اضطر أحمد لإغلاق شركته، بينما انهارت سعاد على الرغم من أنّ كليهما لديه إنجازات بارزة وآفاق مهنية واعدة، لكنهما مع ذلك شعرا أنّ هناك خلل ما. اتفق معهما الجميع من مدراء وزملاء وأصدقاء لكنهم حاروا في تفسير هذا الشعور مثلهما. كيف يمكن لشخص موهوب أن يشعر بالضياع أو أن يفقد بوصلته في مناقشات تافهة ظاهرياً من دون وجود سبب واضح؟
الجواب الشائع والمخادع في بساطته هو: عدم الأمان في العمل. هذا القلق المزعج من أننا لسنا أذكياء أو مطلعين أو أكفّاء كما ينبغي، أو كما يظن الآخرون. والخوف من أننا لسنا جيدين بما فيه الكفاية، أو أننا ببساطة لا نكفي. إلى جانب، ما نقوم به من إعادة النظر في أفكارنا وملاحظاتنا وحتى في مشاعرنا. وهذا القلق المستمر من الأحكام التي يصدرها الآخرون علينا.
إنّ الشعور بعدم الأمان يجعلنا أكثر اعتماداً على العوامل الخارجية من إعجاب وثناء وترقي. ولكن حتى أثناء ذلك، فإنّ الشعور بالإنجاز هو شعور مؤقت بشكل عام. فبعد فترة وجيزة، نوجه نظرنا إلى الداخل، لنغوص في أعماقنا بحثاً عن بصيص ثقة لا يزال بعيد المنال.
من الصعب أن نجعل أصواتنا مسموعة في حالات الشعور بعدم الأمان، ما يجعلنا غير قادرين على الاختلاف، مترددين في علاقات العمل. إذ يصيبنا هذا الشعور بعدم الرضا، ويقوّض التعاون، ويجعل فرقنا أقل إبداعاً وكفاءة. إذا كان هناك عدو واحد للأصالة والابتكار فهو عدم الأمان. لا عجب أننا نحاول جاهدين التخلص من هذا الشعور.
على مدى العقدين الماضيين، وخلال عملنا كمعلمين ومستشارين ومدربين، التقينا بمئات الأشخاص على شاكلة أحمد وسعاد. لقد شعرنا مثلهم بالارتباك والإحباط بسبب الشعور عدم الأمان من وقت لآخر. نحن نعلم كيف يكون الوضع حين يرغب المرء في أن يصبح أقوى وأنضج وأن يكون أقل حرصاً على تقدير الآخرين لعمله. وقد أدركنا أنّ الطرق التي نفهم عدم الأمان من خلالها ونحاول التعامل معها قد تكون جزءاً من المشكلة.
مثلما يتجه الناس للغوص في دواخلهم عندما يكافحون شعور عدم الأمان في مكان العمل، كذلك يفعل أولئك الذين يكتبون عن هذا الموضوع. يُنظر عادة إلى عدم الأمان في العمل على أنه نقطة ضعف شخصية مرتبطة بمتلازمة المحتال. في بعض الأحيان، يرتبط هذا الشعور بالطموح والإفراط في العمل، كما هو الحال بالنسبة لمن يوصفون بأنهم محققو الإنجازات فوق العادة ممن يشعرون بعدم الأمان. إنّ هذه الآراء تعتبر عدم الأمان عيباً ودافعاً في الوقت نفسه، وهذا الأمر هو نتيجة لإيمان قوي بأنّ الشخص نفسه مخادع، لأن إنجازاته هي نتاج ظروف وليست نتاج مهاراته وكفاءته.
إنّ مثل هذه المعتقدات تجعلنا نستاء ونتوخى الحذر في علاقاتنا. يُحدّث المرء نفسه وفق رواية متلازمة المحتال قائلاً إنهم إذا عرفوني حقاً، فإنهم لن يحبونني، لكنني سأثبت لهم العكس. ومن ثمّ يصبح عدم الأمان دافعاً لإثبات الذات ومحركاً لجهود مضنية، فأنا جيد بقدر نجاحي الأخير الذي حققته. ولكن في كل مرة، يتم تفريغ الثناء التالي للإنجاز بسبب الشك في القدرات الشخصية وعدم الثقة في النفس.
بينما تنطبق هذه التوصيفات على تجربة الشعور بعدم الأمان، فإنها أيضاً تضعها في إطار مشكلة شخصية، باعتبارها نتاج لتاريخنا وطموحاتنا ومواهبنا وحساسياتنا. إنّ إرسال الأشخاص إلى ورشة تنمية بشرية أو إلى مدرب لحل مشكلة هذا الشعور بعد الأمان من شأنه أن يحقق نفس النتيجة؛ فهذا النهج يلائم الأشخاص الذين يشعرون بعدم الأمان، ويتفقون بهدوء في كثير من الأحيان على أنّ هناك خلل ما في طريقة تفكيرهم. وبينما يمكن أن يكون التدريب مفيداً للغاية في هذه الحالات، فإنّ النصيحة المعتادة بوضع حدود أفضل والإبقاء على بعض المسافة، تُركّز على عدم الأمان باعتباره فشلاً فردياً. في الواقع، إنّ عدم الأمان قضية اجتماعية ذات عواقب نفسية وليست مشكلة نفسية ذات عواقب اجتماعية. في مكان العمل مثلاً، غالباً ما توجد جذور عدم الأمان فيما حولنا وليس في داخلنا.
لا يولد الناس غير آمنين، لكن عدم الأمان شعور مكتسب. انظر مثلاً لمحققي الإنجازات فوق العادة ممن يشعرون بعدم الأمان، هؤلاء نوع من الأشخاص تستهدف الشركات توظيفهم ورعايتهم لإنماء هذا النمط من الموظفين. إذا كانت النتائج الوحيدة المهمة هي نتائج الغد، وإذا كنت قيمتك تتحدد على أساس حكم العملاء والزملاء، فإنّ تحقيقك لإنجازات فوق العادة مع الشعور بعدم الأمان لا يدخل في علم الأمراض بل إنه ضرورة. كونك واحداً من هؤلاء يعكس تكيفك مع الشكل الثقافي النموذجي الذي قد يحمل تكلفة باهظة على المستوى الشخصي، ولكنه للبعض مضر على المستوى المهني.
على سبيل المثال، أوضحت البحوث التي أُجريت حول النساء والأقليات في البيئات المهنية أنّ الشعور بعدم الأمان هو قضية اجتماعية أكثر من كونه قضية نفسية. فبينما تتمتع النساء في الأصل بنفس القدر من الثقة التي يتمتع بها الرجال، فإنّ مزيجاً من الرسائل المتضاربة وردود الفعل الشخصية التي تشوبها المحاباة (كونهنّ أكثر حزماً لكنهنّ أقل تصادمية، وكونهنّ جديرات بالتصديق لكنهنّ أقل عاطفية) تضعهنّ في ظروف تجعل أي شخص يعيد النظر في طريقة تفكيره.
إنّ السلوك المتمخض عن الشعور بعدم الأمان يجعلك تتحدث بشكل أقل في الاجتماعات، أو تبتعد عن المواجهة، وهو في هذه الظروف ليس تعبيراً عن نفسية حساسة، بل هو رد على التهديدات الخفية وطريقة للتوافق أو بشكل أدق إذعان لفكرة أنك غير منسجم مع محيطك.
إنّ علاج عدم الأمان باعتباره مسألة شخصية يترك التوقع الذي يخلق هذه الحالة في المقام الأول من دون مراجعة. ويتوجب على الشخص غير الآمن تقوية نفسه وليس على المؤسسة أن تُرخي الحبل. فلا عجب في أنّ الأشخاص الذين يشعرون بعدم الأمان يجتهدون في العمل ويشعرون بالوحدة.
إنّ الطموح، بالنسبة لهؤلاء الذين يعانون من عدم الأمان ومن يحاولون مساعدتهم، هو عبارة عن انفصال معين (استقلال يحررنا من فكرة الاعتماد على قبول الآخرين لنا). كل هذا جيد إلى أن ندرك أننا طوال الحياة نحتاج إلى محبة الآخرين لكي نكون أصحاء ومستقلين. عندما نفتقر إلى علاقات صلبة داعمة، فإننا نتوجه إلى الداخل ونصبح غير آمنين. إنّ الانتماء ضرورة إنسانية أساسية مثله مثل الاستقلال.
نملك جميعنا بعض الخبرة في العلاقات التي نمتلك فيها الحرية والتعبير عما نفكر فيه صراحة، والتي يظهر فيها ضعفنا بوضوح من دون خوف كبير من تعريض العلاقة نفسها للخطر. قد يكون لدينا خبرة في العلاقات التي تجعلنا نشعر فيها بأننا أكثر صدقاً مع أنفسنا مما لو جلسنا بمفردنا. ماذا لو كانت هذه العلاقات هي القاعدة في العمل وليست استثناء؟
لقد خمّنت الإجابة: سيكون عدم الأمان حالة مؤقتة، وليس حالة مزمنة. قد يصيبنا جميعاً هذا الشعور في بعض الأحيان، لكنه لن يكون ما يُميزنا إلى الأبد. إنّ الحضور بشكل كامل في العمل بنقاط القوة ونقاط الضعف والأفكار والأسئلة لن يكون إنجازاً أو امتيازاً على هذا النحو، بل هدية نتلقاها ونعطيها للآخرين.
وبهذه الطريقة، فإنّ عدم الأمان ليس عيباً ولا دافعاً، بل منتج ثانوي لثقافة مكان العمل، حيث تكون الفردية متفشية والعلاقات مفيدة ولا يتم مراجعة الانحيازات فيها. لا يمكن أن يكون الجواب على ذلك بمجرد وضع حدود أفضل والإبقاء على بعض المسافة. من أجل قبول هذا الشعور والتغلب عليه، نحتاج إلى التوقف عن الاهتمام بشأن بعضنا البعض والبدء في الاهتمام أكثر لأجل بعضنا البعض ولأجل المكان الذي نعمل فيه.