كيف تصيغون استراتيجية متينة في أوقات تتسم بالكثير من عدم اليقين؟
كيف بوسعنا صياغة استراتيجية في مواجهة حالة عدم اليقين؟ هذا هو السؤال الجوهري الذي يجب على القادة طرحه وهم يعملون على تحضير أنفسهم للمستقبل. ووسط جائحة عالمية، باتت الإجابة عنه أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. وحتى قبل أزمة "كوفيد–19"، كان التغير التكنولوجي السريع، وتنامي الاعتماد الاقتصادي المتبادل، وتصاعد حالة عدم الاستقرار السياسي قد ساهموا معاً لجعل المستقبل يبدو ضبابياً على نحو متزايد. فقد كانت حالة عدم اليقين تكتنف كل شيء إلى حد أن الباحثين كانوا مضطرين لكي يحيطوا بكل أبعاد المشكلة إلى التعبير عنها على شكل كلمات مختصرة باللغة الإنكليزية مركبة من أوائل حروف كلمات أخرى مثل (VUCA) (المؤلفة من الكلمات التالية: التذبذب، وعدم اليقين، والتعقيد، والغموض) و(TUNA) (المؤلفة من الأحرف الأولى للكلمات الإنجليزية التالية التي تعني: مضطرب، ويتصف بعدم اليقين، وغريب، وغامض).
وردّاً على ذلك، لجأ العديد من القادة إلى التركيز على المدى القصير الذي يمكن التنبؤ به بشكل أكبر – وهي آلية للتكيف مع حالة عدم اليقين أظهرت الأبحاث أنها تتسبب ببقاء مليارات الدولارات من الأرباح حبيسة الخزائن دون استثمار، وبقاء ملايين الناس عاطلين عن العمل دون مبرر. وبحلول مطلع عام 2020، كان الإحساس بعدم اليقين منتشراً على نطاق واسع إلى درجة أن العديد من التنفيذيين كانوا يضاعفون تركيزهم على الكفاءة على حساب الابتكار، مفضلين الحاضر على حساب المستقبل.
ثم ضربت الجائحة.
الآن، طغيان الحاضر لا يُعلى عليه. فالكثير من المؤسسات لم يكن لديها خيار إلا التركيز على البقاء على قيد الحياة في مواجهة التهديدات المباشرة. (فالمتخصصون بقراءة المستقبل لا مكان لهم في الملمات). لكن العديد من النقاشات التجارية والسياسية مازالت تتطلب بعد نظر. فالمخاطر عالية، والقرارات التي يتخذها القادة الآن قد تترك تبعات لسنوات – بل وحتى لعقود. وفي مسعاهم لتلمس طريقهم للخروج من الأزمة، هم بحاجة إلى طريقة للربط بين التصرفات الحالية والنتائج المستقبلية.
فما هي الطريقة الفضلى للمضي قدماً؟
يوفر الاستشراف الاستراتيجي للمستقبل – وأنا أمضيت سنوات طويلة في إجراء أبحاث تخص تاريخ هذا المفهوم، وجوانبه النظرية، وتطبيقاته العملية – طريقاً إلى الأمام. لا يتمثل هدف هذا المفهوم في التنبؤ بالمستقبل وإنما في طرح إمكانية تخيل عدة سيناريوهات للمستقبل بطرق خلاقة تزيد من قدرتنا على إدراك ما يحصل في السنوات المستقبلية، وتحديد شكله، والتأقلم معه. والاستشراف الاستراتيجي للمستقبل لا يساعدنا في تحديد ما يجب أن نفكر فيه تجاه المستقبل، بل يساعدنا في تحديد كيف يجب أن نفكر فيه.
اقرأ أيضا: ما علاقة التعليم مدى الحياة بالسوق؟
الأمر المؤكد هو أن هناك مجموعة متنامية من الأبحاث التي أثبتت أن بالإمكان وضع توقعات أكثر دقة، حتى في حقول مشوبة بالفوضى مثل الجغرافيا السياسية. ويجب علينا أن نستعمل هذه التقنيات إلى أقصى حد ممكن. أما عندما تصل الأدوات التنبئية إلى مداها الأقصى، فإننا بحاجة إلى الانتقال إلى الاستشراف الاستراتيجي للمستقبل، الذي يأخذ حالة عدم اليقين التي لا يمكن اختزالها بشأن المستقبل كنقطة مباشرة. ضمن هذا السياق المميز، هو يساعد القادة على اتخاذ قرارات أفضل.
أسهل أدوات الاستشراف الاستراتيجي للمستقبل التي يمكن تمييزها هي "تخطيط السيناريوهات"، وتشمل عدة مراحل: تحديد القوى التي ستحدد شكل السوق وظروف التشغيل في المستقبل؛ واستكشاف كيف يمكن لهذه المحفزات أن تتفاعل؛ وتخيل مجموعة من السيناريوهات المستقبلية المحتملة الحدوث؛ وتعديل النماذج الذهنية للحاضر بناء على تلك السيناريوهات المستقبلية؛ ومن ثم استعمال هذه النماذج الجديدة لوضع استراتيجيات تحضّر المؤسسات لكل ما يحمله لها المستقبل فعلياً.
فكرة المقالة باختصار
التحدي
تسهم الاستراتيجية الجيدة في إيجاد ميزة تنافسية مع مرور الوقت، لكن عدم اليقين الذي يحيط بالمستقبل يجعل من الصعب تحديد سبل فاعلة للتصرف، ولاسيما وسط أزمة. وبوصفك قائداً، كيف بوسعك التحضير لمواجهة مستقبل لا يمكن التنبؤ به وأنت في خضم التعامل مع المتطلبات الملحة للحاضر؟
الحل الواعد
توفر ممارسة الاستشراف الاستراتيجي للمستقبل القدرة على إدراك التغيير أثناء حصوله، وتحديد شكله، والتأقلم معه. أحد العناصر المهمة لهذه الممارسة هو عملية تخطيط السيناريوهات التي تساعد القادة في التعامل مع حالة عدم اليقين من خلال تعليمهم كيفية توقع السيناريوهات المستقبلية الممكنة وهم مازالوا يعملون في الحاضر.
المضي قدماً
إذا ما أراد القادة صياغة استراتيجيات فاعلة لمواجهة حالة عدم اليقين، فإنهم بحاجة إلى مأسسة عملية الاستشراف الاستراتيجي للمستقبل، وتسخير قوة الخيال لإنشاء علاقة ديناميكية بين التخطيط والعمليات.
ينتشر استعمال السيناريوهات اليوم على نطاق واسع. لكن المؤسسات في غالب الأحيان تنجز هذا التمرين لمرة وحيدة فحسب، ثم تضع كل ما تعلمته منه على الرف. فإذا ما أرادت الشركات صياغة استراتيجية فاعلة في مواجهة حالة عدم اليقين، فإنها بحاجة إلى إنشاء عملية للاستكشاف الدائم – أي عملية تسمح لكبار المدراء ببناء جسور دائمة ولكنها مرنة بين أفعالهم في الحاضر وتفكيرهم بالمستقبل. المطلوب باختصار ليس التخيل فحسب، وإنما مأسسة عملية التخيل. هذا هو جوهر الاستشراف الاستراتيجي للمستقبل.
في ذات اللحظة التي يكون الحاضر فيها في أدنى درجات التشابه مع الماضي، من غير المنطقي كثيراً النظر إلى الوراء بحثاً عن إشارات تدل على المستقبل.
حدود التجربة
ينبع عدم اليقين من عدم قدرتنا على مقارنة الحاضر بأي شيء خبرناه سابقاً. وعندما تفتقر الأوضاع إلى أوجه قياس وتشابه مع الماضي، فإننا نجد صعوبة في تصور كيف ستسير مستقبلاً.
كان الاقتصادي الشهير فرانك نايت قد قال سابقاً إن أفضل طريقة لفهم عدم اليقين هي النظر إليه بعمق رغم المخاطر. ففي حالات الخطر، كما كتب نايت، نستطيع حساب احتمالية حصول نتائج معينة لأننا رأينا العديد من الأوضاع المشابهة من قبل. (مثل شركة تأمين على الحياة لديها بيانات تخص عدداً كافياً من الرجال غير المدخنين الذين يبلغون من العمر 45 عاماً لتقدير المدة التي سيعيشها أحدهم). أما في حالات عدم اليقين – ونايت يضع معظم القرارات المتخذة في سياق الأعمال والشركات في هذه الفئة – فليس بوسعنا إلا أن نخمن ما يمكن أن يحصل، لأننا نفتقر إلى الخبرة التي تسمح لنا بقياس المحصلة الأرجح. في الحقيقة، قد لا نكون قادرين حتى على تخيل المحصلات المحتملة.
وبحسب شعور نايت، فإن العنصر الأساسي في مثل هذه الحالات هو القدرة على إطلاق الحكم الصائب. فالمدراء الذين يُحسنون إطلاق الأحكام الصائبة بوسعهم النجاح في شق طريقهم وسط حالة عدم اليقين على الرغم من غياب المرجعيات. وللأسف، لم تكن لدى نايت فكرة عن مصدر القدرة على إطلاق الأحكام الصائبة. وأطلق على ذلك "الأحجية الملتبسة".
بطبيعة الحال، ورغم أنه من الممكن القول إن النتيجة ستكون سيئة مهما فعل المرء، إلا أن الحكمة تقضي أن القدرة على إطلاق الأحكام الصائبة تعتمد إلى حد كبير على الخبرة. وفي العديد من الأوضاع التي تتسم بعدم اليقين، يلجأ المدراء، في واقع الحال، إلى حوادث تاريخية مشابهة لتوقّع المستقبل. وهذا هو السبب الذي يجعل كليات الأعمال تستعمل طريقة التدريس القائمة على دراسات الحالة، فهي طريقة لإطلاع الطلاب على مجموعة من القصص الشبيهة – وبالتالي الافتراض هنا هو أنها بذلك تساعدهم على تطوير ملكة إطلاق الأحكام الصائبة لديهم – بأسلوب أسرع بكثير مما هو متاح في إطار الحياة الطبيعية.
لكن وجهة نظر نايت كانت تقوم على أن عدم اليقين يتسم بقدر كبير من الجدة، التي تعني بحكم تعريفها غياب السوابق. ففي ذات اللحظة التي يكون الحاضر فيها في أدنى درجات التشابه مع الماضي، من غير المنطقي كثيراً النظر إلى الوراء بحثاً عن إشارات تدل على المستقبل. وفي أوقات عدم اليقين، نحن نصطدم بحدود التجربة، لذلك يجب أن ننظر إلى مكان آخر بحثاً عن طريقة تساعدنا في حسن إطلاق الأحكام. وهنا يأتي دور الاستشراف الاستراتيجي للمستقبل.
"عناصر غريبة تساعد التفكير"
في الولايات المتحدة الأميركية، يعود أصل الاستشراف الاستراتيجي للمستقبل إلى مؤسسة راند (RAND)، وهي عبارة عن معهد للأبحاث الفكرية أسسته القوات الجوية الأميركية في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وعوضاً عن أن يميط الباحثون في مؤسسة "راند" اللثام عن الغموض الذي يكتنف ملكة إطلاق الأحكام الصائبة، فإنهم استبدلوها بأدوات "عقلانية" للتحليل الكمي. وفي معرض سعيهم الحثيث لفهم المتطلبات العسكرية لعالم ما بعد الحرب، لم يكن بوسعهم أن يشيحوا نظرهم عن حقيقة أن الأسلحة النووية قد تسببت بإدخال تغيير جوهري على طبيعة الحرب. فقد كان هناك بلدان اثنان، هما الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي، اكتسبا القدرة على أن يدمر كل منهما الآخر كحضارة إنسانية فاعلة. وبما أنه لم يسبق لأي كان أن خاض حرباً نووية من قبل، لم يكن أحد يعلم الطريقة الفضلى لخوض هذه الحرب (أو تجنبها).
كان أحد محللي مؤسسة "راند" وهو عالم رياضيات يدعى "هيرمان كان" قد قارب مشكلة نهاية محتملة للعالم بشيء من الابتهاج جعلته نموذجاً لفيلم من إخراج ستانلي كوبريك بعنوان "الدكتور سترينجلوف" (Dr. Strangelove). أدرك "هيرمان كان" أن المحللين الاستراتيجيين العسكريين في عصر الذرة قد واجهوا عدم اليقين إلى درجة غير مسبوقة على الإطلاق. وقد كتب "كان" قائلاً: "ما تزال الحرب النووية بعيدة جداً عن تجربتنا (ومن المؤمل أن تظل كذلك)، إلى حد أنه من الصعب علينا الحكم عليها بناءً على حالات مشابهة من التاريخ أو توضيحها عبر هكذا نوع من الحالات التاريخية".
ثم انتقل "هيرمان كان" إلى طرح السؤال التالي: "كيف بوسع المحللين الاستراتيجيين العسكريين تطوير القدرة على إطلاق الأحكام الصائبة، وهذه قدرة أساسية للغاية لاتخاذ القرارات المتعلقة بالمستقبل الذي يتصف بعدم اليقين؟ كان هذا هو السؤال ذاته الذي طرحه نايت. لكن نايت، وخلافاً لكان، قدّم إجابة هي "التجربة البديلة". فما يحتاجه المتخصصون الاستراتيجيون برأيه هو "عناصر غريبة تساعد التفكير" على شكل عدة سيناريوهات مستقبلية متخيلة يمكن تطويرها عبر نماذج محاكاة مثل ألعاب الحرب وعملية رسم السيناريوهات.
في عام 1961، غادر "هيرمان كان" مؤسسة "راند" للمساعدة في تأسيس معهد "هدسون"، حيث طرح فكرته في نهاية المطاف على "بيير واك"، وهو تنفيذي من شركة شل الملكية الهولندية "رويال داتش شل".
في مطلع سبعينيات القرن الماضي، اشتهر واك بتطبيق أفكار هيرمان كان في عالم الأعمال، من خلال رسم سيناريوهات تساعد "شل" في التحضير لما قد يحصل بعد أن بدأت دول الشرق الأوسط الغنية بالنفط تثبت نفسها على المسرح الدولي. وعندما حصل التغيير، على هيئة صدمات في الأسعار نجمت عن الحظر النفطي من منظمة أوبك في عام 1973، كانت "شل" أقدر على تجاوز الأزمة من منافسيها. (في 1985، وثّق واك جهود "شل" في مقالتين نشرتا في هذه المجلة هما "السيناريوهات: الأحداث غير المسبوقة المنتظرة" و"السيناريوهات: مجاراة التيار السريع").
مثّلت التمارين التي نفذتها "شل" ولادة عملية "تخطيط السيناريوهات" كأداة استراتيجية يستعملها المدراء في الشركات. وفي السنوات اللاحقة، عدّل خلفاء واك في المنصب هذه المنهجية، ومضى مخططو السيناريوهات في "شل" ليصبحوا بعضاً من أبرز الباحثين والممارسين في هذا الميدان. ومع ذلك، فإن قلة فقط من المؤسسات التي طبقت تمارين تخطيط السيناريوهات في العقود القليلة الماضية أضفت عليها الطابع المؤسسي وحولتها إلى جزء من جهودها الأوسع لتطبيق الاستشراف الاستراتيجي للمستقبل.
أحد الاستثناءات النادرة هو مؤسسة خفر السواحل الأميركية التي تصف عملها في مجال تخطيط السيناريوهات على أنه جزء من "دورة التجدد الاستراتيجي". وعلى هذا النحو، فإنه يمثل نموذجاً يمكن للعديد من المؤسسات التعلم منه.
رب سائل عن مدى علاقة تجربة خفر السواحل بالشركات، لكنها في الحقيقة تمثل ما يطلق عليه علماء الاجتماع اسم "اختبار مسألة حاسمة". فبما أن مؤسسة خفر السواحل هي عبارة عن مؤسسة عسكرية الطابع، فإنها تتمتع بقدر أقل من المرونة بالمقارنة مع الشركات الخاصة، وهي تنفذ مهمة محددة بالقانون وتمتلك موازنة يحددها مجلس النواب "الكونغرس" الأميركي. لا بل أكثر من ذلك، فلفترة طويلة من الزمن، أجبرتها حاجتها إلى الرد يومياً على عدد هائل من المواقف – من السفن التي تحتاج إلى إغاثة إلى حظر دخول المخدرات – على التركيز شبه حصرياً على المدى القصير، الأمر الذي لم يترك لها هامشاً واسعاً لصياغة استراتيجية بعيدة المدى. إلا أنها تمكنت في السنوات الأخيرة من الاستفادة من عملية تخطيط السيناريوهات لصالحها، حيث أعادت توجيه المؤسسة بطريقة مستمرة نحو المستقبل. وهذا بدوره سمح لها بالتجاوب مع التغيرات المزعزعة والتكيف معها، ولا سيما تلك التي تلت الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول.
حماية مؤسسة خفر السواحل مما يخبئه لها المستقبل
في ذلك الصباح المأساوي، وجد آلاف الأشخاص أنفسهم عالقين في منطقة "جنوب مانهاتن"، حيث كانوا يائسين للهروب من الفوضى الحارقة التي كانت تلف المنطقة التي عرفت باسم "غرواند زيرو" أو "النقطة صفر" التي حصلت فيها الكارثة. ورغم أن بعضهم كان قادراً على السير في المنطقة صعوداً أو عبور الجسور، بعد أن أغلقها المسؤولون أمام المركبات، إلا أن الطريقة الفضلى لمغادرة الجزيرة كانت بحراً. لذلك، وخلال الساعات القليلة التالية، كان هناك أسطول مرتجل من العبّارات والقوارب والمراكب الخاصة وقوارب الإطفاء والشرطة قد نقل مجموعات من الناس بعيداً عن ركام مركز التجارة العالمي باتجاه المنطقة الآمنة عبر الماء.
رغم أن العديد من هذه المراكب كانت تعمل بمبادرة ذاتية، إلا أن جزءاً كبيراً من عملية الإخلاء كان بتوجيه من مؤسسة خفر السواحل التي كانت قد أطلقت نداء إلى "جميع القوارب المتاحة" ونسقت عملية المغادرة الفوضوية بقدر مذهل من رباطة الجأش والإبداع والكفاءة. وقد ذكّرت هذه الجهود العديد من الناس بقصص عمليات الإجلاء البريطانية عبر القنال الإنكليزي لمئات الآلاف من الجنود الذين كانت القوات النازية قد احتجزتهم في دونكيرك على الساحل الفرنسي.
