هل ستقضي التكنولوجيا الحديثة على الإنسانية في العمل؟

9 دقائق

أحياناً يكون سرد قصة بسيطة هو كل ما يتطلبه الأمر لفهم القضايا المعقدة. وهذا ما يمكن أن تفعله هذه القصة الممتعة: قبل بضع سنوات، خسر مارك زوكربيرغ، الرئيس التنفيذي لفيسبوك، في لعبة سكرابل (Scrabble) وهي لعبة تجميع الكلمات الشهيرة، حيث لعب منافساً لفتاة مراهقة وهي ابنة أحد أصدقائه. وكتب إيفان أوسنوس، مراسل ذا نيويوركر، عن هذه القصة: "قبل أن يلعبا مرة ثانية، كتب "زوكربيرغ" برنامجاً حاسوبياً بسيطاً يمكنه أن يبحث عن الحروف في القاموس حتى يتمكن من الاختيار من بين كل الكلمات الممكنة". وعلى حد قول الفتاة لإيفان أوسنوس: "خلال المباراة التي كنت ألعب فيها أمام البرنامج، كان الجميع من حولنا ينحازون إلى هذا الجانب أو ذاك: فريق الإنسان أو فريق الآلة".

كانت الحكاية ممتعة للغاية بحيث لا يمكن تجاهلها، إذ كان يبدو أنها تجمع في طياتها كل ما -نعتقد أننا- نعرفه عن زوكربيرغ، مثل تألقه غير العادي، قدرته التنافسية الشديدة، إيمانه الفائق بالتقنية، والتأثير الاستقطابي لبرامجه المقنعة. وبالفعل انتشرت القصة انتشار النار في الهشيم، خاصة باعتبارها قصة رمزية بسيطة تحكي أن كبير الهاكرز ويقصد به زوكربيرغ يصمم أن يجد حلاً تقنياً لكل مشكلة، حتى تلك المشكلات الأكثر تعقيداً من لعبة سكرابل بكثير، مثل الأخبار المزيفة، الاستقطاب، الاغتراب، وهكذا.

واختتم أوسنوس حواره بعد أن تحدث باستفاضة إلى زوكربيرغ عن دوره في تغيير الخطاب العام في جميع أنحاء العالم: "لقد وجدت زوكربيرغ يجتهد بشدة، ربما ليس دائماً بشكل مترابط، لفهم المشكلات التي لم يكن مستعداً لها بشكل واضح. إنها ليست ألغاز تقنية يمكن حلها في منتصف الليل، إنما هي بعض الجوانب من الشؤون الإنسانية الأكثر دقة وبراعة، بما في ذلك معنى الحقيقة، وحدود حرية التعبير، وأصول العنف".

قد تكشف لنا مثل هذه الحكايات والمواقف عن شخصية القادة وتأثيرهم على الثقافة الشعبية، لكن القادة في نهاية المطاف يعكسون ثقافة عصرهم. وليس زوكربيرغ سوى شخصية رائدة في ثقافة –سواء في مجال التقنية أو غيره- تحتفي بفائقي الإنجاز الذين لم يكونوا مستعدين له.

على خلاف فائقي الإنجاز "غير المطمئنين"" ويطلق عليهم (Insecure Overachivers) والذين تفضلهم الشركات، حيث يمتازون بقدرتهم الفائقة على الإنجاز ولكنهم لا يشعرون بذلك ولا يشعرون بالاطمئنان. ولا يملك فائقو الإنجاز غير المستعدين أي قدر من الصبر للتفكير في تداعيات عملهم، ففي حين أن النوع الأول يتوق للحصول على الاعتماد ويسعى إلى تحقيق الكمال، يفضل الأخير الاعتماد على البيانات ولا يتردد في تجربة الأشياء. إنهم يتحركون بسرعة ويكسرون الأشياء، وإذا تبين أن ما كسروه كان ذا قيمة، يعتذرون ويتعهدون بتحسين أدائهم في المرة التالية. لأن الفشل، برغم كل شيء، هو سبيل مقنّع من سبل التعلم. أليس كذلك؟

في الحقيقة لا يكون الأمر كذلك دائماً، ففي بعض الأحيان يكون الفشل مجرد إهمال أو جهل مُطْبق. ويرى النقاد أن الكثير من عمالقة التقنية كان بالإمكان أن يحصلوا على المساعدة لو أنهم حضروا درساً إضافياً في الإنسانيات، أو دورة في العلوم الاجتماعية؛ إنها أساسيات تعليم الفنون الليبرالية التي تهدف إلى إعداد قادة المستقبل للتصدي لمعضلات وتعقيدات حياة البشر ومجتمعاتهم. فإذا حضرت مؤتمراً في الإدارة أو التقنية مؤخراً، بالتأكيد مرت على مسامعك عبارة: "الدعوة لمزيد من النزعة الإنسانية في مجال التقنية". نحن على ما يبدو منقسمون إلى "فريق بشري" و"فريق آلي" بشكل أو بآخر.

استهل مؤلف الإدارة، تشارلز هاندي، خطاباً مثيراً له في منتدى بيتر دراكر العالمي (Global Peter Drucker Forum) العام الماضي، بقوله: "لا يمكننا أن نسمح للتقنية، مهما كانت متقدمة، أن تحل محل الإنسانية بكل حساسياتها، وتقديرها للحب والجمال والطبيعة، وحاجتها إلى المودة والتعاطف والغرض الهادف، وآمالها ومخاوفها، وبديهياتها، وخيالها وقفزاتها الإيمانية". فظهر "تشارلز" بصورة ساحرة كرجل أمضى عمراً طويلاً في مجال الأعمال التجارية، كخبير اقتصادي، ومدير تنفيذي في مجال النفط، وأستاذ في الإدارة. لقد كان تذكيراً حياً بأن الدعوات إلى إضفاء الطابع الإنساني على الأعمال ليست جديدة، وأن هذا الهدف لم يتم إنجازه حتى الآن.

وضع الإنسانيات موضع العمل

في ثلاثينيات القرن الماضي، أشعل إلتون مايو الحركة نحو النزعة الإنسانية من خلال توثيق انتعاشة الإنتاجية التي صاحبت معاملة عمال خط التجميع بكرامة وشملهم بالرعاية. وجابهت تلك الحركة تأثير الإدارة العلمية لفريدريك تايلور، والتي اختزلت العمال في مجموعة تروس معقدة في آلات صناعية تسعى لتحقيق الكفاءة.

كان هدف دعاة النزعة إلى العلاقات الإنسانية زيادة الإنتاجية وتقليل الشعور بالاغتراب، أو تقليل، ما أسماه إلتون مايو، بتآكل إيمان الفرد بوظيفته الاجتماعية والتضامن والتماسك داخل المجموعة". بعد فترة وجيزة، تنبأ بيتر دراكر بـ "نهاية الإنسان الاقتصادي"، غير أن توقعاته كانت سابقة لأوانها. فبعد خمسين عاماً، وفي عشية العولمة، كان دراكر ما يزال يجادل بأن الإدارة أقل شبهاً بالعلوم وأكثر شبهاً بالفن الليبرالي.

كل مرة نشعر فيها بالقلق إزاء الاتجاهات التقنية أو الاقتصادية، تطفو على السطح دعوات إضفاء الطابع الإنساني على الأعمال التجارية. فعلى سبيل المثال نجد أنه بعد الأزمة المالية عام 2008، سارعت كليات الأعمال إلى إضافة دورات أخلاقية إلى مناهجها. ومنذ ذلك الحين صارت صفوف دراسة النمو الشخصي والتأثير الاجتماعي في تزايد مستمر. فمن الواضح أننا بحاجة إلى العودة للإنسانيات مرة أخرى، وإلا فستتحول الثورة الرقمية إلى إصلاح على طريقة فريدريك تايلور المعروفة باسم "الإدارة العلمية".

ولكن هل سيخلق لنا الأدب والفلسفة والعلوم الاجتماعية قادة حقيقيين في مجال الأعمال وينقذنا جميعاً؟ أشك في ذلك. بالتأكيد سيكون من مصلحة كبار العمالة الطموحين قضاء المزيد من الوقت مع مؤلفات جين أوستن وجورج أورويل ومايا أنجيلو وميشيل فوكو، لكن تلك الإضافات من الإنسانية لن تحول فائقي الإنجاز غير المستعدين إلى مدراء حكيمين في الشؤون الإنسانية. لأن ما يجعل فائقي الإنجاز غير مستعدين ليس ما لا يعرفونه من التخيل المبتكر، إنما ما يعتقدون أنهم يعرفونه منها.

تلك القضية واحدة من القوى التقنية والاقتصادية كسوابق حتمية للتقدم. فهي قضية للإنسانيات دور فيها، ولكنه دور محظور. فيمكن تشبيه التقنية بالعائل المهووس بالوظيفة، أما الإنسانيات فهي بمثابة الزوجة ربة المنزل الرزينة التي ترعى بيتها، والتي يجب أن تكون جميلة ومفيدة، وتقتصر مسؤوليتها على مساعدة قادة الأعمال في أن يكونوا متعاطفين ومراعين وجذابين ومانحين للقوة المعنوية ومُلهِمين ومؤثرين، ولكنهم ليسوا نزاعين إلى الشك أو لديهم آراء مختلفة أو مقيدة. ويشبه اجتماعهما معاً زواج المصلحة، فرغم أنه يظهر وكأنه لائقاً، إلا أنه غير مناسب تماماً.

لا يوجد فريق آلة

الحقيقة هي، أنه على الرغم من استخدام مارك زوكربيرغ للتقنية للحصول على ميزة في لعبة سكرابل أو معركة جون هنري حتى الموت ضد حفّار يعمل بالبخار، فليس هناك فريقاً للآلات. لأن المنافسة على الدوام تكون بين البشر. بعض البشر يملكون آلات مثل  حصان الأساطير الذي ساعد الإغريق على الفوز في حرب طروادة، إلا أن هذه الآلات ليست دائماً هبة أو هدية. وبالنظر إلى الأمر بهذه الطريقة، فإن المخاوف بشأن ما ستفعله التقنية للإنسانية تخفي بين طياتها المخاوف القديمة حول ما سيفعله البشر الأقوياء مع الآخرين.

إذا كان هناك فعلاً "فريق الآلات" فهو ليس منحازاً لجانب الآلات؛ إنها فقط مجرد آلات تنحاز للفريق وتقف بجانبه. ولا عجب أنهم يرون التحرير والكفاءة والتسلية والتقدم حيث يخشى "فريق البشر" من الاقتحام والحرمان وساحة اللعب المنحدرة. السؤال هو ما الذي تفعله الآلات نيابة عن القادة وللقادة، لأن الآلات سرعان ما ستفعل ذلك نيابة عنّا جميعاً ولنا جميعاً.

وبنظرة عملية إلى الواقع، نجد أنه لطالما شكلت التقنية البشر بنفس قدر تشكيل البشر للتقنية، من الزراعة المؤدية إلى المستوطنات الدائمة، إلى الثورة الصناعية المؤدية إلى التحضر، إلى دور الإنترنت في عولمة القبلية. حتى أن نماذج الإدارة الجديدة، أيضاً، هي في العادة تكيفات مع التحولات التقنية الكبرى. نحن نتحول إلى ما نستخدمه.

ولنأخذ في الاعتبار كيف يمكن أن يحجب التقدم التقني والاقتصادي الذي لا يمكن إيقافه نوايا القادة بدعوى "إنها ليست سوى الآلات، الغبية". أو كيف ينتج الإيمان بهذا التقدم أيديولوجية تضيّق الانتباه وتغذية الاستقطاب تحت الشعار ذاته "إنها ليست سوى الآلات، الغبية". لكن هذه الأيديولوجية لا تبدو مثل غيرها من الأيديولوجيات، لأنه في داخلها تتشكل الأدوات البراغماتية. فكل ما يحل مشكلة ويحقق ربحاً، وكل ما يجعل الحياة أكثر ملاءمة ويجعلك أكثر كفاءة، هو شيء جيد. يجب أن تكون أنت فعالاً ومتسقاً، ولابد حتماً من تسوية الشكوك والمعضلات. لا يمكن أن يكون لك عقلان، أو أن تغير عقلك. يجب أن تنحاز إلى هذا الجانب أو ذاك.

كتب فرانسيس سكوت فيتزجيرالد ذات مرة في هذا الشأن: "اختبار الذكاء من الدرجة الأولى، هو القدرة على اعتناق فكرتين متعارضتين في العقل في الوقت نفسه، وتظل محتفظاً بالقدرة على العمل، على سبيل المثال، يجب أن يكون المرء قادراً على أن يرى ويدرك أن الأمور ميؤوس منها ومع ذلك فهو يصمم على تغييرها". وبهذا المعيار الإنساني، فإن الذكاء الشبيه بالآلة، والذكاء الذي تصنعه الآلة، ليسا شيئاً واحداً. فالبيانات الكبيرة تولّد عقولاً صغيرة. وبمجرد أن تعتنق فلسفة الآلات والمذهب البراغماتي، فإنك تتحول من استخدامك للآلات، لتصبح أنت نفسك آلة.

يبدو الكثيرون من قادة التقنية، في هذه الأيام، وكأنهم تلاميذ لساحر يتدربون على يديه ولا يمكن السيطرة على إبداعاتهم المسحورة أو كبحها. هناك فخر وكبرياء ممزوج بالخوف، وليس أدل على ذلك من باحثي الذكاء الاصطناعي في الفيسبوك الذين أغلقوا بعض الروبوتات التي بدأت في ابتكار لغة جديدة للتحدث مع بعضهم البعض. في الحقيقة لم يكن هناك شيء شائن في هذا الأمر حسبما أوضح الباحثون، ولكن الموضوع ببساطة أن الآلات لم تكن تفعل أي شيء مفيد أو نافع. لقد تعاطفتُ مع تلك الآلات. بل وجعلتني القصة أقلق حول مصير الأماكن العزيزة إلى قلبي مثل الميادين الإيطالية، المطاعم الفرنسية، المؤتمرات الأكاديمية، الروايات، مائدة العشاء الخاصة بي. و باقي الأماكن التي يتحدث فيها الأشخاص بطرق قد تبدو، من الخارج، ذات استخدام عملي ضئيل.

الإنسانية تموت في الأَسْر

خبراء التقنية والمسؤولون التنفيذيون في الشركات ليسوا وحدهم من يعملون وفق المذهب البراغماتي (instrumentalism)، بتحولهم إلى آلات أثناء صناعتهم لها. فالكثير أيضاً من المفكرين الذين يرتدون قميص فريق الإنسان، عندما تنظر إليهم عن كثب، تجدهم يلعبون لصالح فريق الآلات. قم بجولة في أدبيات الإدارة الشائعة، ستلاحظ أن معظم المقالات تتبع نوعاً متبعاً منذ القدم وهو الإشارة إلى المشكلة، ومن ثم وصف الحلول العملية لها. فنحن نحتفي بما نصنعه ويجعلنا نعمل بشكل أفضل، إننا نلتهم النصائح والتقنيات لكي نكون أكثر فعالية، ونحب الطرق المختصرة والاختراقات من أجل تصويب حياتنا وتقويمها.

نادراً ما نتوقف لننظر في الآثار الجانبية لتلك النصائح والطرق العلاجية. ماذا لو جعلتنا الممارسات الفضلى بشراً أكثر سوءاً؟ ماذا لو كان الإزعاج وعدم الراحة، الملل والانحرافات، خصائص لازمة لنا وليست مجرد علل في حياة جيدة لابد أن نجد لها حلولاً؟ ماذا لو لم يكن التشرذم الاجتماعي وغياب المعنى وندرته في مكان العمل أعراضاً لأدوات لا تعمل، ولكنها آثار جانبية لما يعمل؟ بكلمات أخرى، ماذا لو كانت نتائج غير مقصودة لذلك الهاجس الذي يسيطر علينا لحل المشكلات وخفض الربح؟

الإنسانيات وحدها يمكن أن تساهم في معالجة هذه الأسئلة، ولكن شريطة ألا نختزلها في مجرد نصيحة شعرية للحض على الإنتاجية. في كل مرة نرسم الفلسفة كوسيلة لوضع استراتيجيات أفضل، وقراءة القصص الخيالية كأداة لجعلك أكثر إلهاماً، في كل مرة نجعل العمل هو الهدف النهائي والقيمة الأعلى، تموت الإنسانية شيئاً فشيء - في الأَسْر.

ومن المفارقات، إن الإنسانية العملية قليلة الفائدة. بمعنى أنه عندما نلجأ إلى الإنسانيات للحصول فقط على نصائح، ولكن ليس بحثاً عن المشاكل، تفقد الإنسانيات قيمتها. إذ أن قوتها تخفت وتضعف عندما لا نسمح لها بتقديم النقد، والاستعارات، والطرق المتعرجة التي تخلق التوازن مع وصفات الآلات، والمنهجيات، والطرق المختصرة. وإنما تقدم الإنسانيات أفضل ما لديها عندما نطلق سراحها، ونمنحها مساحة للقيام بأفضل عملها: فتذكرنا بالآخرين وبالموت، والنظر فيما هو عادل وله معنى ومغزى، والإصرار على أنه حتى لو نجح هذا الشيء أو ذاك، فهذا لا يعني أنه ينبغي أن يكون موجوداً.

تزاوج المصالح

باختصار، لا تستطيع أي من الإنسانية أو الآلات أن تحل مشاكل كل منهما الأخرى، لأنهما هما ذاتهما مشكلات بعضهما، فالإنسانية مشكلة الآلة، والآلة مشكلة الإنسانية. فالعلاقة التي تربط الاثنين إنما هي في أفضل حالاتها، زواج مصلحة. فلابد أن يظل الاثنان خصمين متوافقين لجعل الأعمال أفضل، ولجعلنا بشر أفضل.

ما نخشاه، في الواقع، عندما نخاف من الآلات، هو أن تصبح المنافسة غير متكافئة. نخشى فقدان الشك، وفقدان الشعور بأن الأمر بالنسبة لنا يعني أكثر من إنتاجيتنا وفعاليتنا وعقلانيتنا. نخشى فقدان هذه المفارقة التي تجعلنا بشراً: لكي نبقى أحياء، يجب أن نحاول السيطرة على المستقبل، وحتى يمكننا الشعور بأننا أحياء يجب أن تكون لدينا حرية تخيل الحياة. يتعيّن علينا أن نصنع الأشياء وكذلك أن نختلقها.

فكر في الاختلاف بين ملف شخصي على وسائل التواصل الاجتماعي، على سبيل المثال، وآخر في مجلة أدبية. ما يجعل الأخير قصة أكثر إنسانية وربما أكثر مصداقية ليس تفصيلاته بل تناقضاته. خذ مارك زوكربيرغ كمثال مرة أخرى. فإذا نظرت إليه كإمبراطور روماني، مثل الإمبراطور أغسطس الذي يدرس أعماله ويعجب بها، ربما تراه مخيفاً. ولكن عند النظر إليه كهاملت، ذلك الأمير الذي نازعته صراعاته الداخلية الذي يتردد في تصرفه بشأن السلاح الذي يحمله في يده، والذي يدرك ببطء أن طريقة استخدامه للسلاح ستحدد من يكون، تجده فاتناً جذاباً. وهكذا تجعله المعالجة الأدبية أكثر تعقيداً وأكثر تمسكاً بالأمل. إنها تضفي عليه الطابع الإنساني.

هذا بالضبط ما تفعله الإنسانيات، تساعدنا على الشعور بتلك التعقيدات والتناقضات والتغيير في داخلنا، بدلاً من مساعدتنا في خوض معركة مع الأشخاص الذين يصارحوننا بوجود أمر ما في أنفسنا قد لا نحبه. ومع ذلك، فإن جعل الأعمال التجارية -وقادتها وأدبياتها- أكثر إنسانية، لا يعني جعلها ملهِمة وتمكينية فحسب، بل جعلها أيضاً مضطربة ومقيدة.

أجندة للإنسانيات

لذلك فالسؤال الآن: "ما هو شكل أجندة الإنسانيات التي من شأنها أن تجعل الأعمال التجارية أفضل؟.. كما هي الحال دائماً، ستشمل الإجابة عن ذلك تحدياً للقوى التي تجعل الناس يشعرون بالعجز وأنهم مغلوبون على أمرهم. وتختلف تلك القوى من عصر لآخر، ففي أيام إلتون مايو، كان ذلك يستلزم مقاومة اغتراب الفرد وتعزيز الاستقلال الذاتي فيما يسمى "القفص الحديدي". أما اليوم، فهو يستلزم مكافحة الانقسام والتشرذم واستعادة المسؤولية والترابط في أماكن عمل أكثر مرونة وأتمتة على الدوام.

وأود أن أقترح ثلاث طرق للقيام بذلك، والتي قد تحقق أيضاً نتائج جيدة في مباراة سكرابل وهم: مواجهة فساد الوعي، بإثبات أن الوعي أكثر من مجرد حالة من الاتزان الواعي في الحاضر؛ وإنما هو الأخذ في الاعتبار تبعات عمل الفرد في عالم واسع، وعلى مدى فترة زمنية طويلة. ثانياً مواجهة المجتمع، عن طريق إثبات أن المجتمع ليس مجرد قبيلة تعزز أدائنا؛ وإنما مجموعة من الأفراد يلتزمون برفاهيتنا وتعلمنا، وأخيراً الكونية أو اللاقومية، وإثبات أنها ليست هوية النخبة؛ وإنما هي نوع من الفضول حول ما يقع وراء حدود أقاليمنا وثقافاتنا وعقائدنا.

بمجرد أن تنقطع فائدة الإنسانيات، فإنها تصبح حقاً ذات مغزى، لأن ذلك سيسمح لفريق الإنسان أن يلحق بفريق الآلة. ولكن في نهاية المطاف لا ينبغي أن يتقدم أي منهما سابقاً الآخر أكثر من اللازم وإلا فسوف نخسر صراعاً يبقينا بشراً ويجعل المجتمعات تزدهر. في بعض الأحيان يكون من النافع أن نتحرك بسرعة ونكسر الأشياء. وفي أحيان أخرى، من الحكمة أن نتحرك ببطء وأن نعالج الناس ونداويهم.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي