هل ما زال التعليم العالي يُعد الخريجين للعمل في الوظائف؟

4 دقائق

غالباً ما نسمع أرباب العمل وقادة الشركات ينتحبون لوجود فجوة مؤسفة بين ما يتعلمه الطلاب في الجامعة وما يجب عليهم معرفته كي يكونوا مستعدين لاستلام الوظائف. وهذا الأمر مقلق بالأخصّ في ظل وجود أعداد كبيرة ومتزايدة باستمرار من خريجي الجامعات، حيث يشكلون نسبة تزيد عن 40% من الفئة العمرية التي تتراوح بين 25 و34 عاماً في بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ونسبة تقارب 50% من نفس الفئة في أميركا.

وعلى الرغم من أن التعليم يتمتع بأهمية كبيرة، حيث تشير التقارير الجديدة في مجلة "ذا إيكونوميست" (The Economist) إلى أن العائد على الاستثمار للشهادة الجامعية قد بلغ أعلى نسبة له اليوم بالنسبة للشباب اليافعين، فإن القيمة المضافة للشهادة الجامعية تتناقص مع تزايد عدد الخريجين. وهذا هو سبب تمكن الشهادة الجامعية من زيادة العائدات بنسبة تزيد عن 20% في الدول الإفريقية جنوب الصحراء الكبرى (حيث تكون الشهادات نادرة نسبياً) ولكنها لا تزيد العائدات في اسكندنافيا أكثر من 9% (حيث 40% من البالغين حاصلين على شهادات جامعية). وفي الوقت نفسه، ومع اعتبار المؤهلات الجامعية أمراً شائعاً ومعتاداً، سيزداد طلب الشركات وأرباب العمل عليها بغض النظر عما إن كانت مطلوبة فعلاً لوظيفة معينة. لذلك وفي حين أنه يمكن أن تستمر الشهادات الجامعية في إيصال الموظفين إلى وظائف ذات أجور أعلى، إلا أن أرباب العمل ذاتهم الذين يقدمون هذه الوظائف يؤذون أنفسهم وموظفيهم بسبب حصر مجموعة المرشحين لديهم بخريجي الجامعات. ففي عصر الاضطرابات المتفشية وتطور الوظائف غير المنتظمة، من الصعب القول إن اكتساب المعارف المرتبطة تاريخياً بالشهادة الجامعية لا تزال أمراً مهماً.  

هناك عدة حجج قائمة على البيانات التي تشكك في القيمة الفعلية، لا المتصورة، للشهادة الجامعية. أولاً، لطالما أثبتت مراجعات التحليلات التلوية (meta-analytic) ضعف العلاقة المتبادلة بين مستوى التعليم والأداء في الوظيفة. وفي الحقيقة، يبين البحث أن معدل الذكاء يشكل مؤشراً أفضل بكثير للإمكانات الوظيفية. وإن كان علينا الاختيار بين متقدم يحمل شهادة جامعية وآخر يتمتع بمعدل ذكاء مرتفع يمكننا توقع أن يتفوق الأخير في أدائه على الأول في أغلب الوظائف، وبالأخص عندما تتطلب هذه الوظائف تفكيراً وتعلماً مستمرين. إذ تشكل الدرجات الأكاديمية مؤشراً لكمية دراسة المتقدم للوظيفة في حين يعكس أداؤه في اختبار الذكاء قدرته الفعلية على التعلم والتفكير المنطقي.

كما يتم الخلط بين الشهادات الجامعية والمركز الاجتماعي، وهي تلعب دوراً في تخفيض الحراك الاجتماعي وزيادة عدم المساواة. صحيح أن الكثير من الجامعات تختار طلابها بناء على الجدارة، إلا أنها تخلط بين الاختيار المبني على الجدارة والمتغيرات التي تقلل من تنوع المتقدمين المقبولين. بالإضافة إلى ذلك، هناك مجتمعات كثيرة تشهد نسبة كبيرة من التزاوج التجانسي القائم على الدخل والطبقة. وفي الولايات المتحدة، تزداد احتمالات زواج الأثرياء من أثرياء آخرين، والعائلات التي تملك أموالاً أكثر يمكنها تحمل تكاليف المدارس والمدرسين والمناهج الخارجية والامتيازات الأخرى التي تزيد من احتمالات دخول أبنائهم إلى جامعات النخبة. وهذا في الحقيقة يؤثر على مسارات مستقبل الأبناء بأكملها بما فيها فرصهم المستقبلية في العمل، فتمنح البعض امتيازاً واضحاً وتظلم البعض الآخر.

غالباً ما يربط أرباب العمل القيمة بالمؤهلات الجامعية لأنهم يعتبرونها مؤشراً موثوقاً لكفاءة المتقدم الفكرية. ولكن إذا كانت الكفاءة الفكرية هي محط تركيزهم فعلاً، لم لا يكتفون باستخدام التقييمات النفسية التي تتوقع الأداء المستقبلي بصورة أفضل دون الخلط بينها وبين المنزلة الاجتماعية الاقتصادية والمتغيرات الديمغرافية؟

وبناء على ذلك، يمكن للجامعات رفع قيمة شهاداتها بصورة كبيرة إذا بذلت وقتاً أكبر في تعليم المهارات الشخصية الضرورية لطلابها. فالمتقدمون لن يثيروا انطباعاً جيداً لدى أرباب العمل إلا إذا أبدوا درجة معينة من مهارات التعامل مع الأشخاص، ولربما كانت هذه إحدى نقاط الاختلاف الكبرى بين ما يبحث عنه كل من أرباب العمل والجامعات لدى المتقدمين. ففي حين يرغب أرباب العمل بموظفين يتمتعون بمستويات عالية من المؤهلات العلمية والمرونة والتعاطف والنزاهة، نادراً ما تعزز الجامعات هذه السمات أو توليها الأفضلية في قبول الطلاب. ومع تنامي أثر الذكاء الاصطناعي والتقنيات الثورية، تزداد قيمة الموظفين القادرين على أداء المهمات التي لا يمكن للآلات القيام بها، وهذا ما يؤكد الأهمية المتزايدة للمهارات الشخصية التي يصعب على الآلات محاكاتها.

أجرت مجموعة "مانباور غروب" (ManpowerGroup) مؤخراً استطلاعاً لآراء 2,000 شركة، وأشارت نتائجه إلى أن مهارات حلّ المشكلات والتعاون وخدمة الزبائن والتواصل هي المهارات الأعلى قيمة بالنسبة لأكثر من 50% من المؤسسات المشاركة. كما أشار تقرير حديث لجوش بيرسن إلى اهتمام الشركات اليوم بقابلية تأقلم المرشحين وانسجامهم مع الثقافة وإمكانات النمو لديهم تماماً كاهتمامها بالمهارات التقنية المطلوبة (لغة بايثون والتحليلات والحوسبة السحابية مثلاً). أضف إلى ذلك، تسليط شركات مثل "جوجل" و"أمازون" و"مايكروسوفت" الضوء على أهمية قابلية التعلم، أي امتلاك الفضول والعقل المتعطش للعلم، على اعتبارهما مؤشراً أساسياً للإمكانات الوظيفية. وعلى الأرجح أن هذا يأتي نتيجة للتركيز المتنامي على تدريب الموظفين، حيث أنفقت عليه الشركات في الولايات المتحدة أكثر من 90 مليار دولار عام 2017 وفقاً لأحد التقارير. وقد يؤدي تعيين موظفين يتمتعون بالفضول إلى زيادة العائد على الاستثمار لهذه البرامج إلى أقصى حد له.

كما أن هناك فرصة هائلة لتستعيد الجامعات أهميتها عن طريق المساعدة في جَسر فجوة التعلم التي يواجهها العديد من المدراء عند ترقيتهم إلى دور قيادي. إذ يحصل الموظفون على الأدوار القيادية غالباً دون الخضوع لتدريب إداري رسمي يذكر، ويحصل الموظفون أصحاب المساهمات الفردية الأقوى على الترقية إلى أدوار إدارية حتى إن لم يطوروا المهارات اللازمة لقيادة الفرق. ولكن إذا استثمرت الجامعات أكثر في تعليم هذه المهارات، فسيتوفر لدى المؤسسات عدد أكبر من المرشحين ذوي الإمكانات القيادية.

باختصار، نحن نؤمن أن متطلبات السوق تستدعي بوضوح تغيير النموذج. إذ يتزايد عدد الطلاب الذين ينفقون المزيد من الأموال على التعليم العالي، وهدفهم الرئيسي نفعي بنسبة كبيرة ويتمثل في تعزيز قابلية حصولهم على عمل وجعلهم مساهمين قيّمين في الاقتصاد. حتى وإن شكلت القيمة المرتبطة بالشهادة الجامعية فائدة للحاصلين عليها، يمكن للشركات تغيير هذا الواقع عن طريق إيلاء أهمية أقل لشهادات التعليم العالي على اعتبارها مقياساً للكفاءة الفكرية والإمكانات الوظيفية، واستبدالها بأسلوب منفتح ومتفهم للتوظيف.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي