هل تتذكر تنافسك مع زميل سابق من أجل إحدى الصفقات، أو اضطرارك إلى اتخاذ قرار تعيين صعب لوجود زميل سابق في العمل بين المرشحين؟ أو ربما قدمتَ المشورة للعملاء حول عملية استحواذ أو دعوى قضائية مثلاً بينما قدّم أحد المتعاونين السابقين معك المشورة للطرف المقابل؟
بين السيناريوهات عامل مشترك: قد تُثير شكوكاً حول ولائك للعملاء وأصحاب المصلحة الحاليين. فهل ستتفاوض على صفقة مُقدِّماً المساعدة لزميل سابق على حساب أصحاب المصلحة الحاليين؟ هل سوف تُفضل تعيين زميل سابق في العمل على حساب مصالح جهة عملك الحالية؟ هل سوف تُصبح مدافعاً متشدداً عن عميلك عندما يُقدم شريك سابق المشورة للطرف المقابل؟ التشكيك في ولائك لن يُضعف موقفك فحسب، ولكن يمكن أيضاً أن يهدد سمعتك.
ولكن كيف يتصرف المهنيون أثناء محاولة تهدئة هذه المخاوف والشكوك؟ وما هي العواقب المترتبة على هذه السلوكيات؟ دفعتنا هذه التساؤلات إلى إجراء بحثنا الذي سوف يُنشر قريباً في مجلة "علوم الإدارة الفصلية" (Administrative Science Quarterly). وقد وجدنا أن المهنيين غالباً ما يُصبحون حادّي الطباع وعدوانيين تجاه المتعاونين معهم سابقاً، بغية إبداء الولاء المتشدد في أدوارهم الوظيفية الحالية. ولذا، يمكن أن يُظهروا ولاءهم لأصحاب المصلحة الحاليين بأن يكونوا مفاوضين أو محاورين أو مستشارين عدائيين. والمشكلة هنا هي أن مثل هذه السلوكيات يمكن أن تؤذي أصحاب المصلحة أنفسهم الذين يحاولون إقناعهم بمدى ولائهم لهم.
المفارقة
عندما تواجه الشركات قراراً مهماً، أو عندما تحتاج إلى تمثيل مهني في موقف يشمل منافساً، فإنها تتمتع بما يكفي من الذكاء للاستعانة بالأفراد أصحاب العلاقات الحسنة لتقديم المشورة والتفاوض أو التعامل نيابة عنها. فهم يبحثون عن "مدخل" للطرف المنافس، وهذا المدخل قد يكون علاقة تُعرف من خلالها أدق التفاصيل حول المنافس ومدى إلمامه بطريقة تنفيذ الصفقات بسلاسة. ومن خلال الاستفادة من العلاقات الحالية، يمكن أن تبرم المؤسسات صفقات أفضل، بل وحتى تتفوق على المنافسين.
والمفارقة في الاستعانة بهؤلاء الأشخاص الذين يمتلكون شبكات علاقات مهنية غنية هي أن المؤسسات ترغب أيضاً في أن يكونوا أوفياء لها حصراً. ولكن عندما يتنافس هؤلاء الأشخاص ضد زملاء سابقين، يحدث تعارض بين هاتين الرغبتين. فالعلاقات نفسها التي تُعرف من خلالها معلومات من داخل الشركة، والتي تُيسر إيجاد حلول تعاونية، يمكن أن تشكل خطراً على الولاء.
على سبيل المثال، تعاون محاميان من شركتي محاماة مختلفتين لرفع دعوى قضائية نيابة عن شركة "أمازون" (Amazon). ولاحقاً رفعا دعاوى ضد بعضهما البعض أمام القضاء عندما كانا يمثلان بشكل منفصل شركتي "آبل" (Apple)، و"سامسونج" (Samsung). إذا لم تسر الأمور بشكل جيد، قد يتسبب تاريخهما في العمل معاً في التشكيك في ولائهما لعملائهما الحاليين، فبإمكانهما إما الترفق ببعضهما بالنظر إلى معرفتهما السابقة ببعضهما، أو التنازع بقوة لتحقيق مصالح عملائهما.
تبعة التعاون السابق
باستخدام بيانات مستقاة من نظام "الوصول الجماهيري إلى سجلات المحكمة العليا" (Public Access to Court Electronic Records) وقواعد بيانات شركة "ليكس ماشينا" (Lex Machina) التي تُعد جزءاً من شركة "ليكسز نكسز" (LexisNexis)، تعقبنا التاريخ المهني لأكثر من 20 ألف مستشار قانوني خارجي. وكان هناك محامون من مكاتب لشركات محاماة مقرها الولايات المتحدة، وقد مثلوا شركات في دعاوى قضائية بشأن انتهاك براءات الاختراع أو حقوق الطبع أو العلامة التجارية في محاكم المقاطعات الفيدرالية الأميركية. وقد تعاون بعض هؤلاء المحامين مع بعضهم البعض في قضايا سابقة (بوصفهم مدعين أو مدعى عليهم) فقط كي يتمكنوا من التوصل معاً إلى حل وسط أثناء تمثيلهم للأطراف الأخرى في دعاوى قضائية أخرى. وهذه الديناميكية ظهرت بصورة متواترة في الدعاوى القضائية ذات الصلة بالملكية الفكرية، فقد لاحظنا أن واحدة من كل ثلاث دعاوى قضائية يكون محامو الأطراف المتنازعة فيها قد تعاونوا معاً من قبل.
درسنا كيف تصرف المحامون نحو بعضهم البعض عندما حاولوا التوصل معاً إلى حل وسط، ما أدى إلى تشكيك عملائهم في ولائهم، وأيضاً درسنا كيف أثّرت تلك السلوكيات على النتائج التي ضمنوها لعملائهم في الدعاوى القضائية. وقد وجدنا أن المحامين استجابوا للتشكيك في ولائهم بالنأي بأنفسهم عن المحامين الذي تعاونوا معهم سابقاً من خلال الصراعات الشديدة بينهم. فبدلاً من الاستفادة من معرفتهم السابقة ببعضهم البعض في السعي إلى التراضي، كان محامو الجانبين المتقابلين، الذين تعاونوا معاً سابقاً، مثيرين للنزاعات وعدائيين في قاعة المحكمة. وقد هيمن هذا السلوك عندما كانت بين العملاء أنفسهم منافسات شرسة.
كشفنا الغطاء عن هذه الديناميكية من خلال دراسة تفاصيل ما يقرب من 5 آلاف دعوى قضائية ذات صلة بالملكية الفكرية. ووجدنا أنه حتى أبسط المواقف، مثل إعادة تحديد مواعيد الجلسات بسبب المرض أو تأجيل الإيداعات لانشغال أحد الأطراف بالتزام عائلي مثلاً، قد قوبلت بمعارضة شديدة. وقد كان المحامون المهتمون بإظهار مدى ولائهم أقل ميلاً إلى التوصل إلى اتفاقات من تلقاء أنفسهم، وكانوا يطلبون باستمرار تدخل القاضي. ومع الكراهية المتزايدة في قاعة المحكمة، طال أمد المنازعات القضائية، وكان من المرجح بدرجة أكبر أن تصل الدعاوى القضائية إلى المحكمة بدلاً من أن تُحل خارجها. وعادة ما كانت تنتهي حدة النزاع المتصاعدة هذه بتكلفة باهظة يتكبدها العملاء، كما أن أسعار أسهم العملاء انخفضت بعد انتهاء هذه الدعاوى القضائية.
