في عالم مدجج بأجهزة الكمبيوتر المحمولة والهواتف الجوالة وإمكانية عقد المؤتمرات عن بعد، لكن العمال ذوي الأجور المتدنية مطالبين باستمرار بالاستجابة على نحو مماثل، حتى وهم يتمتعون بدرجة أقل من الأمان الوظيفي ومستوى أقل من المرونة مقارنة بالموظفين الأعلى أجراً، حيث يُرغم موظفو المتاجر وسائقو وسائل توصيل الطلبات وعمال المستودعات إرغاماً وسط هذا الوباء على اتباع سلوك "العمال المثاليين" أيضاً، فيضطرون إلى المخاطرة بالتعرض للإصابة بالفيروس في الأماكن العامة مع تقديم القليل من الدعم للأُسَر التي يغادرونها للذهاب إلى العمل.
ظهرت الكثير من الدعوات المطالبة بإعادة هيكلة الأساليب المتبعة في إنجاز العمل، مثل توفير مساحة أكبر لأسرنا وإعادة النظر في القيمة الحقيقية ليوم العمل الذي يمتد لثماني ساعات (أو أكثر)، فقد حان الوقت لتراجع الشركات وإعادة النظر في طرق العمل التقليدية النابعة من التقاليد دون أن تفرضها الضرورة.
وثمة فرصة متاحة أمام المسؤولين التنفيذيين والمدراء لاختيار العمل على أساس الكيف وليس الكم، يمكنهم إظهار التقدير للأفكار الإبداعية التي تظهر بعد التنزه لبعض الوقت أو جلسة تأمل في منتصف يوم العمل بدلاً من قضاء وقت المقابلة المباشرة في المكتب، يمكنهم الكف عن مكافأة العاملين على أساس سرعة الاستجابة دون جودتها، أو على أساس قضاء ساعات أطول في العمل دون إنتاجية حقيقية، يمكنهم إعادة النظر في المسارات المهنية شديدة التنافسية التي تُكلَّل فيها جهودك بالنجاح أو تُمنى بالفشل الذريع، مثل إعطاء الباحثين والمحامين حق اختيار العمل لساعات أطول قبل تقييمهم بغرض تثبيتهم في الجامعات أو تعيينهم كشركاء في مكاتب المحاماة.
يلاحظ أصحاب العمل خلال هذه الجائحة أن العاملين لا يستطيعون أداء أعمالهم على الوجه الأكمل دون توفير السبل اللازمة للاضطلاع بمسؤولياتهم الأسرية، لكن هل سيستمر هذا التوجه بعد انتهاء الأزمة؟ تريد الأسر الأميركية إتاحة خيارات أكبر لتحديد الأسلوب الأمثل للتوفيق بين حياتهم العملية والأسرية، فهل يمكننا إنشاء نظام يناسب العمال الحقيقيين، وليس فقط العمال المثاليين بعد الوباء؟ إذا كان الأمر كذلك، فالفرصة المتاحة أمامنا للخروج من هذه الأزمة مع كل من الموظفين الأكثر صحة والمؤسسات الأفضل أداء.