لم يكن ارتقاء خفر السواحل إلى مستوى التحدي مفاجئاً. فرغم أن هذه المؤسسة تتولى مجموعة واسعة من المسؤوليات، تتراوح ما بين عمليات البحث والإنقاذ وحماية البيئة وأمن الموانئ، إلا أن الشعار الذي ترفعه هو "جاهزون دائماً"، وهي فخورة بالاستجابة للحالات الطارئة. وكما قال لي أحد الضباط المتقاعدين: "إن جوهر عملنا هو أنه عندما تطلق صفارة الإنذار، فإننا يجب أن ننطلق مباشرة ونتصرف".
لكن الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول كان في نهاية المطاف أكثر من مجرد تحد قصير الأمد. ففي أعقاب هذه الكارثة، وجد خفر السواحل مهماتهم تتوسع بسرعة. وفي غضون يوم، أوكلت إليهم مهمة تنفيذ تدابير أمنية متشددة جداً لضمان أمن الموانئ في أنحاء البلاد: ففي السابق، كان أمن الموانئ لا يشكل أكثر من 1% إلى 2% من عبء عملها اليومي، لكن هذه المهمة سرعان ما أصبحت تستهلك 50% إلى 60%. وفي مارس/ آذار 2003، دمجت مؤسسة خفر السواحل ضمن وزارة الأمن الداخلي الجديدة، وفي ذلك الشهر بالذات أوكلت إليها مهمة ضمان أمن الموانئ والممرات المائية في جميع أنحاء العراق، بعد الغزو الذي قادته أميركا. وفي السنوات اللاحقة، تضاعفت موازنة المؤسسة وتضخم حجمها ما آذن بفجر حقبة جديدة.
تكيفت مؤسسة خفر السواحل مع هذا المستقبل الجديد بسرعة، ويعود السبب في ذلك جزئياً إلى أنها كانت في أواخر تسعينيات القرن الماضي قد أنجزت تمريناً لتخطيط السيناريوهات أطلق عليه اسم "مشروع النظرة البعيدة"، الذي كان قد صُمم لمساعدة المؤسسة على التأقلم مع "بيئة عمل مستقبلية في غاية التعقيد وتتسم بتهديدات أمنية جديدة أو غير مألوفة". كان هدف هذه الخطوة عملياً هو حماية مستقبل خفر السواحل من المخاطر والتهديدات.
طبقت المؤسسة تمرين "مشروع النظرة البعيدة" في 1998 و1999 – ثم في 2003 استجابة لصدمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول وأعادت تسميته إلى "مشروع إيفرغرين" وبدأت تنفذه كل أربع سنوات. ومنذ ذلك الوقت، اعتمدت المؤسسة على "مشروع إيفرغرين" لمساعدة قادتها على التفكير والتصرف بطريقة استراتيجية.
استراتيجية متينة – مهما كان المستقبل يخبئ لنا
عندما قررت إدارة خفر السواحل إطلاق "مشروع النظرة البعيدة" استعانت بمجموعة "فيوتشرز استراتيجي غروب" (Futures Strategy Group)، التي تعرف اختصاراً باسم "إف إس جي" (FSG)، وهي عبارة عن مؤسسة استشارية متخصصة بتخطيط السيناريوهات. وبحسب رأي "إف إس جي" فإن عدم اليقين يمنع إمكانية التنبؤ لكنه يتطلب التوقع – كما أن استكشاف السيناريوهات المستقبلية المنطقية بطريقة معتمدة على الخيال وصارمة يمكن أن يسهل عملية اتخاذ القرار.
تمكنت إدارة خفر السواحل من خلال عملها مع "إف إس جي" من تحديد أربع قوى تغيير ستترك أثراً كبيراً على مستقبلها ألا وهي: دور الحكومة الفيدرالية، وقوة الاقتصاد الأميركي، وخطورة التهديدات التي تطال المجتمع الأميركي، والطلب على الخدمات البحرية. ومن خلال استكشاف الفريق لهذه القوى وتطلعه إلى 20 سنة للأمام، توصل إلى 16 "عالماً في المستقبل البعيد" قد تضطر مؤسسة خفر السواحل إلى العمل فيها. واختار قادة خفر السواحل 5 منها كان كل واحد منها يتمتع بأكبر قدر ممكن من التميز عن الآخر (وإن كان محتمل الحدوث بذاته)، وهي كانت تمثل طيف البيئات التي قد تواجه المؤسسة. ثم كتبت "إف إس جي" توصيفات مفصلة لهذه السيناريوهات المستقبلية والأحداث الخيالية التي قادت إليها.
مُنح كل "مستقبل" منها اسماً يفترض بها تمثيل جوهره. فقد وصف سيناريو "السيطرة على المياه" مستقبلاً يعاني فيه الاقتصاد الأميركي وسط حالة من التدهور البيئي. وفي مستقبل متخيل آخر بعنوان "سلام أميركا" كانت الولايات المتحدة الأميركية المتواضعة مضطرة إلى القبول بعالم مفعم بعدم الاستقرار والكوارث الاقتصادية. أما "مشروع الأرض" فهو مستقبل تهيمن عليه الشركات الكبرى العابرة للحدود. ويتميز "الطريق الأميركي السريع" بتكتلات تجارية إقليمية متمحورة حول الدولار واليورو. وحذر سيناريو "بلقنة أميركا" بشيء من روح التنبؤ من عالم مقسّم "يضرب فيه الإرهاب بوتيرة مرعبة مع تزايد اقتراب هذه الضربات من الداخل الأميركي".
عقدت إدارة خفر السواحل ورشة عمل على مدار ثلاثة أيام لمناقشة هذه السيناريوهات، وكانت "إف إس جي" هي من أدار الجلسة. وكلفت فرق من المدنيين والضباط بدراسة عوالم مستقبلية مختلفة، وأوكلت إليها مهمة وضع استراتيجيات لتمكين خفر السواحل من العمل بطريقة فعالة ضمنها. في نهاية ورشة العمل، قارنت الفرق بين النتائج التي توصلت إليها. اعتبرت الاستراتيجيات التي ظهرت مراراً وتكراراً لدى الفرق المختلفة "متينة". وفي التقرير النهائي لمنظمي "مشروع النظرة البعيدة" حدد هؤلاء 10 من هذه الاستراتيجيات، التي تتراوح ما بين إنشاء هيكلية قيادة أكثر توحداً وتطوير نظام للموارد البشرية يتمتع بقدر أكبر من المرونة لإنشاء "رصد كامل للمجال البحري" – وهو بحسب تعريف خفر السواحل "القدرة على الاستحواذ على أي مركب أو طائرة يدخلان المجال البحري لأميركا وتتبعهما وتحديدهما بصورة آنية". وعلى حد رأيهم، فإن هذه الاستراتيجيات كلها سوف تساعد خفر السواحل في تنفيذ مهامهم، بغضّ النظر عما يخبئه لهم المستقبل.
لم يكن أي من هذه الاستراتيجيات مستجداً. لكن "مشروع النظرة البعيدة" سمح للمشاركين بالتفكير فيها بطرق جديدة أثبتت أهميتها الشديدة في عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول. في الحقيقة، سمح المشروع لخفر السواحل باختبار الاستراتيجيات تحت الضغط في إطار مجموعة من السيناريوهات المستقبلية المنطقية، معطين الأولوية للأكثر وعداً بينها، ومطلعين القادة عليها لتصبح مألوفة لديهم – وكان هذا يعني أن المؤسسة التي وجدت مهمتها قد تغيرت تغيراً جذرياً بعد الهجمات كانت قادرة على التجاوب بسرعة.
لم يكن إطلاق "مشروع النظرة البعيدة" ومن ثم إنشاء "عملية إيفرغرين" كعملية مستمرة بالأمر السهل. فقد احتاج ذلك إلى قيادة تتمتع بقوة استثنائية – وتحديداً من العميدين البحريين جيمس لوي وثاد آلين. كما واجه البرنامج أيضاً تحديات في تطبيق الأفكار؛ إذ إن ثمة فرق بين الاستشراف الاستراتيجي للمستقبل والتنفيذ الاستراتيجي. أما بعد إنشاء البرنامج، فقد اكتسب زخماً كبيراً، ويعود الفضل في ذلك جزئياً إلى تزايد أعداد الخريجين من الكوادر الذين أدركوا قيمة العلاقة الديناميكية بين الحاضر والمستقبل. وبذلك تمكنت خفر السواحل من مأسسة الخيال.
الاستكشاف يساعد على الاستغلال
لم يكن "مشروع النظرة البعيدة" و"عملية إيفرغرين" مصممين لإحداث تحول شامل في أرجاء المؤسسة والانتقال من التركيز على الجوانب التشغيلية إلى التركيز على الجوانب الاستراتيجية، أو تدريب خفر السواحل على تركيز انتباههم بصورة أساسية على المدى البعيد. بل كان الهدف هو دفع عناصرها إلى التفكير في المستقبل بطريقة تحسّن قدرتهم على العمل في الحاضر وتشكّل أساساً لفهمه.
لم يكن ذلك بالتحدي الصغير. فالباحثون في مجال الإدارة كانوا قد ذكروا منذ وقت طويل إن بقاء المؤسسات على قيد الحياة وازدهارها يتوقفان على مدى استغلالها لكفاءاتها الحالية واستكشافها لكفاءات جديدة. فهي بحاجة إلى أن تكون بارعة في المحاربة على هاتين الجبهتين في الوقت ذاته.
تكمن المشكلة في أن هذين الشرطين يتنافسان على الموارد، ويتطلبان طريقتين متمايزتين في التفكير، ويحتاجان إلى بنى مؤسسية مختلفة. وفعل الأول يصعّب فعل الثاني. كما أن القدرة على المحاربة على جبهتين دفعة واحدة تتطلب من المدراء حل هذا التناقض نوعاً ما.
ساعد "مشروع النظرة البعيدة" و"عملية إيفرغرين" قادة مؤسسة خفر السواحل في إنجاز تلك المهمة. لكن البرنامجين لم يقللا من قدرة المؤسسة على الانتباه إلى الحاضر. بل إن كان من شيء فهو أن العكس قد حصل. فالاستكشاف ساعد على الاستغلال.
وفي لقاء أجريته مع عناصر في مؤسسة خفر السواحل في إطار أبحاثي، أفادوا إن "مشروع النظرة البعيدة" و"عملية إيفرغرين" أنجزا هذه المهمة بعدة طرق. فعلى المستوى الأكثر صراحة، حدد المشروعان الاستراتيجيات التي اتبعتها مؤسسة خفر السواحل بعدها. لنأخذ على سبيل المثال رصد المجال البحري. فقد أوضحت السيناريوهات لقادة مؤسسة خفر السواحل أنه في أي من هذه السيناريوهات المستقبلية المحتملة الحدوث، هم يرغبون أن تكون لديهم القدرة على تحديد أي مركب موجود في المياه الأميركية وتعقبه. ورغم أن هذه الحاجة تبدو من الحاجات الواضحة، إلا أنها لم تكن من القدرات التي تتمتع بها هذه المؤسسة في تسعينيات القرن الماضي. وكما شرح عميد بحري متقاعد "كان يمكن للسفن أن تقترب حتى مسافة 10 أميال أو حتى ثلاثة أميال عن ساحل الولايات المتحدة الأميركية، ولم نكن قادرين على معرفة ذلك". كان السبب في ذلك جزئياً هو أن الوكالات الأميركية لم تكن لديها أنظمة متكاملة لجمع المعلومات وتوزيعها.
ورغم أن خفر السواحل لم تكن لديهم البنية التحتية التنظيمية والتكنولوجية لرصد كامل المجال البحري بشكل فوري، إلا أن "مشروع النظرة البعيدة" أدى إلى توافق في الآراء حول قيمتها بين صفوف كبار القادة، الأمر الذي ساعد المؤسسة على تطبيقها بسرعة أكبر بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول. في واقع الأمر، قاد قبطان خفر السواحل الذي أدار "برنامج إيفرغرين" الجهود الرامية إلى تحقيق التكامل بهدف تطوير أول استراتيجية وطنية للأمن البحري، أدت في نهاية المطاف إلى إنشاء النظام الوطني للتعرف التلقائي، وهو نظام للإرسال والاستقبال خاص بالسفن.
كما ساعدت الاستراتيجيات المنبثقة عن تمارين تخطيط السيناريوهات العناصر الذين شاركوا فيها في التصرف بطريقة تنطوي على وعي أكبر بالاحتياجات المستقبلية للمؤسسة. فعلى سبيل المثال، أكدت النسخة الأولى من "برنامج إيفرغرين" على أهمية بناء شراكات استراتيجية في داخل البلاد وخارجها. وبناء على ذلك، تهيأ أحد قادة خفر السواحل لمواجهة التهديدات التي قد تظهر في المحيط الهادئ من خلال تطوير العلاقات الثنائية مع الدول المؤلفة من جزر هناك؛ وتبادل المعلومات وتنسيق الدوريات وإقامة المناورات المشتركة مع النظراء في الصين، وروسيا، وكندا، وكوريا الجنوبية، واليابان؛ والعثور على طرق للعمل عن كثب مع الوكالات الأميركية الأخرى، سواء مكتب التحقيقات الفيدرالية، أو الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي.
وعلى المستوى الأساسي البحت، أسهم "مشروع النظرة البعيدة" و"عملية إيفرغرين" ببساطة في دفع عناصر المؤسسة إلى التفكير أكثر في المستقبل. يصف أحد كبار ضباط الاحتياط في خفر السواحل كيف غير "برنامج إيفرغرين" طريقة تفكيره، عبر التطرق إلى محادثة خاضها مع أحد الزملاء قائلاً: "كنا نتحدث أنا وهو هذا الصباح في مكتبي وتساءلنا: "بعد خمسة وعشرين عاماً من اليوم، كيف سيكون شكل قوات الاحتياط في خفر السواحل؟"" فقبل انضمامه إلى "برنامج إيفرغرين"، على حد رأيه، "لم أكن أفهم كيف أفكر بهذه الطريقة".
بيد أن الجانب الأكثر لفتاً للانتباه ربما – والأهم في حل التناقض المفترض بين الاستكشاف والاستغلال – هو الطريقة التي ساعد بها "مشروع النظرة البعيدة" و"عملية إيفرغرين" المشاركين في فهم متطلبات الماضي والمستقبل ليس بوصفها متنافسة وإنما متكاملة. فقد غيرت التمارين من الطريقة التي نظر بها المشاركون إلى الوقت.
يتبنى الشكل الأفضل لتخطيط السيناريوهات مفهوماً غير خطي للزمن بكل وضوح. وهو يعامل التفكير في المستقبل بوصفه عنصراً أساسياً في اتخاذ القرار في الوقت الحاضر.
يميل البشر للنظر إلى الوقت بوصفه خطياً وأحادي الاتجاه، بحيث يتحرك من الماضي إلى الحاضر وبحيث يكون كل إطار زمني مميزاً عن غيره. نحن نتذكر الأمس؛ ونعيش اليوم؛ ونتوقع الغد. لكن الشكل الأفضل لتخطيط السيناريوهات يتبنى مفهوماً غير خطي للزمن بكل وضوح. وهذا ما فعله "مشروع النظرة البعيدة" و"عملية إيفرغرين": فقد أحصيا الاتجاهات التي كانت سائدة في الماضي، وقفزا عدة سنوات إلى المستقبل، ووصفا العوالم المحتملة التي يمكن لهذه المحفزات أن توجدها، ثم عملا من المستقبل إلى الحاضر لوضع القصص المتعلقة بالكيفية التي تحققت بها هذه العوالم، ثم عملا من الحاضر إلى المستقبل مجدداً لوضع استراتيجيات متينة. في هذا النموذج، تدور الدوائر الزمنية في حلقة تغذية راجعة دائمة الارتقاء بين الحاضر والمستقبل. بكلمة واحدة هذه عبارة عن حلقة أو دائرة.
عندما بدأ المشاركون ينظرون إلى الزمن كحلقة أو دائرة، فهموا أن التفكير في المستقبل هو عنصر أساسي في اتخاذ القرار في الوقت الحاضر. فقد منحتهم السيناريوهات هيكلية أو بنية عززت قدرتهم على أن يكونوا استراتيجيين، على الرغم من حالة عدم اليقين الهائلة. وقد اتضح أن عناصر خفر السواحل وفي معرض اتخاذ القرار يجب ألا يتعلموا من تجارب الماضي فحسب، وإنما أيضاً من السيناريوهات المستقبلية المتخلية.
كيفية البدء
يمكن لفكرة تنظيم تمرين لرسم السيناريوهات أن ترهب الأشخاص الذين لم يبدؤوا بعد. وثمة منافع بارزة من الاستعانة بأحد الأفراد أو المكاتب الاستشارية أو حتى الشركات المتخصصة في رسم السيناريوهات للمساعدة في التوجيه وتقديم الإرشادات المفيدة. وبغضّ النظر عن هوية الشخص الذي يدير العملية، يجب على المدراء اتباع المبادئ الإرشادية الرئيسية التالية:
وجّهوا الدعوة إلى الأشخاص المناسبين للمشاركة. أحد الأغراض الأساسية لتمرين رسم السيناريوهات هو تحدي النماذج الذهنية الخاصة بالكيفية التي يسير بها العالم. ولكي توجدوا الظروف المواتية للنجاح، فإنكم ستكونون بحاجة إلى جمع شمل مشاركين يتولون أدواراً مؤسسية مختلفة ولديهم وجهات نظر وتجارب مختلفة اختلافاً كبيراً. كما ستكونون بحاجة أيضاً إلى أناس يمثلون ما وصفه "كيس فان دير هايجدن"، وهو أحد الأشخاص الذين خلفوا "واك" في منصبه في "شل"، بالقوى الثلاث الضرورية لأي حوار فاعل حول الاستراتيجية ألا وهي: قوة الإدراك، وقوة التفكير، وقوة التصرف.
حددوا الافتراضات، والمحفزات، وحالات عدم اليقين. من الأهمية بمكان أن تعبّروا صراحة عن الافتراضات في استراتيجيتكم الحالية، وعن شكل المستقبل الذي تتوقعون أن ينتج عن تطبيقها. فكّروا في هذا السيناريو بوصفه السيناريو الذي تتوقعونه – لكنكم يجب أن تدركوا أنه ليس أكثر من أحد السيناريوهات العديدة المحتملة، وأن تركزوا على تحديد أي من الافتراضات من المفيد إعادة النظر فيها. ينصح رافائيل راميريز، الذي يقود "برنامج أكسفورد للسيناريوهات" (Oxford Scenarios Programme)، عند إنجاز هذه المهمة بفصل القوى الفاعلة، التي بوسعكم التأثير فيها والسيطرة عليها، عن القوى الظرفية، التي ليس بوسعكم التأثير فيها والسيطرة عليها. كيف يمكن لهذه القوى أن تجتمع معاً لإنشاء سيناريوهات مستقبلية مختلفة ممكنة؟
تخيلوا سيناريوهات مستقبلية منطقية لكنها تختلف اختلافاً جذرياً. يمكن أن يكون ذلك هو الجزء الأصعب من التمرين، ولاسيما بالنسبة للمعتادين على نماذج التفكير الأكثر اعتماداً على التحليل. اجبروا أنفسكم على تخيل كيف سيكون شكل المستقبل بعد 10 سنوات أو 20 سنة حتى – دون الاكتفاء ببساطة بالاستقراء بناء على الاتجاهات السائدة في الوقت الحاضر. يتخذ ذلك درجة عالية من الإبداع ويحتاج أيضاً إلى القدرة على إطلاق الأحكام الصائبة للتمييز، كما يقول خفر السواحل، بين سيناريو يدفع حدود المنطق ويوسعها وسيناريو يتجاوز المنطق كثيراً ويشط عنه – وهي مهمة ذاتية بطابعها المتأصل. وبوسع الميسرين الجيدين تحفيز الخيال والالتزام بضوابط المنطق في الوقت ذاته.
عيشوا هذه السيناريوهات المستقبلية. يكون تخطيط السيناريوهات المستقبلية في أقصى درجات الفاعلية عندما يكون تجربة غامرة. وغالباً ما يكون صنع "أشياء لها علاقة بالمستقبل"، مثل المقالات الصحفية الخيالية أو حتى مقاطع الفيديو الخيالية مفيداً في تحدي النماذج الذهنية الحالية. كما أن فكرة فصل المشاركين عن الحاضر هي فكرة جيدة، لذلك يفضل عقد ورش العمل خارج مقر المؤسسة المعنية وإثناء الناس عن استعمال الهواتف المحمولة فيها.
اعزلوا الاستراتيجيات التي ستكون مفيدة في عدة سيناريوهات مستقبلية ممكنة معاً. كوّنوا مجموعة من الفرق بحيث تعيش في كل واحد من هذه العوالم المستقبلية البعيدة وامنحوها التحدي التالي: ما الذي يجب عليها فعله الآن وسيمكننا من العمل بطريقة أفضل في ذلك السيناريو المستقبلي المحدد؟ اخلقوا جواً يمكن فيه حتى للمشاركين الأحدث عهداً طرح الأفكار دون تردد. بعد أن تضع المجموعات الاستراتيجيات الخاصة بعوالمها، اجمعوهم معاً لتبادل الملاحظات. ابحثوا عن النقاط المشتركة، واعزلوها بوضوح وحددوا الخطط والاستثمارات التي ستكون معقولة في عدد من السيناريوهات المستقبلية.
نفذوا هذه الاستراتيجيات. قد يبدو هذا الأمر واضحاً، لكنه المكان الذي تفشل فيه معظم الشركات. فاستعمال تقنية تخطيط السيناريوهات لوضع الاستراتيجيات لا يحتاج إلى الكثير من الموارد، لكن وضعها موضع التطبيق يستدعي الالتزام. وإذا ما أراد القادة الجمع بين الاستشراف الاستراتيجي للمستقبل والفعل، فإنهم بحاجة إلى إنشاء نظام رسمي يجب فيه على المدراء أن يشرحوا صراحة كيف ستسهم خططهم في تحسين الاستراتيجيات الجديدة للشركة. وعلى أرض الواقع، لن يكون الاستشراف الاستراتيجي للمستقبل محفزاً لكل مبادرة، لكن تمارين وضع السيناريوهات يمكن أن تظل مفيدة بعدة طرق. أولاً، هي قادرة على تزويد المشاركين بلغة مشتركة للحديث عن المستقبل. ثانياً، يمكنها حشد الدعم لصالح الفكرة ضمن المؤسسة بحيث عندما تتضح الحاجة إلى التنفيذ، سيكون بالإمكان إنجازه بسرعة أكبر. أخيراً، بمقدورها تمكين المشاركين من التصرف على مستوى الوحدة، حتى لو أخفقت المؤسسة برمتها في الربط بين الحاضر والمستقبل بالشكل الوثيق المطلوب.
رسخوا العملية. على المدى البعيد، سوف تجنون أفضل الثمار من تمارين وضع السيناريوهات من خلال تأسيس دورة قائمة على التكرار – أي عملية توجه مؤسستكم بصورة متواصلة نحو المستقبل مع إبقاء إحدى العينين مفتوحة على الحاضر، والعكس صحيح. سوف تسمح لكم هذه القدرة على العمل على جبهتين في الوقت ذاته بالازدهار في السراء – وهي أساسية أيضاً للبقاء في الضراء. والانتقال ضمن حلقة بين الحاضر وعدة سيناريوهات مستقبلية متخلية يساعدكم في تعديل استراتيجيتكم باستمرار وتحديثها.
مسرد مصطلحات المستقبل
يحتاج التعامل مع حالة عدم اليقين التي يتصف بها المستقبل إلى أدوات عديدة، بعضها ينطوي على وظائف غير مألوفة أو متداخلة حتى. ولتجاوز حالة الإرباك، فيما يلي دليل موجز:
التوقع الرجعي: تطلب هذه التقنية من المشاركين العمل انطلاقاً من لحظة زمنية في سيناريو مستقبلي محدد والعودة إلى اللحظة الحالية للتحقق مما تسبب في ظهوره في الوقت الحاضر. وغالباً ما تُستعمل هذه الممارسة لرسم مسار إلى سيناريو مستقبلي مفضل، ويمكن استعمالها أيضاً لتجنب الخطوات نحو سيناريو مستقبلي سلبي. فتقنية "سوابق الموت"، على سبيل المثال، تهدف إلى تحديد أسباب فشل سيناريو مستقبليي افتراضي.
التخطيط للطوارئ: تساعد هذه التقنية في عملية اتخاذ القرار من خلال تحضير المشاركين لأحداث محددة تُعتبرُ ممكنة أو حتى مرجحة. وتعتبر خطة الطوارئ بمثابة دليل عمل يمكن الرجوع إليه في الحالات الطارئة.
محاكاة الأزمة وتمارين التخطيط المسبق للأزمات: هاتان تقنيتان تتطلبان من المشاركين التجاوب مع سيناريوهات محددة ومن ثم تحليل تصرفاتهم، لمساعدة الناس في التحضير لأوضاع حقيقية. وهي تختلف عن "ألعاب الحرب" من حيث إنها تتضمن سيناريوهاً لمستقبل محدد وممكن عوضاً عن مجموعة من السيناريوهات المستقبلية المعقولة.
توقع المستقبل: يشمل توقع المستقبل وضع تنبؤات احتمالية بخصوص المستقبل، وهو بذلك أداة يميل ممارسو الاستشراف الاستراتيجي للمستقبل إلى تجنبها. لكنها هي الأخرى لها مكانها في مساعدة واضعي الاستراتيجيات على التعامل مع عدم اليقين، وإضافة زاوية كمية إلى الطرق الكيفية أو النوعية التي يفضلها مستعملو تقنية تخطيط المستقبل، مثلاً. والمقاربة الفضلى هي التالية: تنبأ بما تستطيع التنبؤ به؛ وتخيل ما لا تستطيع التنبؤ به، وطور ملكة الحكم على الأمور لمعرفة الفرق.
مسح الأفق: تطلب هذه التقنية من المشاركين البحث عن "الإشارات الضعيفة" الدالة على التغيير في الحاضر مع إبقاء العين عليها لرصد تطورها وتقويم أثرها المحتمل. تستند هذه الممارسة إلى فكرة أن المستقبل غالباً ما يتجلى في المواضع التي لا ينتبه إليها معظمنا، مثل المجلات العلمية المتخصصة.
تخطيط السيناريوهات: تستعمل هذه التقنية القصص الخاصة بالسيناريوهات المستقبلية البديلة لتحدي الافتراضات وإعادة صياغة تصورات الحاضر. ولا تحاول هذه العملية التنبؤ بالمستقبل وإنما تهدف إلى استكشاف السيناريوهات المستقبلية المعقولة لتكون أساساً في صياغة الاستراتيجية.
تحليل الاتجاهات: تطلب هذه التقنية من المشاركين دراسة النفوذ المحتمل لأنماط التغيير الظاهرة حالياً. ومن المقاربات المنظمة الشائعة ما يسمى باللغة الإنكليزية "إطار (STEEP)" الذي يقسم أنماط التغيير إلى خمس فئات هي: الاجتماعية والتكنولوجية والاقتصادية والبيئية والسياسية.
ألعاب الحرب: تطلب هذه التقنية من المشاركين الانخراط في نزاع افتراضي مع خصم في تمرين للمحاكاة، غالباً بهدف استكشاف ردود الأفعال تجاه الظروف المستجدة. وكما هو حال تخطيط السيناريوهات، فإن ألعاب الحرب لا تحاول التنبؤ بما سيحصل، وإنما تحاول إسقاط ما يمكن أن يحصل، ما يساعد على فهم عملية اتخاذ القرار. وعلى الرغم من اسم هذه التقنية، إلا أن ألعاب الحرب يمكن أن تتناول أكثر من مجرد الجوانب العسكرية للنزاع.
النقطة الأخيرة حاسمة. فكما أوضحت الجائحة الحالية، فإن الاحتياجات والافتراضات يمكن أن تتغير بسرعة وبطريقة لا يمكن التنبؤ بها. وبالتالي، فإن التحضير للمستقبل يتطلب إعادة تقويم دائمة. يتطلب الاستشراف الاستراتيجي للمستقبل – أي القدرة على إدراك ما يحصل، وتحديد شكله، والتأقلم معه – عملية استكشاف ذات طابع متكرر، سواء عبر تقنية تخطيط السيناريوهات، أو باستعمال منهجية أخرى. (راجعوا الفقرة التي تحمل عنوان "مسرد مصطلحات المستقبل" في الصفحة 34). فمأسسة عملية التخيل فقط هي التي تسمح للمؤسسات بإنشاء عملية أخذ وعطاء مستمرة بين الحاضر والمستقبل. وإذا ما استعملت تقنية تخطيط السيناريوهات وغيرها من أدوات الاستشراف الاستراتيجي للمستقبل بهذه الطريقة الديناميكية، فإنها تسمح لنا برسم خارطة بالأحداث الدائمة التحول.
بطبيعة الحال، يمكّننا الاستشراف الاستراتيجي للمستقبل أيضاً من تحديد الفرص، ومن تعزيز قدرتنا على اغتنامها. فالمؤسسات لا تكتفي بالتحضير للمستقبل فحسب، وإنما هي تصنعه. ولحظات عدم اليقين تحمل في طياتها قدرات ريادية كامنة عظيمة. وكما كتب "واك" ذات مرة على صفحات هذه المجلة: "في هذه السياقات بالضبط – وليس في أوقات الاستقرار – تكمن الفرص الحقيقية لكسب الميزات التنافسية عبر الاستراتيجية".
يحتاج الوقوف في وجه طغيان الحاضر والاستثمار في الخيال إلى قوة. والاستشراف الاستراتيجي للمستقبل يجعل الأمرين ممكنين، وهو يمنح القادة الفرصة ليتركوا وراءهم إرثاً يفخرون به. ففي نهاية المطاف، هم لن يُحكم عليهم بناء على ما يفعلونه اليوم فحسب، وإنما بناء على مدى نجاحهم في رسم معالم الطريق التي تقود نحو الغد.