ملخص: يتعرض الكثير من المدراء لتأثير التكلفة الغارقة الشهير؛ فهم يواصلون الاستثمار في مشروع يخسر أموالاً حتى عندما يكون من المنطقي استثمار الأموال الجديدة في مشاريع جديدة بديلة. نعرض في هذه المقالة أداة قائمة على بحوث يمكن أن تساعد المدراء في قياس مدى تأثرهم بمغالطة التكلفة الغارقة.
هل واصلت العمل على مشروع لفترة طويلة وكان الأفضل أن تتخلى عنه؟ هل حافظت على علاقة حتى بعد وصولك إلى نقطة اللاعودة؟ هل توجهت إلى إحدى الفعاليات في طقس سيئ فقط لأنك اشتريت التذكرة بالفعل بأموالك التي حصلت عليها بشق الأنفس؟ هذه كلها أمثلة على "تأثير التكلفة الغارقة" الذي يحدث عندما يختار شخص ما القيام بشيء ما أو الاستمرار في فعله لمجرد أنه استثمر فيه موارد (غير قابلة للاسترداد) في الماضي.
غالباً ما يُعزى هذا التأثير إلى القرارات التي من المعروف أنها تنطوي على مخاطر عالية في سياقات مختلفة. على سبيل المثال، يُقال إن إحجام الإدارة في شركة "جنرال موتورز" (General Motors)، عن التخلي عن الاستراتيجيات التي كانت ناجحة سابقاً قد أسهم في تدهور الشركة في أواخر القرن الماضي. وفي مجال الطيران، يُعتقد عموماً أن الاستثمار الضخم الذي قامت به الحكومتان البريطانية والفرنسية في مشروع "الكونكورد" (Concorde) كان إهداراً للأموال بلا طائل (في الواقع، لا يزال يُشار إلى تأثير التكلفة الغارقة أحياناً باسم "مغالطة الكونكورد"). وفي المجال السياسي، تدل أمثلة من قبيل الحملات العسكرية الأميركية التي دامت لفترة طويلة في فيتنام والعراق على أن تأثير التكلفة الغارقة يمكن أن يؤدي ليس فقط إلى الانهيار المالي، ولكن إلى فقدان عشرات الآلاف من الأرواح أيضاً.
من الدروس الأساسية في العديد من المحاضرات حول اقتصاديات الأعمال أو صنع القرار أن أي تكاليف غير قابلة للاسترداد أُهدرت في الماضي لا يُعتد بها عند اتخاذ قرار بشأن ما يجب فعله في المستقبل. ويتعين على صانعي القرار تذكّر أنه عندما تؤثر التكاليف الغارقة في القرارات الاستراتيجية، يمكن أن يؤدي ذلك إلى عواقب خطيرة ووخيمة.
قياس مدى قابلية تعرُّض فريقك لتأثير التكلفة الغارقة؟
يواجه الباحثون التحدي المتمثل في قياس تأثير التكلفة الغارقة من خلال طرح أسئلة على الأشخاص حول ما قد يفعلونه في سيناريوهات افتراضية مختلفة. ولكن هذه السيناريوهات لا تغطي عادة مجموعة كبيرة من التكاليف التي يمكن أن تصبح غارقة (مثل المال، والوقت، والجهد، والمشاعر). وليس لدينا أي فكرة عما إذا كانت الإجابات عن تلك السيناريوهات الافتراضية تتنبأ حقاً بما إذا كان الأشخاص سيستسلمون لتأثير التكلفة الغارقة في موقف قد ينطوي على عواقب خطيرة.
يساعد بحثي الأخير الذي أجريته مع دانيال غروي وأنتوني توكويل بعنوان "تقييم تأثير التكلفة الغارقة"، في سد هذه الفجوات ويوفر مقياساً جديداً من 8 أسئلة لقياس قابلية التعرض لهذا التأثير. يعرض كل سيناريو موقفاً واقعياً من الحياة اليومية يمكن أن يتخيل أي شخص نفسه فيه بسهولة. والسيناريوهات بمجملها تغطي مجموعة من التكاليف التي يمكن أن تغرق. في معظم الحالات، تغرق مجموعة متنوعة من التكاليف لأن مواردنا عادة ما تكون شديدة الترابط. على سبيل المثال، لا تتطلب العديد من القرارات المهمة المزيد من التكاليف الملحوظة والقابلة للقياس مثل الوقت والمال فقط، ولكن أيضاً ما نشعر به على الصعيد الشخصي مثل الجهد والمشاعر، وقد يشعر كل منا بحجم هذه التكاليف على نحو مختلف. لهذه الأسباب يبدو أنه من غير المرغوب وغير المجدي أيضاً محاولة الإشارة دائماً إلى نوع واحد فقط من الموارد في كل سيناريو أو عرض السيناريوهات التي تُبرز مورداً واحد فقط. بدلاً من ذلك، من المهم تضمين السيناريوهات التي تُبرز مزيجاً مختلفاً من الموارد.
كيف فعلنا ذلك؟
وضعنا مجموعة أولية من 18 سؤالاً قائماً على سيناريوهات عُرضت على المشاركين، وقد شملت الأسئلة 5 موارد مختلفة ينفقها الأشخاص للحصول على أحد الأصول (الجهد، والوقت، والمال، والمشاعر، والمعتقدات)، وهي مستمدة من مجموعة متنوعة من المصادر. على سبيل المثال، فيما يلي أحد السيناريوهات التي تُبرز الجهد والوقت (تم وضع خط تحت النص ذي الصلة لأغراض توضيحية):
كنت تتوق إلى الذهاب إلى إحدى الحفلات التنكرية. وقد جهزت الزي الذي سترتديه والقبعة المناسبة للزي. وطوال الأسبوع، كنت تحاول تحسين شكل الزي عن طريق تجهيز عدد كبير من النجوم الصغيرة للصقها على الزي والقبعة، ولكنك لم تلصقها بعد. وفي يوم الحفلة، قررت أن الزي يبدو أفضل من دون كل هذه النجوم التي بذلك جهداً كبيراً لتجهيزها.
أي نقطة على المقياس أدناه تتضمن أفضل وصف لما ستفعله؟
لصق النجوم o o o o o o الذهاب إلى الحفلة دون لصقها
بعد التحليل الإحصائي للبيانات المستقاة من ردود المشاركين اخترنا 8 أسئلة من الـ 18 سؤالاً، ووضعنا مقياسنا الذي أطلقنا عليه اسم "إس سي إي-8" (SCE-8). والموارد التي يركز عليها كل من هذه السيناريوهات مبيّنة في الشكل التوضيحي"اختبار التكاليف الغارقة". حدد تحليلنا السيناريوهات التي أثمرت عن الردود التي عبرت على أفضل وجه عن أكبر نسبة تباين في البيانات. ومن الجدير بالملاحظة، أن السيناريوهات الثمانية المتبقية لدينا تغطي المجموعة الكاملة من الموارد التي أخذناها في الاعتبار، ما يدعم فكرة أنه ينبغي أن نضع العديد من الموارد في الاعتبار عند البحث عن مقياس لقابلية التعرض لتأثير التكلفة الغارقة.
كل إجابة عن سؤال تُمنح درجة بين 0-5، حيث يمثل 0 أقل قابلية للتعرض و5 أكبر قابلية للتعرض. يمكنك بعد ذلك جمع الدرجات التي حصلت عليها إجابة كل سؤال من الأسئلة الثمانية لحساب الدرجة الإجمالية التي ستتراوح بين 0-40. رأينا في بياناتنا الكثير من التباين في درجات القابلية للتعرض، بما في ذلك حصول البعض على 0 و40، لكن متوسط الدرجات كان أقل من 10.
هل تعني الدرجات العالية اتخاذ قرارات أسوأ؟
لاختبار مدى قدرة الدرجات على التوقع في بيئة تنطوي على عواقب خطيرة، طلبنا من نفس المشاركين المشاركة في تجربة يمكنهم من خلالها كسب المال. حصل المشاركون في إحدى المجموعات على "أصل" (تذكرة يانصيب ثمنها 10 دولارات مع فرصة بالفوز تصل إلى 10%) مقابل تقديم أداء جيد في مهمة شاقة (ما يتطلب منهم إغراق تكاليف مثل الوقت والجهد). ولم يُطلب من المجموعة الثانية إكمال أي مهمة، ولكن طُلب منها الاختيار بين الأصلين.
أعطينا المجموعة الأولى خيار التمسك بالأصل الذي كسبوه أو استبدال أصل أفضل به (أي دفع 10 دولارات مع فرصة للفوز بنسبة 20%). اختار 23% التمسك بأصلهم الأصلي (منخفض القيمة). على النقيض من ذلك، اختار جميع المشاركين في المجموعة الثانية الأصل الأفضل. بعبارة أخرى، تمسك عدد كبير من الأشخاص في المجموعة الأولى بأصل أسوأ لأنهم استهلكوا وقتهم وطاقتهم لكسبه، ما يدل على مدى تعرضهم لتأثير التكلفة الغارقة. بالإضافة إلى توفير مقياس لقابلية التعرض لتأثير التكلفة الغارقة، نحن أيضاً أول مَن أظهر دليلاً قوياً على تأثير التكلفة الغارقة في بيئة تجريبية مع حوافز حقيقية.
يمكننا الآن ربط درجات القابلية للتعرض لتأثير التكلفة الغارقة بالقابلية الفعلية للتعرض له. وجدنا أن هؤلاء الذين كانت درجات قابليتهم للتعرض إلى تأثير التكلفة الغارقة أعلى من المتوسط (10 أو أعلى) كانوا أكثر عرضة بثلاثة أضعاف تقريباً للوقوع فريسة لتأثير التكلفة الغارقة (36% مقابل 13%) من هؤلاء الذين حصلوا على درجات أقل من المتوسط (9 أو أقل) عندما عُرض عليهم المال.
الخبرة أم الذكاء؟
يسلط عملنا الضوء أيضاً على العوامل المحركة لقابلية التعرض لتأثير التكلفة الغارقة. أتم المشاركون اختبارات نفسية توفر مقاييس مختلفة للقدرة المعرفية. وجدنا أن الخبرة أو مخزون المعرفة (ما يُسمى بـ "الذكاء المتبلور")، وليس الطاقة الحاسوبية الأولية (ما يُعرف بـ "الذكاء السائل")، هي ما تمكّننا من تجنب الوقوع فريسة لتأثير التكلفة الغارقة؛ بمعنى آخر، يمكن الاعتماد على الحكمة أكثر من الذكاء.
يتوافق هذا مع النظرية العامة القائلة بأنه لتجنب التحيزات عند صناعة القرار، فأنت بحاجة إلى إدراك حقيقة أنك تواجه موقفاً يجب أن تسيطر فيه على حدسك أو استدلالاتك. وعلى النقيض من ذلك، فإن القدرات العقلية الكبيرة اللازمة لتجنب تأثير التكلفة الغارقة بمجرد أن تدرك أنك تواجهه، تُعد ضئيلة نسبياً.
إذا وقع صانعو القرار المتمرسون أصحاب الشركات الكبيرة والحكومات فريسة لتأثير التكلفة الغارقة، فإن هذا يُظهر أنه في حين أن الخبرة قد تكون مفيدة في هذا السياق، فإنها غير كافية للتغلب على التحيزات المهمة مثل تأثير التكلفة الغارقة. ربما جعلتك خبرتك حكيماً في التعامل مع بعض المزالق، ولكن بغض النظر عن أقدميتك، باختيار ما قد تفعله في سيناريوهات مقياس "إس سي إي-8"، ستعرف كم أنت عُرضة لتأثير التكلفة الغارقة، ومع وضع ذلك في الاعتبار، ستتمكن من اتخاذ قرارات أفضل في المستقبل.