ونحن نسمي ذلك "تبعة التعاون السابق". فبدلاً من تسوية النزاعات بشكل أسرع وأكثر سلاسة، يمكن لهذا التعاون السابق أن يزيد من حدة الصراعات ويدمر القيم. من الصعب تحديد ما الذي يُحفز هذا السلوك بالضبط، ولكن من خلال بحثنا توصلنا إلى دليل. فالعدائية تجاه مَن تعاونّا معهم سابقاً تُثار عندما يكون أصحاب المصلحة المعنيين متنافسين أقوياء. تشتمل الأمثلة المستقاة من بياناتنا على شركات مثل "ويث" (Wyeth) و"واتسون لابوراتوريز" (Watson Laboratories) أو "ميدترونيك" (Medtronic) و"بوسطن ساينتيفيك" (Boston Scientific)، فإنها كثيراً ما قاضت بعضها، أو شركة "إنفيديا" (NVIDIA) و"سامسونج إلكترونيكس" (Samsung Electronics) إذ انتهى بهما الأمر بالتنافس على العملاء والتقنيات نفسها.
في الغالب تراقب الشركات المتنافسة العملية بحرص، وربما بشكل غير مقصود، تمارس ضغوطاً على مستشاريها لتضمن ولائهم لها. وقد وجدنا في بياناتنا أنه عندما اشترك العملاء المتنافسون عن كثب في المنازعات القضائية، ازدادت حدة السلوكيات العدوانية لمحاميهم أثناء محاولة التوصل إلى حل وسط.
ومن المتصور أيضاً أنّ تصرف المحامين بعدائية تجاه المتعاونين معهم سابقاً، يرجع إلى محاولتهم إقناع أنفسهم أنهم بذلك يحافظون على أعلى مستويات السلوك المهني والنزاهة المهنية، بغض النظر عن الضغوط المفروضة عليهم لضمان ولائهم. وبسبب خوف المحامين من أن يُنظر إليهم على أنهم محابون أو منحازون، قد ينزَعون إلى المبالغة في تصحيح هذه الصورة، رغم المجازفة بالإضرار بعلاقاتهم السابقة.
تمتد هذه الديناميكية إلى ما يتجاوز حدود السياق القانوني. فعندما نواجه مواقف تتسبب في تقسيم ولائنا، نسعى جاهدين إلى تجنب الانحياز إلى أحد الأطراف، أو حتى إعطاء الانطباع بأننا قد نفعل ذلك. وهذه المواقف موجودة على الدوام في عالم الأعمال. على سبيل المثال، في السنوات الأخيرة، العديد من المسؤولين التنفيذيين تنقلوا ما بين شركتي "أمازون" و"مايكروسوفت" Microsoft. ومع احتدام المنافسة في سوق الحوسبة السحابية بين هاتين الشركتين، قد نتساءل كيف سوف يتصرف هؤلاء المسؤولين التنفيذيين نحو زملائهم السابقين.
فالمنافسة الشديدة والعداوة بين الشركتين يمكن أن تجعلا هؤلاء الواقعين في منتصف تلك المنافسة يحاولون إبداء ولائهم بشكل قوي. على سبيل المثال، بعد أن هاجمت اليابان ميناء "بيرل هاربر" (Pearl Harbor) في ديسمبر/كانون الأول عام 1941، عدد كبير من الأميركيين اليابانيين الذين يعيشون في هاواي تطوعوا بأعداد كبيرة في الخدمة العسكرية الأميركية.
تشير بحوثنا إلى وجود طريقة قوية للتأكد من الولاء الحالي، تتمثل في خلق مسافة بيننا وبين الذين تعاونّا معهم سابقاً من خلال التعامل بعدائية واضحة وملحوظة. ولكن، مع الأسف، يبدو أننا نبالغ في انتهاج هذا السلوك، ما يُحتمل أن يضر بعلاقتنا وبالنتائج المالية أيضاً.
تخفيف تبعة التعاون السابق
تقدم نتائجنا عدة حلول لمساعدة المدراء. أولاً، عند التنافس مع أشرس منافسيك، لا تنجرف وراء وعود المستشارين أو المصرفيين أو المحامين أو الموظفين السابقين الذين يُحتمل أن يقدموا رؤى ثاقبة، بإيجاد "مدخل". فالعلاقات نفسها التي تتيح لهؤلاء المستشارين عقد صفقات تعاونية قد تثير شكوكاً حول الولاء. إذا لم تُشرك شخصاً على صلة بمنافسيك، كن حذراً من التكلفة الباهظة المترتبة على إثارة الشكوك وفرض الرقابة الصارمة. ولذا، فإن اختيار المستشارين الذين تعرفهم بشكل مباشر أو الذين اقترحهم عليك معارف موثوق بهم، يُعد أمراً بالغ الأهمية.
علاوة على ذلك، تذكر أن تبعة التعاون السابق كانت أكبر عندما مثّل المتعاونون السابقون عملاء كانوا معادين لبعضهم. وعندما يشترك المتعاونون السابقون في الأمر بصفتهم وكلاء، من المهم للعملاء المتنافسين أن يتمهلوا ويركزوا على المسألة قيد النظر، وألا يدعوا منافستهم أو عداوتهم تحجب عنهم المكاسب المتبادلة المحتملة في معاملة معينة. ودون التحلي بهذا الوعي، يمكن للتشكيك في الولاء أن يدفع وكلاءهم إلى انتهاج سلوكيات مدمرة للقيمة.
اقرأ أيضاً: المنافسة بين الموظفين
ثانياً، بصفتك مستشاراً، حدد المواقف التي يمكن فيها لعلاقاتك السابقة أن تتسبب في التشكيك في ولائك للعملاء وأصحاب المصلحة الحاليين، وابحث عن سبل أقل تحفيزاً للصراعات لتأكيد ولائك. كما أن توخي الدقة والاجتهاد في أداء واجباتك لصالح عميلك يمكن أن يساعدا في تقليل الشك في ولائك. واجعل تلك الجهود ملحوظة، على سبيل المثال بإعداد تحليلات مفصلة وتقديم توصيات مدعومة بوقائع.
يمكن للمستشارين الأكثر خبرة محاولة معالجة الوضع بشكل صريح مع العميل، من خلال الإشارة إلى وجود مثل هذه الوقائع وإلى خبرتهم السابقة في التعامل معها، وضع في اعتبارك أن مثل هذه النقاشات تتطلب تحضيراً ولباقة. وإذا لم تتعامل مع الوضع بشكل جيد، قد تؤدي إثارة المسألة إلى تركيز العميل عليها بدلاً من تخطيها.
ثالثاً، ينطوي التدخل النفسي المفيد على الفصل بين الموقف والأشخاص المعنيين. فكّر بطريقة عكسية: كيف كنت تتصرف إذا كان هذا التعامل يضم طرفاً آخر؟ على سبيل المثال، لنفترض أنك تُجري مقابلة شخصية مع زميل سابق، اعتبر أن هناك شخصاً آخر يجلس أمامك، واسأل نفسك: هل ستطرح عليه أسئلة المتابعة نفسها، وهل سوف تستمر في انتهاج السلوك نفسه إذا لم تكن بينكما أي علاقة سابقة؟
ألقى باولو كويلو ذات مرة ملاحظة طريفة قائلاً "مكان ما يوجد الولاء، تصبح الأسلحة عديمة الفائدة". ومن خلال أبحاثنا يتضح أن هذه المقولة صحيحة من عدة أوجه، فيمكن للولاء بالفعل أن يقضي على الحاجة إلى الإرغام بالقوة. ولكن في المواقف التي يُقسَّم فيها الولاء، يمكن أن يؤدي السعي إلى أن تكون وفياً، وأن تبدو كذلك، إلى حدوث عواقب غير مقصودة. الولاء قد يكون سلاحاً ذا حدين، فلا تتجاهل جوانبه السلبية.
اقرأ أيضاً في المفاهيم الإدارية: من هم أصحاب المصلحة؟