أيهما أفضل: التنقل السريع بين المهام أم العمل عليها بالتسلسل؟

5 دقيقة
المهام بالتسلسل

يصعب عليّ تقبل فكرة أن إنهاء المهام بالتسلسل أفضل من التنقل بينها.

وهي تتعارض مع عادتي المتأصلة المتمثلة في العمل على عدة مهام معاً، التي صرتُ أعتقد أنها سبب قدرتي على الالتزام بالمواعيد النهائية المتعددة التي تتغير باستمرار.

لكن ثلاثة باحثين أوضحوا كيف أن النهج التسلسلي في تنفيذ المهام منطقي جداً، وهم الباحث في المدرسة العليا للتجارة بمونتريال ديسيو كوفيلو، والباحث في جامعة بولونيا أندريا إيتشينو، والباحث في كلية كيلوغ بجامعة نورث وسترن نيكولا بيرسيكو.

المنطق الذي استند إليه الباحثون هو كالآتي: لنفترض أن ستة أشخاص كلفوك في الوقت نفسه بست مهمات متشابهة مستعجلة يستغرق إنجاز كل منها 3 أيام، فقررت العمل عليها معاً من خلال تخصيص نصف يوم لكل واحدة.

على الرغم من أنك تحقق تقدماً ملحوظاً في كل مهمة بمرور الأيام لكنك لم تكمل أياً منها حتى حلول اليوم السادس عشر إذ أنهيت المهمتين الأولى والثانية، ثم أنهيت المهمتين الثالثة والرابعة في اليوم السابع عشر والمهمتين الأخيرتين في اليوم الثامن عشر. لكن أصحاب المهمات اضطروا إلى الانتظار طويلاً وانزعجوا منك بسبب ذلك.

لو عملت على المهمات بالتسلسل، لكنت أنهيت المهمة الأولى في 3 أيام والثانية في 6 أيام والثالثة في 9 أيام وهلمّ جرّاً. في الواقع، كنت ستكمل 5 مهمات من أصل 6 في وقت أبكر مما لو عملت عليها بالتوازي (تنتهي المهمة السادسة في اليوم الثامن عشر، كما هي الحال في السيناريو الأول). لذا فإن اثنين على الأقل من أصحاب المهمات سيُسرون وسيعجبهم عملك، وعموماً، إذا عملت على المهمات بالتسلسل فسيكون 5 منهم مسرورين أكثر مما لو عملت عليها معاً.

بعد أن نشر كوفيلو وإيتشينو وبيرسيكو بحثاً نظرياً حول هذه الفكرة، عملوا على دراسة مثال مُقنِع من الواقع: القضاة الإيطاليون الذين ينظرون عادة في قضايا أكثر مما يمكنهم التعامل معه بسهولة. بعضهم يعمل على عدد كبير من القضايا معاً وبعضهم لا يفعل ذلك. يشير تحليل عدد القضايا في هذه العيّنة الصغيرة إلى أن هناك بالفعل ميزة لإنجاز المهام بالتسلسل، إذ استغرق القضاة الذين يعملون على عدد كبير من المهام معاً وقتاً أطول لإنهاء الأضابير وكان من غير المرجح أن ينهوا قضاياهم في فترة زمنية محددة.

ولكن هل يعني ذلك أنه يجب عليّ تغيير عاداتي وإنجاز المهام بالتسلسل؟ لطالما بحثت عن إجابة هذا السؤال، دون جدوى، وعندما تحدثت إلى بيرسيكو حول البحث أقرّ بأن نتائجه غير بديهية.

قال بيرسيكو: "حتى أذكى الناس قد يُفاجأ بهذه النتائج"، وهذا ما حصل مع والده وهو عالم فيزياء نظرية إذ لم يصدقها تماماً.

أما فيما يخص بيرسيكو نفسه، فقد غيّر البحث طريقة عمله، فصار يعي أكثر قيمة إنهاء المهام بالتسلسل، وهو يحاول الآن ألا يعمل على أكثر من مشروع أو مشروعين في الوقت نفسه، ويتمنى لو أنه عرف ذلك عندما كان يُعد أوراقه البحثية لينهي فترة التجربة التي تسبق التثبيت الوظيفي في جامعة بنسلفانيا، في الوقت المحدد، ويقول: "كانت إنتاجيتي لترتفع". (لقد حصل على التثبيت الوظيفي على أي حال).

يؤكد الباحث أن أحد أهم دوافعك للعمل على عدة مهام معاً هو شعورك بأنك تتعرض إلى ضغط من أصحاب المهام كلهم، وقد يطالبك بعضهم بوضع مهامهم على رأس أولوياتك في بعض الأحيان، ومن ثم سيكون عليك طمأنتهم بأنك تعمل على مهامهم وأن العمل يسير على ما يرام، بدلاً من أن تقول لهم إنك لم تلقِ نظرة عليها بعد ولكنها على قائمتك.

من المؤكد أن الضغط الاجتماعي السياسي أحد العوامل التي تدفعني إلى التنقل بين المهام، وعلى الرغم من أنني أفي في النهاية بالمواعيد النهائية كلها أو معظمها، أرى أنه يمكنني زيادة إنتاجيتي في أنواع محددة من المهام على الأقل إذا قاومت هذا الضغط وأنجزت المهام بالتسلسل. على سبيل المثال، إذا كانت لدي ست مهمات غير إبداعية نسبياً يتطلب إنجازها مدة قصيرة، مثل الرد على مقترحات المقالات، فأنا أرى أنه من الأفضل إنجازها جميعاً بالتسلسل حتى لو كان ذلك يعني تأجيل بعضها فترة من الزمن.

بعد ذلك تأتي مشكلة المقاطعة في العمل. أعي تماماً أن بذل جهد مستمر في مهمة ما يسمح لك بالوصول إلى حالة التدفق الذهني؛ أي الاستغراق بسرور في العمل والانفصال تماماً عن المحيط، فهذا الجهد المستمر الذي يؤدي إلى إكمال المهام يشبع حاجة إنسانية نفسية عميقة للغاية تتمثل في بلوغ الخواتيم، وكما أظهرت إحدى الدراسات، فإن هذه الحاجة تتحفز لدى الأشخاص عند مقاطعتهم في أثناء عملهم على مهمة ما خاصة في لحظة الذروة، ما يجعلهم يتعاملون بحزم أكبر مع المهام غير ذات الصلة.

على الرغم من ذلك، لدي إحساس أن هناك جانباً إيجابياً للعمل على عدة مهام معاً يعوض فوائد العمل المستمر، وهو أكثر من مجرد مقاومة الضغط الذي يفرضه أصحاب المهام.

خلال محاولة استيضاح هذه المسألة، كان من المفيد التحدث إلى الرسام الانطباعي الأميركي جون تريلاك، الذي يتنقل بين المهام طوال الوقت لأن هذا الأسلوب يعزز إبداعه الفني.

ينظم الفنان عمله بما يسمح له بالعمل على 5 إلى 20 لوحة معاً في استوديو بولاية فلوريدا، وبهذه الطريقة، يصبح من الأسهل عليه اكتشاف المشكلات الفردية وحلها. قال لي: "في الماضي، عندما كنت أضع طاقاتي كلها في لوحة واحدة، واجهت مشكلات في لوحاتي عجزت عن حلها، فكنت أصاب بالكآبة وألوم نفسي".

أما الآن، فمن خلال المقارنة بين لوحاته يكتشف سبب عدم وصول بعضها إلى المستوى المطلوب، مثلاً: تبدو السماء في هذه اللوحة قاتمة للغاية، أو لا يبدو رسم الإنسان في هذه اللوحة مناسباً، أو لا يبدو نمط الألوان في تلك متناغماً.

لوحة "سكر القيقب" (Maple Sugaring) لجون تريلاك.

تتنافس اللوحات أيضاً على جذب انتباهه، ما يمنحه عدة خيارات لتحديد ما سيعمل عليه كل يوم، ويقول الفنان: "على هذا النحو لن تكون لوحاتي روتينية بل حالات فريدة تتغير كل يوم، ومن ثم لن يفتقر فني إلى الإبداع".

أتاح لي ذلك فهم جانب من إيجابيات المسألة: التنقل بين المهام يؤدي إلى تفاعلها معاً، وهذا طيب، فلأنك توزع انتباهك عليها تظهر لك مشكلاتها بوضوح وتتوصل إلى حلول مبتكرة فتبتعد عن الروتين ويظل فكرك متجدداً، ذلك أنك تستعير أفكاراً من مهمة وتطبقها على مهام أخرى.

هناك ميزة أخرى للتنقل بين المهام تشير إليها دراسة حديثة أجراها الباحث في المعهد الأوروبي لإدارة الأعمال (إنسياد) في سنغافورة هاي يانغ يانغ بالتعاون مع زملائه، فالتوقف عن التفكير في مهمة ما والتركيز على مهمة أخرى يسمح لك بإيقاف تفكيرك الواعي في المهمة الأولى مؤقتاً حتى يتمكن عقلك اللاواعي من العمل عليها. وفي ظل الظروف المناسبة، يمكن للفكر اللاواعي أن يكون فعالاً أكثر من الفكر الواعي في إنتاج أفكار مبتكرة. أوضحت دراسة يانغ أن منح الأفراد مهلة من 3 دقائق للعمل على مهمة كتابية مشتتة للانتباه، ساعدهم على التوصل إلى أفكار مبتكرة أكثر لتصميم لعبة للأطفال.

حدث ذلك معي، فالمهمة التي تتطلب مجهوداً ذهنياً تصبح أسهل حينما أفكر في مسألة أخرى، ثم أعاود العمل عليها وأظن أن هذه الظاهرة هي السبب الرئيسي الذي جعلني أعتاد التنقل بين المهام في الأساس، لكنني اكتشفت أنني أحصل على الفوائد نفسها التي أشار إليها الفنان تريلاك، وعلى وجه التحديد، يسمح لي التنقل بين المهام بإجراء مقارنة بنّاءة بينها واختيار ما أريد العمل عليه منها.

يزداد التنقل بين المهام مع تراكمها بسرعة، الأمر الذي يتطلب مستوى تركيز عالياً جداً، وألاحظ أنه بعد انتهاء الإجازة، يستغرق الأمر مني نحو أسبوع للعودة إلى هذه الحالة الذهنية مجدداً، لكنني أعود إلى أسلوب عملي المعتاد بعدها، فأتنقل بسهولة من مهمة إلى أخرى، وكأنني نيو، بطل فيلم ذا ماتريكس وهو يتفادى الرصاص.

على الرغم من أن هذا الإيقاع المشتت قد يقلل احتمال إنهاء مهمة ما في فترة زمنية معيّنة، فإنه يبدو فعالاً للغاية، بل إن هناك متعة معينة فيه. في ظل هذه الظروف، يصبح التنقل بين المهام حالة من حالات التدفق الذهني، إذ أستغرق في كل مرحلة من مراحل العمل وأحصد ثمارها، تماماً كما هي الحال عند العمل بتركيز مكثف على مهمة بعينها.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي